السبت، 31 ديسمبر 2016

عن أناس سقطوا من الجنّة

كنت أشعر بخذلان، وخوف، ونفور من الحياة. كان كلّ شيء يبدو فارغًا ورماديًا، وكنت أحاول ما أستطيع بما تبقّى من قوّة.

 إحدى محاولاتي كانت ذلك الّذي كتبته وذهبت به إلى مركز التّدقيق اللغويّ عندنا في الجامعة. كان منفذًا، وكنت أحتاج أن يكون مثاليًا حد تدقيقه من قبل مختصّين. ذهبت هناك وأنا ما أتوقّع الكثير، عشر دقائق من المراجعة السّريعة، إضافة فاصلة، إزالة كلمة، وهكذا. دخلتُ فحيّتني بوجه طلق وترحيب أشعرني براحة ما أشعر بها عادةً في الجامعة. طلبت منها قبل أن نبدأ أن تعطيني رأيها فيما تقرأ، لا أن تكتفي بالمراجعة اللّغويّة، ورحّبت بذلك. كان المكتوب الّذي حملته إليها ينبغي أن يكون عنّي، وعن أشياء تتعلّق بي. عندما جلَسنا، وقبل أن نبدأ، أخبرتها عرَضًا -وأنا أشرح عمّا يتحدّث هذا الّذي كتبته- بمعلومة ما، تتعلق بمكان ما، كانت هي ذاتها تنتمي إليه. اختلفت آراؤنا حولها، كانت مصممّة على رأي وكنت مصمّمة على آخر، فأشارت إليّ  فجأة، وأنا لمّا أكمل الشّرح، بأن أنتظر، ثم اتصلت على قريبة لها لتتأكّد من رأيها المخالف لرأيي حول الموضوع. اتصلت بها على مسمع منّي، وتبيّن أنها هي المصيبة لا أنا. ضحكت من العفويّة التي تصرّفَت بها والطريقة الّتي توصّلت بها لحل حاسم.. واعترفت بالهزيمة. كانت لطيفة جدًا، ودقيقة جدًا، وتريد أن تساعدني بكلّ ما تملك من خبرة وفهم بحرفيّة بالغة، وأنا لم أقابلها في حياتي إلّا منذ عشر دقائق. كانت تعليقاتها تنمّ عن خبرة طويلة وذكاء عالٍ وحبّ غير مسبوق للعطاء والإخلاص في العطاء. كانت تريدني أن أكون الأفضل. 

قرأت ما قرأت، وكانت تستفسر كلّ مرّة عمّا كنت أكتب. يحصل أن أبدأ في الشرح وأستفيض، وعندما أنسجم حدّ أنني أتساءل عن سكوتها الطّويل في خضمّ استرسالي في الشّروح، ألتفت إليها فأراها تتّكئ على يدها وعلى وجهها نظرة مضحكة. أسكت. تقول: خلصتي؟ أجيب: إيوة. قبل أن تبدي رأيها في ما كنت أقول، أخبرتني أنها مختصّة في علم النّفس أصلًا، وأنها تقدّم استشارات، وأنّه من حسن حظّي أنها كانت هي المدقّقة في هذا الموعد بالذّات لا سواها. أخبرتني أنني لا أتعامل مع نفسي بما يليق، وأنّه ينبغي أن أغيّر ذلك، وعليه عليّ أن أغيّر النّصف الثّاني مما كتبت. كانت تقول أنّها تؤمن بأنّه يمكنني أن أكتب شيئًا يبرق أكثر، ويخبر عنّي أكثر، وأحتفي فيه بنفسي أكثر. كانت تريدني أن أظهر فيما أكتب، وأن أشير على نفسي فيه صراحةً، وأنسب لنفسي ما فعلت. لم أكن أؤيدها في قرارة نفسي، لا أحبّ أن أبدو بالطّريقة التي كانت تريدني أن أظهر بها، رغم أنني أعرف أنها، بطريقةٍ ما، في ذاك السّياق بالذّات، كانت محقّة. كنت معطوبة ومفتّتة، وكانت تحاول أن تلملم أجزائي وتجعلها تبدو ذات معنى. أخرجَت ورقة، وكتبت فيها ما تظنّ أنّه ينبغي أن يكون. كتبَت ما تقصده فكرة فكرة، وتحت كلّ فكرة مثال. خطّها جميل، تكبر الحروف وتصغر وتستدير وتتّصل ببعضها بجمال وانسياب يليق بكاتبة محترفة. 

عندما كتبتُ اسمي في ورقة التّقييم، سألتني إن كنت أعرف فلانة، أو فلانة، وتوصّلنا في النّهاية إلى قرابة تجمعنا. كان ذلك مدهشًا ومضحكًا. هذه الكائنة الجميلة المحترفة كانت يومًا ما في إحدى الأفراح العائليّة الكبيرة لا ريب! عندما انتهينا، أخبرتني أنّ الورقة التي كتبتُها هي أفضل ما استقبلته في هذا المركز على الإطلاق، وكنت أضحك خجلًا ودهشة، ثمّ غمرتني بأمنياتها الطّيبة ودعواتها الخالصة بأن يمضي الأمر وفق ما أحب. كنت أقول كعادتي حينما يفيض الامتنان: مرّة شكرًا، وتردّ بلطف بالغ، وهي تحاكي طريقتي في نطق الكلمة: مرّررة عفوًا! خرجتُ بنفس متجدّدة، وابتسمت طيلة الطريق من المركز إلى السّيارة، ومن السّيارة إلى البيت. أدرك، وأنا أراجع الموقف مع نفسي، أنني كنت قد مكثت معها ساعتين، يا إلهي.. ساعتين! والموعد كان ينبغي أن يكون ربع ساعة. أخبرتني خلال الموعد أنّها ستعتذر قبل الرّابعة لأنّ عندها موعد آخر، ولكنّها، عندما حان الوقت، أجرت اتّصالًا لتعتذر عن موعدها الآخر. أنا لا زلت أعجب من ذاك الكرم وذاك اللّطف الذي فاضت به عليّ رغم أنّه كان اللقاء الأوّل.

عدت ومحوت النّصف الثّاني كلّه، وتتبعت تعليماتها. أخرجت الورقة ووضعتها أمامي. كتبت، كتبت كثيرًا، وكنت راضية أكثر ألف مرّة عمّا كتبته قبلًا. كنت سعيدة أنني صرت قادرة على إخراج ذاك الذي ما فلحت في إخراجه من داخلي إلى الورقة قبل أن أراها. تلك المرأة الجميلة حرّكت فيّ أشياء، لقد نجحت فعلًا.

في اليوم الثّاني، اكتشفت حينما وصلت الجامعة أن محاضراتي كلّها ملغيّة. لم أتحسّر، لأنّ موعدي مع المدقّقة كان يهمّني. ذهبت إلى غرفة التّدقيق، ونظرت إلى ورقة المواعيد، ووجدت أنّ مواعيدها كلّها محجوزة فضلًا عن تأخّر وقتها. ذهبت إلى مكتبها وكان مقفلًا. يوه! لم أكن أريد غيرها. قرّرت أخيرًا أن أذهب لمن أجد موعدها شاغرًا بحكم فراغي، ومن ثمّ أريه مدقّقتي الأولى بعد تعديله اللّغويّ لآخذ رأيها على عجالة. ذهبت إلى المركز وكانت هناك فتاة في أواخر عشرينيّاتها جالسة هناك. سألتها إن كان هناك موعد شاغر فوريّ، وأخبرتني أن هناك اسم مسجّل، ولكن ما دامت صاحبته لم تأتِ فيمكنها أن تبدأ هي معي. بدأَت بقراءة النّصف الثّاني الّذي كتبته في اليوم السابق، وتوقّفَت عند الفقرة الأولى الّتي تحدّثتُ فيها عن حبّي للأدب العالمي. سألتني: هل تحبّين الأدب العالميّ فعلًا؟ وخضنا نقاشًا طويلًا حول كُتّابنا المفضّلين ورواياتنا المفضّلة. تبيّن لي في خضمّ النقاش أن هذه الآنسة الجميلة تركيّة درست الأدب العالمي في مرحلتي البكالوريوس والماجستير في تركيا، وأنّ رسالتها كانت عن الأدبّ الروسيّ تحديدًا، وأخبرتني أن أمها وأباها أيضًا متخصّصان في الأدب الرّوسيّ. كانت تحبّ الأدب اللّاتينيّ كما كنت أفعل، واشتركنا في حبّ بعض الكتّاب الآخرين من بلدان أخرى. كنّا مندهشتين وسعيدتين. كنت مندهشة من إيجاد كلّ هذه الدّهشة في الجامعة التي اعتدت أن أكرهها واعتادت أن تلفظني. كانت في خضمّ النقاش تأخذ لابتوبّي منّي وتفتح نوافذ في جوجل كروم، لتبحث عن اسم كاتب أو آخر، وتوصية لكتاب أو آخر، مرّة بالإنجليزيّة ومرة بالتّركيّة، وكنت أسجّل كل ذلك.. وعندما كنت أخبرها عن أسماء لا أعرف إلى أيّ بلاد ينتمي أصحابها، كانت تعرف جنسيّة الكاتب من صوت الاسم الذي أنطقه، وحصل ذلك أكثر من مرّة. كانت تعرف كلّ شيء.

امتدّ لقاؤنا لساعتين بدلًا من ربع ساعة تحدّثنا فيه عن كلّ شيء ممكن، ابتداءً بالأدب وانتهاءً بحقوق المرأة. ذهبت بعدها إلى مكتب مدقّقتي الأولى بناء على طلبها برؤية ما كتبت بالأمس. لم أكن متأكّدة مما كنت أفعل. أذكّر نفسي بطلبها وأحمل نفسي وأذهب للمرّة الثّانية. عندما رأتني أخبرتني بأنها سوف تلحقني إلى المركز لترى ما كتبت، رغم أنه ما كان موعدها، وكانت ينبغي أن تذهب لاجتماع مهمّ. جاءت إلى المركز وقرأت ما كتبت. انتهت وأخبرتني بأنه أعجبها جدًا، وأنا كنت.. أطير. صارتا تتكلّمان عنّي هي والآنسة التّركيّة بصوت عالٍ. She is amazing. Yes she is. 
وكنت أضحك خجلًا، كنت أموت وأحمرّ وأضحك. احتضنتاني بمبادرة منهما وهما تتمنّيان لي التّوفيق. خرجت من تلك الغرفة وأنا محفوفة بالحبّ والدّعوات والمديح، بثقة عالية وقلب يرقص. كنت منشكحة بطريقة لا أستطيع التّحكم بها. أضحك وأجري في الطّرقات وعباءتي تطير من خلفي. كنت أطير! غادرت الجامعة لأوّل مرّة وأنا سعيدة، سعيدة فعلًا، وممتلئة بطاقة إيجابيّة ما شعرت بمثيلها في السّنة الأخيرة من حياتي على الأقلّ. كنت مكسورة، ما عدت. كنت أرى الأشياء باهتة ورماديّة، صارت الأشياء ورديّة وبرّاقة. كانت الحياة فيّ تستعيد مجراها، كانت عيناي تبرقان، وكنت أبتسم لكلّ من حولي، وأمنّي نفسي بمستقبل أفضل، وحياة أفضل، ونفس أقلّ عطبًا، وأكثر قدرة على خوض الحياة،، ولوهلة، تصاغرت كلّ المشاكل الأخرى، اتّخذت لونًا شفّافًا والتفّت حول بعضها في ركن بعيد.

اختُتَمت هذه السّلسلة من الأشخاص الذين سقطوا من الجنّة فجأة بلقائنا مع د. منال كيّال. د، منال هي استشاريّة نفسيّة عبقريّة جدًا، كلامها مدروس وفيه عمق أحبّه وأحتاجه. ما فعلته د. منال اليوم هو أن صاغت كلّ الدّروس الّتي كنت أحفر في الأشياء حولي بحثًا عنها في محاولة لإيجاد تفسير أفضل لكلّ ما يجري- بشكل مهذّب وموزون ينبع عن حكمة وخبرة وفهم عميق. كانت تعرف ما تقول. تحدّثت عن النّظرة الماديّة للأهداف، وكيف أنّ هذه النّظرة هي أساس ما يصيبنا بالضّغوط النّفسيّة عند كلّ تغيّر يمكن أن يحصل، وكلّ عارض يقف في وجهها، وأنّه ينبغي أن نفهم أن هذه الأهداف هي وسائل يمكن للـ"أهداف الحقيقيّة" أن تتحقّق بغيرها، والكلام في هذا يطول. تحدّثت عن نظريّة التفّسيرات الّتي راقت لي كثيرًا، وذكرت أخيرًا بأنّ الكثير من الضّغوط النّفسيّة أساسها أفكار خاطئة، وأنّ الحلّ دائمًا يكمن في الوعي، وفي تصحيح مسار هذه الأفكار، وفي تغيير المنهجيّة الّتي ننظر بها للأشياء. قالت أن تغيير الأفكار رقيّ ونضج وإنجاز عظيم متى ما أدرك صاحبه أنّ في منهجيّته السابقة خلل. 

كان حديثها ثلجًا وبردًا وسلوى، كنت أحفل بكلّ شيء توصّلت له بنفسي وكانت تقوله، لكلّ الطّرق التي كنت أعالج بها نفسي وكان يحصل أن تتطابق مع الأشياء التي كانت تسردها. كنت أحبّ تلك الجسور الّتي سدّت بها ثغرات عندي كانت تحول بين فكرة وأخرى، والّروابط الّتي خلقتها، والنّهج الصّلب المتّزن الّذي خرجت به من بعدها. 

أشعر أنّني متعافية جدًا، ومستعدّة جدًا لاستقبال عام جديد، بنفس متّزنة ومقبلة على الحياة. عندما أراجع ما فات، لا أشعر -كما أفعل عادة- أنّني أهدرت نفسي، أجد الآن بالذّات أنّ محاولاتي كلّها كانت تبني بعضها بعضًا، أنّ كلّ ما فات كان بناءً، لا عبثًا، وأنني أحصد اليوم ثمار الوعي. أنا سعيدة ليس لأنّ الحجرة انزاحت، والغمّة تلاشت، ولكنّ لأنّني خرجت من كلّ ذاك الّذي مضى بخلاصة أستخدمها للّذي سيأتي، وأنّني، قبل كل شيء، خرجت بسلام! أنّني رغم الحروب كلّها ما انتهى الأمر بيأس أو عجز، يا الله! كم كنت أتوق لهذه اللحظة، للحظة الّتي أدرك فيها أنّني ما كنت أعبث، وأنني سأصير متعافية من جديد. ممتنّة وراضية. أشعر بالأمان. أشعر أنّ الله كبير جدًا، وأنّ رحماته تحفّني أينما ذهبت، وملائكته تحرسني، وأنّ الحياة رحلة، وأنّني أفهم أنّني سأصل، وأنّ الوصول يكون بعد خوض الشّوط لا قبله كم كنت أظنّ وأرجو، وأنّ النّاس الطيّبين موجودون في كلّ مكان. أحبّ صديقاتي جدًا، وأختي، ومشروعي الصّغير، وماما وبابا رغم اختلافي معهم. أحبّ أنني أفهم، وأنني أكبر وأعي كل يوم أكثر، وإن كانت الطّريق وعرة، وأنّه ما زال هناك وقت، وأنّ العجلة في استباق النتائج ليست شيئًا ينبغي أن أكرّر فعله في ما سيتقدّم من حياتي.


وبكرة يوم أوفف! ييييااااااس!



كل سنة وأنتم طيّبين، وأرواحكم طيّبة، وأنفسكم طيّبة، وحيواتكم زاهية وطيّبة وفوّاحة وتنبض بالحياة.




الثلاثاء، 6 ديسمبر 2016

تيه وغربة

تائهة من جديد.. ظننت بعد كل الذي حصل، بعد كل العزلة ومحاولات التعافي، بعد الأشياء التي تركتها والأشياء التي بدأتها،، أنني عدت، وما عدت. لا أعلم إن كنت في مرحلة انتقالية أم أنني أتردّى يومًا بعد يوم. جاءت أختي ورحلت، وما بكيت إلا دمعةً أو دمعتين. ما عاد شيء يهمّ حقًا، ولا أعرف لم لا أجد في الأمر سلوى. لطالما تمنّيت أن تمرّ الأشياء عليّ بهذه الخفّة، لا يرهقني حملها في قلبي ولا يدميه انتزاعها عندما يأتي وقت الرحيل. لا شيء أريده كما أريد أن تحصل الأشياء عادةً، إلا بعض أحلام لا أخطئ في رغبتي بها مهما حصل. صرت أصمت كثيرًا، أكثر مما ينبغي، في الوقت الذي ينبغي أن أصدر فيه انفعالًا ما. لا أعلم ما الذي حصل، ولا كيف وصلت إلى هذا الذي وصلت إليه. لا أعلم إن كنت أرغب بذلك أم أنني لست إلا نسخة رديئة أخرى مني معدومة الرغبات والانفعالات، قتلتها الأحلام التي رغبت بها بشدّة وما حصلت، ومات شيء فيها من فرط ما كانت تجري بأقصى سرعتها في كل اتجاه وتصطدم كلّ مرّة، كلّ مرّة، بجدار صامد. 

لا أعرف أين يكمن الخطأ بالضبط. فعلت الأشياء التي ينبغي أن أفعلها، جربت أكثر من طريق، ولم يمتلئ ذاك الجزء الفارغ داخلي. دائمًا هناك شيء ناقص، ومع مضيّ الوقت صرت أفقد شعوري الحادّ بالنواقص ومواطن الألم، دخل الكل في الكل، الإحساس ضبابيّ وأنا ما عادت فيّ قوّة لتحرّيات دقيقة عن كل صادرة وواردة في ذاك القلب، وذاك الشعور.

بكيت بالأمس، بكيت قليلًا، أقلّ من العادة، وأنا أستعيد أشواق الحياة التي أودّ أن أعيش، في ظلّ جوّ تعليميّ يحترمني ولا يحفني بالكره وتكميم الأفواه. ولكنّني بكيت، وسعدت لذلك. لا زال فيّ شيء ينبض بالحياة، والرغبة بالحياة.

بعد نوبة البكاء الخفيفة، بدأت كتابًا عظيمًا اسمه "فكرة العدالة" لـ أمارتيا سن، سعدت به جدًا، وكان له الفضل في إسكاتي. اشتريته مصادفة من معرض كتاب جدّة العام الماضي وأنا ألتقف كلّ ما يحوي كلمة "عدالة" حتى أستعين به في بحثي، وأغراني ارتفاع ثمنه رغم صغر حجمه. أخبرني صاحب المحلّ عندما رآني أقلب صفحاته أنه كتاب عظيم. صدّقته واشتريته. لا أعرف متى كانت المرّة الأخيرة التي قرأت فيها شيئًا شعرت معه وأنا أقرأ بخلايا دماغي تتفتّح وتزهر. أحضرت القلم وشرعت بالتلخيص وأنا أكفكف دموعي. آه.. كم أتوق لحياة تحفل بهذا النوع من الأفكار، أفكار تتطاير في كل جانب، حيث يدلي الكلّ بدلوه، وأدلي أنا، أو أستمع إليهم صامتة مبتسمة. العالم يمضي والحياة تمضي وأنا هنا حبيسة عالم خانق يحرم فيه التفكير، ويُنبذ فيه أصحابه.

اعتزال مواقع التواصل الاجتماعي كان مفيدًا في البداية، أظنه يظلّ كذلك. انغمست في أعمال كثيرة وكنت بحاجة لأن أكون في منأى عن المشتتات.. دفعتني للقرار مايا التي اعتزلت كلّ شيء عندما هربت إلى تشيلوي، وعزمت على الأمر من بعدها. عدت اليوم، ولم أشعر أن الأمر مثير للعودة بأي شكل. يروقني أن أظلّ صامتة بينما الكل يصرخ. ما عاد شيء أو مقال أو فيديو يثير فيّ الفضول. العالم مكان مزعج وغير عادل، وكلّ خبر لا يهمّ ما دام الأبرياء لا يزالون يقتلون في حلب، واليمن، وسجون مصر، و..

أبدأ شيئًا جديدًا وأنا لست متأكدة من أنني أريد الإقدام عليه. لا زالت هناك أمور تحتاج أن تستقرّ، ما زالت هناك كتب أودّ أن أقرأها، فيديوهات وأفلام أودّ أن أشاهدها، أناس أودّ أن أراهم، أشياء أودّ أن أتعلمها.. فعلت وأقدمت على جديد سوف يحتلّ مساحة من قلبي وعقلي وراحتي والكثير من وقتي، كسابقه، ولا يثير ذلك فيّ أيّة حماسة. لا أعلم لم لا أشعر برعشة البدايات عندما يكون الأمر إقدامًا على إنجاز جديد. كلّ ما أشعر به هو الثقل، والرغبة بالهروب. أريد أن أهرب! الآن!

عندما صارت حياتي تتمحور بشكل أساسيّ على عدة أشياء تتطلب مني الذهاب والإياب وإجراء المكالمات الكثيرة، صار عالمي الداخليّ غريبًا عليّ.. صرت لا أفهم أشياء كثيرة تصدر أو لا تصدر منّي. لم أعد أعرف ما أريد بالضبط، بعد أن كان الأمر لا يصعب عليّ تمييزه. تكونت الكثير من العقد الجديدة التي لم يسنح لي الوقت فرصة أن أتعرف عليها، هجرت وقتي الخاصّ، الكثير منه، صار ينصبّ جلّه في التفكير والتخطيط والتفكير والمكالمات التي لا تنتهي. لا يروقني الأمر. يروقني بعض الشيء، ولكنّ الوضع برمّته غريب عليّ، أو أنا غريبة عليه. أريد أن أعود إلى حيث كان الاختباء يسيرًا، عندما كنت هباءة لا يعرفها أحد، أنزل أمشي عصرًا ووجهي مختبئ في الكتاب، أعيد قراءة القطعة مرّة بعد مرّة وأذوب في النصّ: أنا، والنصّ، والسّماء فوقي كمساحة للتأمّل. السماء كانت منفذي، والمكان كلّه ملكي. لم أترك عادة المشي العصريّة ولكن كلّ شيء تغيّر. ما عدت أشتهي تصوير أيّ شيء، كل الأشياء سواء، كلّ النباتات سواء، كلّ ما يشغل بالي هو الخوف من أن يخرج حيوان فجأة من مكان ما، أحفظ المشاة كلّهم لأنني صرت أتفرّسهم كما لم أكن أفعل قبلًا. ما عدت أشتهي أن أشتري الآيسكريم من ريالات أخبئها في بطن الكتاب.. ما عدت أطيق الجلوس في الحرّ لأستمتع بالقراءة مع الآيسكريم تحت تلك الشجرة، فوق ذاك الكرسيّ المرتفع، رغم أنّ الجوّ حلو هذه الأيّام. كلّ شيء صار.. مختلفًا. صرت أذهب هناك لأجعل الضوضاء تخرس قليلًا، لأدعها تتسرّب. أنظر للأشياء بعين مهمومة، وأمنّي نفسي أن تكون الحياة وفّرت لي الخيار الذي أحلم به. أشتم نفسي في سرّي لأنني لا أكفّ عن ذات الأمنية كلّ مرّة، كلّ يوم، وأودّ لمرّة واحدة أن تحبّ هذه الخرقاء الحياة الجديدة التي وضعت نفسها فيها وأبلت فيها حسنًا، وكانت تملي على نفسها من قبل أنه ينبغي أن تجري الأمور بهذه الطريقة. عنيدة، خرقاء، ومدلّلة. 

هل ينبغي أن أكون هباءة لا مرئيّة، بشكل يشبه حجمي الحقيقي، وقوّتي الحقيقيّة، ومكانتي الحقيقيّة في عالم واسع شاسع؟ أم أنّ "فيّ ينطوي العالم الأكبر"، والكون كلّه من الممكن أن ينصاع لي لو أنني أردت حصول شيء ما بقوّة؟

أين أنا؟ من أنا؟ هو آم آي؟ (على لسان جان فالجان في فيلم البؤساء)

يقول ديستوفيسكي؛ أحيانًا لا تترك لنا الحياة خيارًا إلا أن نكون جديرين بآلامنا. أتساءل كيف يمكن لي أن أكون جديرة بآلامي، آلامي الحقيرة التي لا تفتأ تنهش فيّ، مهما بلغت منّي اللامبالاة مبلغها. حقيرة نعم، ولو أنني أدين لها، قليلًا، لأنها تذكرني أنني ما زلت على قيد الحياة، وأنني "ما متّ بعد، لم يزل في أضلعي برق ورعدُ". أكره أن أتألم، أحب أن أحيا، والألم كل الألم هو ما يسلب منّي حقي في الحياة. 

السبت، 19 نوفمبر 2016

في ختام الإجازة،


انتهت الإجازة تقريبًا. انتهت فعلًا.. الساعة الواحدة تماماً بعد منتصف الليل من آخر أيام الإجازة، الإجازة التي كنت أحتاجها بشدّة، وقمت باستغلالها بأفضل ما يكون كما تقول أمّي.

لست أعرف ما الذي أتى بي هنا، ولست أحمل أيّ فكرة أنوي الكتابة عنها.. كان من نصيب الاسترخاء ومحاولات الهدوء في هذه الإجازة القصيرة هو امتناعي عن التفريغ، فالكتابة بالطريقة التي أفعلها هنا منهكة جدًا بالنسبة لي، خصوصًا بالطريقة التي كتبت بها آخر ما كتبت. كنت أنقش الآلام التي حصلت، وأحاول أن أستخرج الوجه الأبيض من كل تلك الجراح التي ما برأت بعد. اقترفت جريمة. كان ذلك قاسيًا جدًا، ومنفّرًا كفاية من هذه المنطقة التي اعتدت أن أسرد فيها الأفكار التي تتسلّل طواعية، لا التقطيع والتنكيل بجراح قديمة في محاولات ظننتها تسارع بالتشافي.

كانت إجازة ممتازة تقريبًا، كلّ يوم فيها له قصّة سعيدة، ولكن بالرغم من ذلك، لست أشعر أنها جاءت بالطريقة التي أريد بالضبط. كنت أريد هدوءًا تامًّا وعزلةً تامّة، ولكن ما حصل هو أنني كنت في معظم الوقت محاطة بالكثير من الناس، أناس أحبهم، ولكنّ وجودهم -وإن كان منعشًا وحلوًا- جعل وقتي الخاص أقلّ، واضطرّني إلى افتعال ابتسامات كاذبة مرهقة وسماع كلام لم أختر الاستماع إليه، والكلام حينما لم أرغب بالكلام، والصمت حينما لم أرد الصمت. على كلٍّ، أنا شبه متعافية الآن من آلام الأشهر الماضية المرعبة الّتي أصنفها ضمن الأسوأ الّذي مرّ عليّ في حياتي. كانت أيّامًا شرّيرة بطريقة خفيّة، تفعل الأفاعيل ثم تظهر أمامي ببراءة بلهاء.. لم أستطع أن أشير على موضع الألم، كنت أتألّم وأنا لم أعرف أنّني أفعل حتى صارت الدموع تطفر من عيني، وردودي تستحيل انفعالات لم أعهدها من نفسي، والأصوات كلّها صارت تسبّب لي دوارًا، والكلام كلّه صار أشواكًا جارحة تؤذيني وتزيدني اضطرابًا. كنت تحت ضغط نفسيّ رهيب، من كلّ ناحية ممكنة، الأرض من تحتي، والأشواك من حولي، والسماء من فوقي.. السماء! الحمدلله أن الحياة أرحب من بعد واحد.

أقرأ الآن الرواية الثانية لإزابيل الليندي "دفتر مايا" بعد "ابنة الحظ" الرواية المفضلة عندي بلا منازع. هذه الأخيرة أسرت قلبي، وربما كانت لتفوز ما فازت به ابنة الحظّ منّي لولا أنها عنيفة بشكل مخيف أحيانًا. الأوصاف، كلّ الأوصاف فيها صادقة بطريقة فاتنة، والتفاصيل.. إيزابيل تجعل الأماكن والناس والنباتات والأشياء مجسّدة أمامي تجسيدًا، كلّ تفصيل أعيشه معها، أشمّه، وأتحسّسه. لم أستطع أن أهرب من قبل بفعل رواية كما أفعل مع ما تكتب إيزابيل، أوصافها البديعة التي لا تنتهي ولا تكلّ تأخذني صلب المشهد، صلب الأرواح والأمكنة، صلب البيوت، صلب الأزقّة، أشعر أنني في قلب العالم، عالم مايا، وأنني أمتصّ كل شيء داخلي. أشعر بزهوّ وأنا أتنقّل بخفّة الأرواح التي منحتني إيّاها هذه الرّواية.. أنا أنتقل بين عالمي وعالم مايا برشاقة الأرواح ذاتها، منذ الحرف الأوّل أنصهر داخل الكتاب، أذوب في تشيلوي، ثمّ أقفز قفزة رشيقة إلى بيركلي حسبما تريد لي إيزابيل، وأعود إلى عالمي بفعل نداء ماما الذي لا ينبغي أن يُردّ مهما تفُه الطّلب، أعود بعدها إلى تشيلوي، أنصهر مرة أخرى في ثوانٍ.. حيث أجد نفسي هناك، في قلب مايا، أقطن منزل العجوز المهترئ، أشرب حليب القرفة، وأتحسّس شعري الملوّن بألوان الطّيف، وألعب بفرو كافن، الكلب الظريف، بحريّة تامّة من الماضي، في حياة هادئة ذات إيقاع بطيء لا يوجد مثيله في العالم.

تقول ماما أنّ سياستي في التعامل مع الواقع خاطئة بينما كانت عيناها تحدّق صوب الكتاب الذي في يدي، وعندما استفهمت متعجّبة عمّا تقصد، أجابت: الهروب، أنتِ تتقنين الهروب! ابتسمت، ورغم أنّ ذلك لا ينبغي أن يجعلني سعيدة بأيّ شكل لأنّني أخذت شيئا يشبه العهد على نفسي بأن أكفّ عن الهروب كحلّ، إلّا أنني بحاجة إلى هذا المخرج الذي ما عدت أعرف كيف أنفذ من خلاله في الفترة الأخيرة، واستعدت ذلك الآن بفعل الرواية بمهارة بالغة، بخفّة عالية.. كتاب يتنقّل معي، لا يصدر أصواتًا، لا يلفت الأنظار..
الرّواية منفذي السّري، مهربي المؤقّت الذي أخاف أن ينتهي.. أنا أخاف ذلك فعلًا! من لي بقاصّة ماهرة تنسج أشياء تشبه التي تحدث في عقلي بمهارة حكواتيّ بارع في قصّة ممتعة ملوّنة تنضج بالصّدق والحبّ والحزن،، كالّتي تحكيها إيزابيل؟

لا أعرف بأيّ وجه ينبغي أن أعود لحياتي المتخمة بالمسؤوليات كما كانت قبل الإجازة، لست مستعدّة، خصوصًا لتلك الحمقاء الشمطاء الخرقاء البغيضة؛ الجامعة. يتجدّد كرهي لها ما دمتُ أتنفّس. أحبّ ذلك، أحبّ أنني أكرهها، لأنّها تستحقّ! أحبّ أنّني أعرف ذلك، وأقسم أنّني لن أنكره بعد اليوم. الجامعة بغيضة، الجامعة بغيضة، الجامعة كريهة، الحياة رحبة، والجامعة أضيق من حذاء بالٍ قديم، والوقت الذي أقضيه متكوّرة في ذاك الحذاء يؤذيني بشدّة، أتمنّى لو أنّ هنالك شيئًا غير مرور الوقت،، فتحةٌ ما، حبلٌ ما، فارسٌ ما- يأتي ليحرّرني منها لأهرب معه إلى أقصى ما أستطيع، ولا أعود. عليه أن يأتي بحصان رشيق، نركبه أنا وهو، وأقوم بقيادته أنا مستعملة الحركات الجديدة التي تعلّمتها في درسي الأوّل.. ذهبتُ وأنا ما كان ببالي أن أحبّ الفروسيّة، كان الأمر كلّه مدفوع بفضول ورغبة في تجربة الأشياء الأخرى المعدودة الممكن فعلها في هذه البقعة الخانقة من الأرض، وانتهى الأمر بالعشق وحده لذاك العالم الحلم. أريد أن أصبح فارسة، أن أسخّر حياتي بين تلك الحيوانات العجيبة، لولا أنّني أضعف مما ينبغي وأكثر جبنًا ممّا يليق بفارسة.. كان محرجًا كم خفت الاقتراب من الحصان، وكيف أنني ما استطعت قيادته من سياجه إلى الإسطبل بعدما ركبته ووضعت ثقلي كلّه على ظهره. يا ربّ حررني من فوبيا الحيوانات الّتي تحرمني نصف المتع على هذه الأرض. 

رغم كلّ الأشياء التي ستطلّ عليّ كصرارصير مقزّزة في غرفة عقلي الّتي ما كدت أنظّفها في هذه الإجازة الأقصر من ظفر نملة، إلّا أنني أشعر بفتور غريب، واستسلام مغلّفٍ باللّامبالاة. فلتفعل بي الحياة ما تفعل، لا شيء عندي لأخسره. فليمضي ما سيمضي كما يتبدّى له، لن أّهتمّ (أعلم أنني سأهتمّ، ولكن هذا ما أشعر به الآن.. على الأقلّ). قال بوبو (جدّ مايا) عندما رفض العلاج بالكيماوي وآثر العيش بهدوء في آخر أيّامه: "ما الذي نجنيه من الصّراع مع الموت، ما دام سيكسب عاجلًا أم آجلًا؟". قياسًا على ما قال بوبو، أقول: ما الذي أجنيه من الصّراع مع الحياة إن كانت ستأتي بالطّريقة ذاتها؟ إن كانت ستفرض سننها كلّ مرّة؟ إن كانت ستحمل الابتلاءات هونًا أو كرهًا؟ إن كانت ستتعسّر أو تلين حسبما هو مكتوب منذ الأزل؟
فلتفعل بي الحياة ما تفعل، أنا لست إلّا زورقًا مهترئًا متعبًا ومستعدًا للطّفو..

أريد أن أذهب إلى تشيلوي، حيث مايا، مايا التي أكبرها بشهرين.. أتوق إلى هرب شبيه، حيث الحياة أكثر هدوءًا والعلاقات أكثر تخفّفًا. في اللحظة التي أشعر بها باستسلام شبيه، يراودني حدس عجيب بأنّ ما كان يتقافز داخلي رغبة بالحصول سوف يأتي جاهزًا ومستسلمًا كهديّة مغلّفة، وكأنّه كان يتمنّع من باب (التغلّي)،، ينتظرني لأستسلم أنا فيستسلم هو، كعاشق أحمق لا يعرف المبادرة. أشعر أنّ غيمة ما ستأتي تظلّني، ثمّ تفلت حبالًا سماويّة فوقي تنتشلني دون مقدّمات، وتأخذني إلى حيث أريد لي أن أكون.. وكأنّ الحياة تريد أن تبطل أهزوجة: من جدّ وجدّ ومن زرع حصد بشكل تامٍّ في عقلي، تريدني أن أسائل كلّ شيء وأطرح كلّ شيء وأعيد صياغة الأشياء كلّها من جديد، لأنتهي بالإيمان الخالص وحده.


 يا ربّ إيمانًا خالصًا نقيًا يحملني كبساط ريح ويظلّلني كغيمة، ويأخذني إلى سماواتك الرحبة.

تصبحون على إيمان، تصبحون على طفو


الخميس، 3 نوفمبر 2016

الجزء ١: الكلمة والميزان الخفيّ

(مرّ شهر على كتابة هذا الكلام، وأنا الآن أقرؤه وأشعر أنني لم أكتب شيئًا مفيدًا يستحقّ الذكر، كنت أُعبّر فقط، وأستعجل استخراج الدروس. الكلام عن الكلمة ينبغي أن لا يتوقف عند هذا الحدّ، أعني.. الأمر ليس بسيطًا بالشكل الذي قمت باستعراضه)

من أمام البحر الممتدّ حتّى الأفق، على الشّاطئ  الحبيب الّذي طال غيابي عنه، وبدلًا من أشرع في قراءة "زيارة المدق" لنجيب محفوظ الملقاة أمامي -والتي يبدو شكلها مغريًا جدًا بالمناسبة- كما اعتدت أن أفعل في كلّ زيارة لذات البحر في ليالي الجمعة الشبيهة بهذه اللّيلة، حيث تقوم العادة على إنهاء رواية كاملة في يوم الخميس، في جلسة متواصلة في ذات البقعة، على أنوار الأبنية البعيدة الخافتة..

فضّلت هذه المرّة أن أفرّغ شيئًا مما يتكدّس داخلي ولم تسمح لي حياتي الصّاخبة في الفترة الماضية أن أجلس مرّة واحدة لساعة هادئة واحدة حتّى أكتب شيئًا. تراكم الكلام داخلي حتّى صار يزلّ من لساني وأنا لا أعي ذلك.. حتّى صرت أغفل عن أشياء وأنا ما كان ينبغي أن أغفل عنها، لأنّه ما تسنّت لي الفرصة أن أرتّبها أمامي على شكل كلمات تجعل الأمور تبدو على ما هي عليه، وتثبت على ذات الشكل، بطريقتي أنا، دون أن أدع مجالًا لأحد غيري أن يفسّرها بطريقته هو، ويجعلني لفترة طويلة أظنّ أن الأمور كما بدت بعينيه هو، وهي ليست كذلك، أو لا ينبغي أن تكون كذلك.

هذه حياتي أنا، أنا من ينبغي أن يصوغ الأمور ويعطيها شكلها النّهائي في الذّاكرة.

...

كان أسبوعًا عصيبًا، كانت فترة صعبة، بكل ما يمكن للصعوبة أن تكون. كنت مشرّدة، وحيدة، غريبة وخائفة، كنت وحدي تمامًا، وذلك ما جعل الأمر صعبًا إلى هذا الحدّ. ذقت الآلام بأنواعها، الحسّي منها والجسدي، كنت لا أكاد أقف حتّى يأتي ألم آخر يفتك بي، يختبر قوّتي، يتحسس ما علّمتني إيّاه الحياة وما لم تعلّمنيه بعد، ما أعرف التعامل معه وما لا أعرف، ما أفقه الحكمة من ورائه وما لا أفقه، ما يمكنني تفسيره وما لا يمكنني.. شعرت لوهلة أنّ الحياة لفظتني وما عاد شيء فيها يعترف بوجودي، وكأنني ما كنت، وكأنّه ما كانت تربطني بها علاقة من أيّ نوع، وكأنّ كل ما تريده هو أن تستمتع برؤيتي وأنا أتألّم. لفظتني فجأة، دون مقدّمات.. وكلّ التفسيرات التي أحاول استجلابها واختراعها تعود إلى تفسير واحد أخرق منبعه فوبيا الأعمار: أنني صرت عشرين، وأن الحياة تتعامل مع من يصير عمره عشرين أو يزيد بقسوة تليق بالبالغين، دون مراعاة، دون مقدّمات، دون إنذارات. لولا الحبال، تلك الحبال التي أيقنت يومًا أنها موجودة، لما.. عبرت. كانت اختبارات صعبة. هذه الحياة لا تمزح أبدًا! كلّ يوم أدرك فيها جديّة وجودي، جديّة البلاء الممكن أن يصيبني، وأهميّة الاستعداد لمفاجآتها بإيجاد المزيد من الحبال الممتدّة إلى فوق، حبال النّجدة والأنس. دونها لكنت غريقة، أو مجنونة، أو يائسة.

تحسست شيئًا من آلام الأنبياء عندما ذقت مرارة أن يكون الكلّ ضدّي، وأعني بالكلّ، أي الكل، كلّ الناس، من كلّ الجهات، في كل الأماكن، في مختلف مواطن الحياة، من تربطني بهم مختلف الروابط.. ولا أستطيع تفسير ذلك إلّا أنّه كان ابتلاءً. لم أكن مخطئة، لا، أنا لم أفعل شيئًا يحيد عن المقبول بشكل صريح يبرر كل ذاك العداء، كنت بشرًا، فعلت ما يفعله البشر العاديّون، تفوهت بما أتفوه به كل يوم، مع كل الناس، كل مرة.. كدت أجنّ. راجعت نفسي مرارًا وتكرارًا، لماذا أنا يا ربّ، ما هو الذنب العظيم الذي اقترفته حتّى يعاديني الكلّ مرّة واحدة، بهذا الشكل العنيف، عداء يتلو العداء، كلمة مؤذية تتلو الكلمة، صراعًا يتلو الصراع.. الصداع يتضاعف، نومي القليل كاد أن ينعدم، وشهيتي الضئيلة استحالت إلى نصفها، أكره الجميع، أتحسس من وجود الجميع، لأن الكلّ أنانيّ لدرجة أنه يريد أن يستأثر بالراحة لنفسه ويستفرغ مشاكله النفسية على غيره دون مبالاة، دون مراعاة، بطريقة مجرّدة من الأخلاق. تبدأ الأولى بعداء وقح، تعيد فعلتها مرّات عدّة وتحرّض البقيّة، تتجه الأسهم كلها ضدّي، وأنا لا أكاد أحافظ على عقلي من جنون يكاد يصيبني لأنّ الكلّ، مرّة واحدة، قرر أن يعاديني في نفس اللحظة بنفس الطريقة. أخرج من تلك الغرفة وأنا أحاول أن أحافظ على ما تبقّى فيّ من صبر وعقل، أرتّل مع نفسي كلّ ما له أن يساعدني على أن ألملم شتاتها، أبتعد عنهم.. أنا لست مجنونة، أنا لم أفعل شيئًا خاطئًا، ما قلته لم يؤذِ أحدًا، ما بالهم إذًا؟ ولكنني لا أكاد أفعل حتّى يُوجَّهُ إليّ سهم من جهة ما توقّعتها، ورغم أنّه ما كان بقوة الأسهم الأوائل، إلّا أنّني كنت أضعف من أن أتحمل.. كان القشّة التي قصمت ظهر البعير. يفعل السهم فعلته فأسقط.. تنزل الدموع تترى بكلّ استسلام وصمت، أمشي في الممرّات بأنف محمرّ والكثير من السوائل المتساقطة والمناديل، أحاول أن أغطّي ما تبدّى لي تغطيته وأحمد الله أنني أرتدي نظّارة. أغسل وجهي، وأمضي، لأنّه في ذاك اليوم بالذّات كان ينبغي أن أعرض جزئي من الدرس أمام الملأ. يجب أن تتوقف هذه الدموع الآن. يا رب أنا بحاجة لأن تتوقف. أخرج، يتنبّه أحد إلى كل ذاك الاحمرار، وعندما يسألني وأنا لم أكد أحاول نسيان كم هي الحياة قذرة، تعاود تلك السوائل الساذجة انسيابها دون توقف. أعرض جزئي والسوائل تتدفق من تلكم الأعين التي لم تر شيئًا فـ(خبَّصَتْ) كما ينبغي للتخبيص أن يكون، ولا أبالي. أعود إلى ما أظنّه برّ أمان، و بدلًا من أن يجفّ الوجه تعود السوائل، لوجود أشكال أخرى من مسبّبات السّيلان.. وكأنّ وجهي صار يخصّها وحدها، وكأنّ خدّاي طريقان معبّدان. يا رب أسألك أن توقفها. الأمر صار فاضحًا، وأنا في هذه البلاد لا خصوصية لي. الروابط الاجتماعية تلزمني أن أرى الجميع وأن أفتعل ابتسامة أمامهم دون اعتبار أن شخصًا ما من الممكن أن يمرّ بظرف ما، ففضّل أن يقضي يومه بعيدًا عن الأعين، بعيدًا عنهم. هذا الخيار ترف لا أستحقّه في هذه البقعة الاجتماعيّة من الأرض حد الخنق والشنق. يا رب أوقفها. تتوقف ثم تعود، تحملني أختي البعيدة على إيقافها، وكلمة طيّبة من شخص طيّب. تتوقف أخيرًا. هف.. لم تكد. أهلًا بالجفاف! قلبي يستكين أخيرًا، الحمدلله.. 

في ذاك اليوم بالذّات، أفهمتني الحياة دون اختيار منّي لشقّ طريق الفهم ذاك، بتلك الطريقة بالذّات- أنّ الكلمة سلاح فتّاك، أو ضمادة سحرية. بغضّ النّظر عن السّبب الحقيقيّ لما حصل لي، كانت الشرارة التي شبّت بسببها النار، كلمة مؤذية، والضمادة التي ساعدتني على التعافي، كلمة طيّبة. ظننت نفسي أقوى، طننت أنني أدرك المعنى من وراء الكلام وأنني لست بحاجة إلى أن يأتي بصيغة معيّنة حتّى أغضب أو أتعافى. ظننت أنّ الأفعال والأقوال غير ذات قيمة حقيقيّة ما دامت النّوايا جيّدة، ولكنّني لم أكن أفهم. فهمت الآن، فهمت كلّ ما يمكن للدّرس أن يعلّمني. تعلّمت أولًا أن الحقيقة ليست مهمّة إن لم يكن القالب الذي تقدّم به جيّدًا كفاية.. وأنّه ينبغي مراعاة الآخر، ينبغي أن تتفرّس عينيه وحاله قبل أن تنطق بالكلمة الساذجة التي تريد أن تقول. إن لم يكن بحال جيّدة -والكثير منّا في كثير من الأحيان ليس بحال جيّدة- فوفّر الكلمة إلى حين أن يتحسّن الحال، بعد أن تعدّ لها قالبًا مناسبًا تقدّمها به، أو احتفظ بها لنفسك يا أحمق. لا تكن عبثيًا وغبيًا لا تعي ما يصدر منك من ألفاظ، كن واعيًا للحظة وتحسّس الأشخاص قبل أن تلقي بلفظك عليهم، فاللفظ الكريه والله، أثقل على القلب من حجر ثقيل خشن. تعلّمت ثانيًا أن المبادرة الطّيبة بكلمة طيّبة لها أن تغيّر المزاج كله، ولها بسحر بالغ أن تضمّد الجروح ويحصل بسببها كلّ التشافي، مهما كان الألم مزعجًا، مهما كان الجرح كبيرًا. الكلمة الطّيبة بلسم، قطعة من الجنّة، ريح طيّبة وعطر منعش فوّاح، لها أيدٍ تربّت على مواطن الألم، وتحتضن القلب، تحمل الحمل عنه، تنظّفه من أدران الحياة، وتعيده سليمًا نظيفًا، تهدهده حتّي ينام وتغطّيه بكل حنوّ. الكلمة الطّيبة لا تترك صاحبها حتّى يتعافى، وكلّ ما على صاحبها أن يكون طيّبًا كفاية حتّى يتلفّظ بها،، ويمضي. 

بعد كلّ مرّة يحصل فيها لي شيء شبيه، لا أستطيع أن لا أؤمن بأنّ هناك ميزان سريّ يعيد توازن الأشياء في هذه الحياة.. إن سُلب منك شيء يعيده إليك بصيغة أخرى. لا أستطيع أن لا أؤمن بأنّ الله لا يترك أحدًا ينزف دون أن يرسل له آخر يقوم بتضميده،، وكما أن النزيف له أشكال عدّة، فالضمادات كذلك لها أشكال عدّة، وإن خسرت بشكل ربّما تكسب بآخر، المهمّ أن هنالك تعويض ما. 
لا أستطيع أن لا أؤمن أنّ كل ما عليك لترى كيف يعمل هذا الميزان الخفيّ أن تفتح عينيك إلى الرسائل التي تحفك ولا تتغافل عنها كما لو كنت لست كائنًا ذي بعدين له القدرة على رؤية ما وراء الألم الحسّي والتعوضيات الحسّيّة. الجهل وحده، أو الكبر، هو ما يجعلك تظنّ أنك تنزف دونما ضمادة أو معنى أو فكرة أو شعور يساعدك على التشافي. أنت حينما تجهل ذلك أو تتكبر عن الاعتراف به، تغمض عينيك عن حقيقة وجود تدبير خفيّ في هذه الحياة، وتصرّ على عبثيّتها. صدّقني.. أنت الوحيد الخسران من هذا التعامي، أنت المحروم الوحيد، الأعمى الوحيد، ترفض الفهم الكامل وتحصر نفسك في زاوية ضيّقة لا يمكن لها أن تفسّر ما يمرّ عليك، فتتركك مجنونًا، أو يائسًا ينتظر الموت، أو يعيش بعبث لا يليق بالأصوات الداخلية التي تحثّه على فعل أشياء ذات قيمة. لو كان للإيمان فائدة واحدة، لكانت تفسير العجائب التي تحصل، أؤمن بأن الشعور بالعبث هو أسوأ ما يمكن أن يحصل لبشريّ. الإيمان يعطيك منظارًا يحترم عظمة الكون وعظمة خلقك، والأصوات الدّاخليّة، والبلاء الذي يصيبك، وحتّى الكرم المفاجئ الذي يأتيك لا تستحقّه،، فيتيح لك من خلاله تفسير الأمور والأقدار والأشياء بشكل.. مُرْضٍ.

كان هذا هو الفصل الأوّل من “الفترة العصيبة”، تتسيّده الكلمة بآثارها المؤذية والشّافية.. وميزان الحياة الخفيّ الذي لا أفتأ أكرر ذكره في كل موطن. وحتّى لا أستنزف طاقتي المحدودة في الكتابة، سأحاول أن أجزّئ التفريغ على دفعات. لا تزال هناك دفعات كثيرة تخصّ الفترة الماضية آآآآآمل أن لا أسحب على نفسي ولا أكتب عنها. المشكلة أن التفريغ مع هذه الأيدي إمّا أن يكون كاملًا أو لا يكون.. والكلام كثيييير والوقت ضيّق والجسد هزيل والطّاقة محدودة، فليساعدني الرّب! تصبحون على خير.


(عندما شرعت في إكمال كتابة الأجزاء المتبقيّة لم يجرِ الأمر كما ينبغي، فتوقّفت هنا. لا يوجد سوى الجزء ١ من السلسلة المزعومة)

السبت، 8 أكتوبر 2016

أختي..

أشعر أنّني ناقصة، أو أنّ شيئًا ما ينقصني.. حتّى إن قمت بكل واجباتي، وقابلت كلّ من أحبّ، أشعر أنّ هنالك ثمّة شيء مفقود. مهما فعلت، الأمور لا تكتمل، هذا الشّعور القويّ المتكرّر الّذي لا أظنّني أخطئه.. يلحّ عليّ كلّ مرّة، نهاية كلّ يوم. 

كنت في المطبخ صباح اليوم، أخرجتُ الصّاج الكبير لصنع وجبة بيض للعائلة، ونزلت عليّ الذّكرى كوحي، بكل المشاعر الّتي كانت تحفّني وقتها، وبكيت.. بكيتك يا أختي، وعرفت أين تكمن ضالّتي. 
في رمضان، قبل ثلاث سنوات، أخرجتِ الصّاج الكبير ذاته، ووضعتِه في كيس كبير. ذهبنا أنا وإيّاكِ محمّلتين بالأغراض الكثيرة التي يصحبها هذا الصّاج، ولأنّه كان يأبى أن يستقرّ في كيسه حملتهِ بيدك. وصلنا، وضحك الكلّ من المنظر. بحماسك المعهود، وحبّك الصّادق للعطاء، وإصرارك الحازم على قلْي السّمبوسة هناك، سمبوسة ماما الّتي لا نحبّ أنا وإيّاكِ غيرها- في تلك الشّقة المتواضعة الضيّقة الّتي لا تتحمل رائحة القلْي، حملتِ هذا الصّاج، مع الكثير من السمبوسات "المفرزنات" خلال طريق مكّة-جدّة الحارّ في باص مزدحم بأناس نحبّهم ويحبّوننا. أتذكّر كم قضينا من الوقت في إعداد ما يفوق ٦٠ سمبوسة حتّى يأكل الجميع منها خلال يومي المخيّم. عندما كنّا هناك، حصل خلاف حول إمكانيّة القلْي من عدمه، أصرّ البعض على عدم القلْي حتّى لا تنتشر الرّائحة في أرجاء الشقّة، ولكنّنا قمنا بالقلْي رغم كلّ شيء، في اليوميْن، وتدبّرنا أمر الرّائحة.. وأكل الجميع، وامتدحَنا الجميع، وأشار الكلّ على طبقنا أنّه الطّبق الفائز بلا منازع.. وكنتِ سعيدة جدًا. 

أختي يا ذات الرّوح الحلوة، أنتِ من أفتقد، لا شيء سواكِ أنتِ. كلّما أدخل المطبخ، أتذكّر أيامنا الحلوة جدًا، الحميميّة جدًا، وأحاديثنا الّتي لا تتوقّف هناك بالذّات.. كانت فقرة صنع الفطور -عندما كانت ماما تصرّ على أن نقوم بإعداد الفطور نحن الاثنتين صباح السّبت بمعزل عن يد العاملة- ممتعة دائمًا، وفقرة مطبخ ما بعد منتصف اللّيل.. تهمسين في سريريك: نمت؟ أجيب بلا، ونذهب هناك لصنع وجبة، أيّ وجبة، مادمنا سندخل المطبخ. نقوم عادة بصنع حليب شوكولاتة، أو نعدّ حليبًا أبيض حارًّا مع كورن فليكس، وفراولة مقطّعة. نعدّ ونتكلّم، نأكل ونتكلّم، نفرغ من الأكل ونتكلّم، وكأنّنا خلقنا للكلام، وكأنّ الكلام خلق لنا. نتكلّم عن كلّ شيء، في كلّ شيء، لا نستطيع أن نكفّ.. مهما كان يومي سيّئًا، مهما كنت أواجه من صعوبات وأحمل من أعباء، كلّ ذلك كان لا يهمّ لأنّكِ كنتِ دائمًا.. هناك، للكلام والبوح والضّحك. أقسم أنّني كنت أخرج من مزاجي السيّئ بمجرّد أن نباشر الكلام، أو التّلوين، أو الغناء، أو صنع الطّعام، أو الاستعداد لحفلٍ زفاف ما، أو ترتيب الغرفة،، أو خرجة سريعة للسّوق، أو البنك، أو المكتبة، أو محلّ زهور، أو منزل صديقة.. المشكلة أنكِ تشاركينني كلّ شيء، ولكن ليس بعد أن ذهبتِ. تركتِني أذوب في عالمي دونكِ ولا أفهم كيف صار العالم موحشًا فجأة، ثقيلًا، غليظًا، وأبكمًا! منذ رحيلك صار العالم أبكم منزوع الصّدى، كلّ شيء صار يحصل داخل رأسي، كلّ الأشياء التي كانت تقبل القسمة على اثنتين صارت لا تفعل، صرت أحملها وحدي، وأنا مجرّد.. نصف. أنا نصف إنسان دونك، وحيدة أنا، حزينة وغريبة.

في خروجي الأوّل للسّوق وحيدة دونك الأسبوع الماضي، تذكّرت خرجات السّوق السّعيدة معك. كنت أحمل لابتوبّي، ونقضي الطّريق نتفرّج إحدى حلقات مسلسلنا المفضّل.. نصل إلى السّوق، نتسوّق كما يحلو لنا، دون إزعاج، دون تدخّل أحد، ونقضي الكثير من الوقت نعلّق على الأشياء والأشخاص، ندندن أغاني نحبّها، ونختم بأن نشتري هديّة لشخص نحبّه.. ماما مثلًا..  نذهب بعدها للبحر، نتسكّع قرب مسجد العناني الذي كان يخصّ أحد مشاريعك في الجامعة، ونأكل الآيس كريم، وندعو السّائق لأن يستمتع بوقته هو الآخر. نمرّ على أحد المطاعم في طريق العودة حتّى نعود بشيء لماما والعائلة، ثمّ نعود.

اجتمعت العائلة اليوم لأوّل مرّة بعد رحيلك، وكان الأمر مقشعرًا. كنت دائمًا هناك، ما عدتِ..

قبل أيّام، خرجنا، أنا وهي، نمشي حول المنزل في اللّيل بعد أن فرغنا من الاجتماع. وصلنا عند إحدى بقع المراجيح، تلقّفت كلّ واحدة فينا "مرجيحة" وشرعنا في الحديث والتّأرجح. تحدّثنا عن أختينا اللّتين نفتقدهما، وكنّا نكتم العبرة، ونتصنّع القوّة.
أخبرتني أنّه من العناية  بالصحّة النّفسيّة أن لا أدع أمر رحيلك مكتوم في صدري، لم أوافقها، وكتمت العبرة. عندما هممنا بالرّحيل، شرعت بالبكاء لا إراديًّا، لم أستطع أن أتحمّل أكثر. تكلّمت عنك أكثر ممّا أطيق، لأوّل مرّة كنت قد فاتحت نفسي بالأمر، وسمحت لشخص ما أن يتحدّث عنه معي. توقّفنا وجلسنا في الكرسيّ المقابل، وبكينا أختينا الرّاحلتين، ثمّ ضحكنا على ما فعلنا، وتعهّدتُها ونفسي بعدها أن لا أعود أتعامل مع الأمر بذات الطّريقة الخانقة.. أن أدع الحزن يتدفّق، أن أبوح أكثر، أن أتفهّم رحيلك أكثر، أن أدع الحياة تمضي دون عراك معها، أن أتقبّل فكرة مرور الزّمان، أن أعي أنّ الفقد يلازم المضيّ، وأنّ مقابل الفقد كسب، وأنّه بالوعي وحده سوف أتجاوز الأمر كلّه.

عملًا بذاك الوعد، بكيتك اليوم مرّتين، مرّة عندما أخرجت الصّاج من دولابه، ومرّة حين كلّمتك، وأشعر أنّني ما عدت أخاف فتح هذا الملفّ كما كنت أفعل.. أخافه نعم، أكرهه نعم، ولكن لا بدّ ممّا ليس منه بدّ. لا أريد لهذا الفقد أن يفعل بي ما فعل غيره، لا أريد أن تكون عندي ردّة فعل عنيفة في المستقبل تجاهك بسبب تعاملي القاسي مع الأمر.. يجب أن أسمح للأمور أن تتدفّق.

رغم أنّ الحياة تمضي يا أختي، رغم أنّني في طريقي للتّشافي من فقدك الّذي أرعبني كثيرًا، وهزّني كثيرًا، إلّا أنّ مكانك في القلب واحد، واحد لا يتغيّر. أكبر الأماكن هو، أكبر الغرف، أكثرها سعة وانشراحًا، أملؤها حبًا. لا زلتُ لا أعرف لمن أبوح بما لا أبوح به لسواك ولا يسع الزّمان أن أشاركك ما تعوّدت على مشاركتك إيّاه، بكامل تفاصيله.. لا زلت لا أعرف من له أن يهدهد مخاوفي الصّغيرة دونك، من يشاركني أفكاري وهي طازجة. أحيانًا أفكّر: ربّما حان الوقت أن أكبر، ربّما حان الوقت أن أواجه الحياة وحيدة، أن أتلقّى الضّربات وحيدة، أن أفرح وحيدة.. وأقول بإيجابيّة بلهاء لا يصدّقها قلبي: أنا أستعدّ لأمر ما عظيم لا يقبل أن تتحمّل فيه أختي شيئًا من الأمر، اعتدتُ أن تحملي عنّي كلّ شيء وحان الوقت حتّى أستعدّ للمرحلة المقبلة الصّعبة حيث سأكون وحدي في الحلْبة. أنا أكبر، وكلما كبرنا، تقسو الحياة على أصحابها وتلقي عليهم الأثقال منفردين، وأنا أستعدّ لثقل ما لن يتحمّله أحد سواي.. لن يقدر أحد على تحمّله سواي مهما كان قريبًا ومستعدًا لأن يفعل. كم واستني فكرة "الاستعداد" هذه. عندما أفكّر بقدر صعب على أنّه يعدّني لمواجهة قدر ما عظيم، ينشرح صدري وتهدأ نفسي، وأشعر أنّني أمضي في طريق صحيح مهما بدا قاسيًا.

ولكن.. ما إن أباشر الحياة مرة أخرى، لا أتمنّى سوى أن تعودي بجانبي. 

آه يا.. أختي.




الجمعة، 30 سبتمبر 2016

تفريغ، وكلام فارغ، واستفراغ

أسبوعاي الماضيين كانا حافلين بالكلام والغضب والتوتّر، والحماس، والفرج بعد الشدّة، وبعض اللّحظات الحلوة. أودّ لو أنّني أستطيع أن أتكلّم عمّا حصل لي بتفصيل وحريّة، ولكنّني لا أستطيع، وللمرّة الأولى أشعر بتهديد حقيقيّ حيال ما أريد أن أقصّه أنا عن شيء يخصّني أنا. يومًا بعد يوم، أدرك كمّ الحبال الّذي يحيط رقبتي في هذه البقعة من الكون، وأرى بوضوح أكبر حبل المشنقة الذي يحيط بالعالم، وأختنق أكثر. أريد أن أعيش بلا سلطة، أريد أن أسكن منطقة حياد، وإن كان الخروج من الكوكب يستلزم ذلك فلا مانع، المهم أن أعيش كما يجب.

لأنّ ما حصل لي في الأسبوعين الماضيين كان قهرًا، ولأنّ عدم قدرتي عن الكلام عنه قهر آخر، كان الأمر.. صعبًا. كنت مقهورة، ولكنّني انتصرت في نهاية المطاف، وكنتُ.. راضية عمّا فعلت مهما بلغت خطورته. رغم أنّني كرهت ما حصل من كلّ قلبي، رغم البكاء، والخوف، والظّلم الفادح، أدّى بي الأمر إلى مراجعة أمور مهمّة، ومناقشتها مع أناس أحبّهم ما كنت لأتحدّث معهم وألجأ إلى مشورتهم إن لم يحصل ما حصل. حصل كذلك وأن رأيت النّار التي في قلبي تتّقد رغم كلِّ ما/من كان يحاول إطفاءها من حولي، وعرفت كيف لتلك النّار أن تتعرّف على ما يشبهها في دواخل الآخرين مثلي، وكيف لها أن تجمع بيننا، وتجعل الأمر لذيذًا رغم الخوف.. كانت كلّ الحواجز تنتفي، وكلّ المقدمات.. كان عندنا هدف. جمعنا الخوف والقهر، واتحدّنا فصرنا نارًا واحدة كبيرة فعلت ما فعلت. انتصرنا أكثر من مرّة. أحبّ ما حصل. أحبّ دوري فيه. وأكره أنّني طوردت وتمّ ابتزازي وتهديدي لأنّني لم أصمت، كما يريدون، عندما وجدت حقّي مسلوبًا وتكلّمت حيال ذلك بوسائل مشروعة ولبقة.

حصل كذلك وأن حصلت تغييرات مفاجئة في جدولي، رغم التخطيط الدقيق الذي أتعبني كثيرًا في الفصل الفائت حتى أصمّم جدولي بطريقة تناسبني.. فعلت المستحيل حتى أنتهي قبل الظهر، فيتسنّى لي الذهاب للعمل بعدها. تغيّرت المواعيد في الإجازة أولًا، ثمّ تغيّر موعد آخر يخصّ مادّة أخرى خلال هذا الأسبوع، وتغيّر موعد ثالث، وأخيرًا، تم طردي من أحد المواد قبل يومين لأنّ على المادّة طلب كبير، ومن يكبرني بفصل أو فصلين أو ثلاثة.. إلخ، قُرّر أنهم أحقّ بالمادّة منّي، رغم أنّني حجزت فيها مقعدًا منذ الفصل الفائت، وكانت متوفّرة للجميع. أخطؤوا بحقّي، ولم يسمحوا لي حتّى بأن أصلح أخطاءهم. كنت أقترح الحلول، وأحاول ألّا ألوم أحدًا، ولم يتجاوب أحد. عشت.. صنوف الذلّ. 
ما أغاظني أكثر وأكثر، هو أنّ أصحاب السّلطة والقدرة على تغيير الأمور كلّها يعرفونني جيّدًا، يعرفون ظروفي جيّدًا، ويحترمونني كثيرًا، ولي معهم ماضٍ ممتاز، وأخطؤوا بحقّي عندما غيّروا ما غيّروا، ورغم كلّ شيء، لم يفعلوا أيّ شيء حيال ذلك،، يقولون أن الأمر خارج عن أيديهم رغم أنّهم هم الأيادي المدبّرة المتحكّمة بالموضوع برمّته. كم هو غبيّ هذا الإنسان الذي يشرّع القوانين ثمّ يقدّسها، ويخبر الآخرين أنّه لا يستطيع تغيير شيء فيها، وأن الموضوع خارج عن إرادته، رغم أنّه هو ذاته من فرضها أصلًا. كم هو غبيّ وأعمى. 
هذه الإنسانة صاحبة الأمر كلّه أمرها عجيب، في كلّ مرّة أراها تثار عندي الكثير من الأسئلة. هي من النّوع الذّي يميّز الصّواب من الخطأ، ويتضامن معك إن كنت محقًا، ولكنّها لا تعترف بالخطأ صراحة، ولا تقوى على تغييره وإن كان الأمر بيدها. تلجأ إلى الاعتذار وإقناعك بأنّ الأمر خارج عن سلطتها، وهو ليس كذلك، ولها أن تغيّر الأمور كلّها بكلمة منها.. أجزم أنّها تعيش صراعًا فظيعًا. هي ذاتها من تشرح بسرعة جنونيّة لأنّها تظنّنا نكره حصّتها، ولا تعطينا فرصة أن نحبّها حتّى،، هي ذاتها من تعاملنا كالأطفال فيما يتعلق بوضوح أسئلة الاختبار، والمشاركة في الحصّة.. تتوقع الأقلّ، ولا تريد أن تعطينا فرصة أن نريها أنّ عندنا أكثر من ذلك، ورغم كلّ الغرابة في التّفاهة التي تتعامل بها معنا، اختباراتها طويلة جدًا، بشكل جنونيّ، و.. تتعامل بصرامة مبالغ فيها مع الكثير من الأمور البسيطة التي لا يتعامل غيرها معها بذات الطريقة. 

انتهى أمر الجداول بطريقة مرضية في اللّحظة الأخيرة، وعدت الله أن أتشبّث بالإيمان ما استطعت، ووعدته أن أثق أنّ الأمر كلّه بيده رغم أنّ أولئك البشريّون الحمقى يمسكون زمامه حسبما يتبيّن للنّاظر، ثمّ حصل أن كانت النتيجة مرضية جدًا. كنت أتوقّع أنّ الفرج سيكون بأن يفتح الـsection المقفل، كنت أنتظره وأحدّث الصفحة كلّ نصف ثانية، ولكنّه حصل بطريقة مختلفة تمامًا. انتبهت في اللحظة الأخيرة إلى خلل يمكن إصلاحه، بالفصول المتاحة، وأصلحت ما ينبغي، وصار كلّ شيء مرضيًا ومفصّلًا على ما أريد. لم أتوقّع أبدًا أن يتشكّل الفرج على هيئة وحي أو انتباه يدلّني على طريق جديد، بدلًا من حلّ للمشكلة التي لم أكن أرى سواها.
-----
صرت عشرين، ورغم أنّ العالم لم ينقلب رأسًا على عقب، والزمان يمشي بذات الرّتم، إلّا أن الأمر ثقيل على قلبي. كلّما تذكّرت أنني (عشرين سنة) دون رجعة، دون القدرة على اللّجوء إلى تاريخ مختلف يجعلني أصغر من تاريخ ميلادي بالأشهر الميلاديّة، أشعر بـ.. شعور مختلف. مزيج من خوف و،، غربة؟ لا أعلم. هذا العمر الكبير غريب على طفلة مثلي. خائفة أنا، أحتاج المزيد من الوقت حتى أصير متّسقة مع هذا العمر المسؤوليّة. لا زلت أجهل الكثير، لا زلت لا أفهم، لا زلت.. غير مستقرّة، لا زال كلّ شيء ضبابيًّا، لا زلت لا أجرؤ على فعل الـ.. كثير. لا زلت أقلّ من عشرين.
-----
صرت لا أطيق من لا يريد أن يغيّر شيئًا غبيًّا فيه رغم علمه بسذاجة ما يفعل، ثمّ يفخر ببلادته! وكأنّها محطّ استعراض، وكأنّ الحياة سترحّب به كما هو، وتفسح له أن يعبر تعقيداتها رغم السذاجات الّتي يتشبّث بها ويفخر. 
-----
أنا "مطيورة" أكثر ممّا ينبغي وعلى ذلك أن يتوقّف. ذُكرت هذه الكلمة على لسان رضوى عاشور في سيرتها الذّاتية، وهي تعني بذلك أنّها "تنسى أغراضها" و"تتكعبل"، ووجدت الوصف من بعدها يصفني بدقّة. لا يمرّ يوم دون أن أصطدم بكلّ شيء مئة مرّة، حتّى مرفقي المصاب.. المسكين، يصطدم كلّ يوم في مكان الإصابة أكثر من مرّة. هذا الجنون لا يعقل! كيف لي أن أصبح امرأة دبلوماسيّة مع هذا "الطّيران" غير المسؤول؟ هف! بالأمس، خرجت ونسيت كيسًا مهمًا في المنزل، عدت وأخذته، ثم خرجت من السّيارة إلى الجامعة ونسيت جوّالي في السّيارة، كلّمت بابا الذي كان بصحبة السّائق في السّيارة وهما متّجهين إلى مشوار مهمّ لا ينتظر بعد أن أوصلاني إلى الجامعة، فعادا من أجلي واستعدته. وضعت الكيس في اللّوكر، وعدت إلى المنزل ومفتاح اللّوكر ضائع، نسيت تمامًا أين وضعته.. هذا لا شيء يذكر أمام المرّات التي كنت أنسى فيها حقيبة المدرسة في المدرسة وأعود للبيت، وحقيبة المدرسة في البيت وأذهب للمدرسة. نسيت مرّة حقيبة المدرسة في المدرسة وكان عندي اختبار مهمّ أذاكر لأجله، ولا أكتشف ذلك إلّا يوم السبت مساءً، وكنت قد تركت الحقيبة في المدرسة طوال الويكند.. كان يحصل كذلك أن كنت أنسى حقيبة المدرسة في المنزل وأذهب إلى المدرسة دونها. كان يومها ينبغي عليّ أن أسلّم واجبًا مهمًا لمعلّمة صارمة جدًا، إلّا أنني دخلت الحصّة، وشرعت في البحث عن الحقيبة، ثمّ تذكرت أننّي نسيتها، فضحكت المعلّمة على هذه الفكاهة العجيبة ولم تطالبني بالتّسليم. كلّ ذلك فضلًا عن قصص التّعكبل العجيبة التي يطول الحديث عنها. كانت إحدى المعلّمات تجزم أنّني يجب أن أصطدم بشيء أو أسقط في المسافة ما بين مقعدي والسّبورة عندما أقوم من مقعدي لأحلّ سؤالًا مكتوبًا في السّبورة بحماس بااالغ، وكنت أسقط كلّ مرة! كلّ مرّة. التّركيز يا ربّ. آمين.

الجمعة، 23 سبتمبر 2016

هذيان، وحب، وشعور لا يتمثّل كما أريد

أنا علياء، أبلغ من العمر ١٩ عامًا و٣٦٤ يومًا، وأحاول أن أهدهد فزع قلبي من مجيء يوم غد بالكتابة عن أشياء عابرة تعلّق شيء منها بقلبي. كان يومي حافلًا وسعيدًا وعامرًا بالعائلة والضحك والصياح واللّعب، والغشّ في اللّعب، والرقص، والغناء، والأحاديث الصادقة. كنّا في البداية أربعة: أنا وأمّي وخالتي وابنة خالي التي تصغرني بعامين. لم يحصل أن كان الأمر بهذه الطريقة من قبل.. لم تكن ماما يومًا ما شريكتي في جلسة يوم طويل مضحك. كانت دائمًا في صفّ الجدّة والخالات وكلّ الكبار. لأنّ فريقنا نحن الفتيات صار يقلّ يومًا بعد يوم، لأنّ أختي رحلت، وابنة خالتي، وابنة خالتي الأخرى، وتزوّج من تزوّج، صرنا نجلس مع الكبار. لم نكتفِ اليوم بهذه الرّباعيّة عندما جاءت جدّتي وزوجة خالي التي في عمري. جدّتي وأمّي وخالتي وأنا وابنة خالي وزوجة خالي.. تتلاشى الأعمار، ويغلب الضّحك، وكلّ ما نشعر به هو الحبّ، الحبّ فقط. قد يبدو الأمر عاديًا، هو عاديّ حتّى بالنسّبة لي، ولكنني أرى ما لا تروْن. كنّا نضحك سويّة، بذات النّبرة، وكأنّ جدتي هي ابنة خالي، وأمّي هي زوجة خالي -التي في عمري-. كنّا فريقًا واحدًا اليوم، لم يكن الأمر كذلك في السّابق. أحبّ ذلك، أحبّه جدًا. يسرق العمر أناسًا نحبّهم ليعوّضنا بأن يوثّق العلاقة بين من تبقّى منهم.

جدّتي.. جدّتي حكاية أخرى. بعد أن.. حصلت تلك الحادثة الفاجعة، صرنا نذهب إلى بيت جدّتي كل يومين تقريبًا، صرت أفتقد "حسّها" وصوتها حينما أتغيّب عن زيارات منتصف الأسبوع لاختبار أو عمل، وهي لا تفتأ تكرر: وين النّاس! ينقبض قلبي، أشعر بالذّنب، وأحبّها أكثر.. جدتي افتقدتني ولم أكن هناك، جدّتي التي لا أعلم كم تبقّى من العمر حتى أسمع صوتها الرّنان الحنون، وحكاياتها الحلوة، وأفكارها الحرّة، وروحها الشابّة، وهمّتها العاااالية.. جدّتي قصّة مطوّلة لا يسعني أن أتحدّث عنها ضمن الأشياء العابرة التي أحبّ، لأنها عالقة بقوّة، حد البكاء، حدّ الحبّ الذي لا يمكن الفصح عنه لا بقول ولا بفعل.

أمّي حكاية مطوّلة أخرى.. منذ أن ذهبت أختي وعصر الفراق قلبينا، وتتالت سلسلة البكاء على سريرها، صارت كلتينا -دون وعي منّا- تحاول أن تعبّئ شيئًا من الفراغ الذي تركه الفراق.. بوجود الأخرى. أمّي قريبة أكثر من أي وقت مضى، نشرب شاي العصر سويّة، هذه العادة التي ابتدعناها بعد السّفرة الأخيرة الّتي تبضّعنا منها أنواع الشّاي وإضافات الشّاي. صارت قريبة بالطّريقة التي صرت أخبرها بها ما لا أخبره أحد سوى أختي، في السّابق، ونستمرّ أنا وهي في نقاشات وتأمّلات حتّى تنشغل إحدانا بأمر آخر.. صرنا نتشارك ذات الاهتمام، الشّأن النّسويّ مثلًا، نتبادل المقالات والاستنتاجات، ونسبح بعيدًا، نحلّق عاليًا. قبل يومين، أرادت أمي أن تزور جارتنا المريضة، وبعد أن قامت بإرسالي لشراء بعض الزهور، عرضت عليّ أن آتي معها. شعرت بالحرج في البداية، ليس من عادتي أن أفعل ذلك، إلّا أنّني تحمّست لذلك عندما أخبرتني أنّها حضّرت رسالة الدكتوراه في النّسويّة مستعينة بأفكار المسيري التي أحبّها كثيرًا في هذا الشّأن.. ذهبنا، وكانت الجلسة حلوة، حلوة جدًا، كنت صديقة ثالثة، وتركتا لي مجال الكلام الكثير والتّفاعل وطرح التساؤلات دون خشية، كانتا تؤيّدانني، وتحبّان ما أقول، وتضيفان عليه، وتبْنيان عليه. أحببت تلك الجلسة كثيرًا، وودت لو أنّها ليست أمرًا شاذّ الحصول في هذا الوقت من الزّمان. 

حصلت، أيضًا، الكثير من الأشياء التي أحبّ بخصوص بعض المشاكل الّتي تتعلّق بالجامعة، وأخشى أن أتحدّث عن شيء منها بالتفصيل الذي أرغب لأنّ جامعتي تطاردني وتستدعيني بسبب كلّ كلمة لا تعجبها، وأنا قد علّمني الزّمان أنّ الرّوح الثائرة لا ينبغي أن تعلن ثورتها في كلّ وقت وكلّ حين، وأنّه ينبغي عليّ أن.. أكون أكثر حذقًا وذكاءً هذه المرّة. فعلت الأفاعيل فيما مضى، كنت لا أخشى شيئًا، وأحمد الله أنّني كنت صغيرة، أعني، أصغر من ٢٠ عامًا. 

فعلت شيئًا جريئًا، أكثر جرأة مما تحتمل مثاليّتي ويحتمل منطقي، ولكنّني أحببت أنّني فعلت. ماما شجعّتني على ذلك رغم أنّه في منطق الأمّهات ينبغي أن لا تفعل. أعُدّ ما فعلت هديّة بمناسبة عيد ميلادي، لم يكتمل حصولها، ولكنّني فعلت ما ينبغي فعله من جهتي. نشوة تخطّي حدود المعتاد لذيذة جدًا.. وهذا القرار الّذي اتّخذته جعلني أشعر أنّني ما عدت صغيرة، وأنّني مستعدة لاستقبال الإثنين في عمري في الـ١٠ سنوات قادمة. 

لا أعلم لم قلت ما قلت، كنت أشعر أنّني أريد توثيق شيء ممّا حصل لي، ولكنّ اللغة عذراء، والبيان يتمنّع.. هذا الكلام الذي يحتبس في حلقي ولا أستطيع أن أبوح به لأختي كما كنت أفعل، لا يعجبني مكوثه داخلي. لا أعود أتصرّف بطبيعتي وكأنّ شيئًا ما يثقل كاهلي، أصير أصمت بطريقة غبيّة لا يفهمها أحد ولا أحبّها منّي.

أنا متعبة جدًا، لم آكل لقمة من الكورن فليكس الّذي أعددته، وكلّ شيء يؤلمني، ورأسي يكاد ينفجر، إلّا أنّني.. أشعر بالرّضى، وأحبّ المجهول القادم بقدر ما أخافه وأرغب بالهرب منه، وأكره أنّ أختي ليست معي، ولكنّ، أحب أنّ الله لا يترك الفراغ الذي يجتاحني دون تعويض. 

هناك شيء ما بداخلي يشتعل، أشعر به، ولكنّي أجد ما أشغله به كلّ يوم حتّى يهدأ.. لن أدعه ينفجر على كلّ حال، أخذت وعدًا على نفسي بأن أفتح معها الملفّات متى ما استقرّ كلّ شيء وانتهت الفوضى، وصار حبل الإيمان المنقذ متينًا كفاية، فحتّى إن كان الاشتعال حارقًا، لن يستطيع أن يصيبني بضرر بالغ ما دام الحبل هناك ينتشلني من أيّ حريق.

لا أدري إن كان هنالك أحد في العالم سيمرّ على هذه الصفحة ويقرأ، ويتفاعل معها بصمت أو بفعل، لا أدري من سيجد هذا الهذيان الّذي أكتب، لا أدري إن كان هنالك من سيشاركني هذه الأشياء التي أشعر بها بقوّة ولا أجد ما يمثّلها لقلّة الأحرف، وللتعب الذي يستجديني حتّى أنتهي بسرعة وأرفض أنا أن أستجيب له لأنّني ما وثّقت شيئًا هنا منذ مدّة. يجب أن أوثّق، يجب أن أفعل دائمًا. علّمني الإيمان الذي أريد أن أجده كلّه.. أن أؤمن بأهميّة الأشياء غير ذات القيمة في الوقت الحاضر، وأن لا أكرّر خطأ أن أترك الزّخم الذي بداخلي يمضي كما تمضي الأيام بأن أجد له فتحة سخيفة يعبر من خلالها حتّى أتخلّص منه. سوف أموت يومًا ما قريبًا لا محالة، وأريد أن أجد القيمة في كلّ شيء أفعله، حتّى الشعور التّافه الذي يحيطني.. كما أفعل الآن مثلًا.

سأموت يومًا، لن أدع فكرة الموت تفارقني أبدًا. 


الثلاثاء، 6 سبتمبر 2016

كنت ألوّن



هرعتُ للتلوين -كما اعتدتُ أن أفعل في السنة الأخيرة- بعدما صارت الأفكار والأحاديث داخلي لا تكتفي بالكلام والحوار والإزعاج، بل صارت تفعل أكثر.. صارت تتشابك بوحشيّة وتتجاوز الحدود. صرت عاجزة عن التصرّف، أتفرّج وحسب، أتفرّج وأنام، فتتدخّل في أحلامي. نمت ٣ مرات -تعبًا لا كسلًا- خلال اليوم وما نامت تلك الأفكار المجنونة. لو أنني أستطيع أن أتنصّل من رأسي لبعض الوقت! لو أنّ هذا الكائن الذي وضع نفسه أمام كل هذه المتاهات يستطيع أن يقبع بعيدًا عني الآن فقط، اليوم فقط.. فأنا، بحقّ الله، أحتاج أن أتنفّس وأنظر للحياة بصفاء من جديد بعيون مجردة.  قررت أن أحسم الأمر بالألوان، بشيء محسوس لا يمتّ لرأسي بصلة ولا يستدعي حضوره، شيء أهرب به ولا يشارك هو فيه، فهذا الخناق ما عاد يحتمل. 

كُنّا في الزمن الماضي، ما قبل رحيل أختي (الزمان عندي ينقسم إلى: ما قبل رحيل أختي، وما بعد رحيلها) عندما تضيق بنا الحياة، نفرش الألوان، نفتح الأغاني التي نحبّ، ونغوص في عالم الألوان الجميل، ونخترعُ سويّة لوحة، مثاليّة من جانبي حد عدم اختلاط الألوان وتداخل الأشكال، وبديعة حرّة من جانبها. أختي حرّة حينما يتعلّق الأمر بالألوان، أما أنا فأغبطها وأحاول أن أكون. إحدى المرّات التي نحبها كانت حينما خرجتُ وجمعت أوارق شجر مختلفة، في يوم من أيّام الاختبارات النهائيّة الثقيلة، وفرشنا الألوان الزيتيّة التي ما استعملناها في التلوين مرّة، وقمنا برسم الأوراق التي جمعتها، وانتهينا بلوحة مثقلة بالذكريات السعيدة والأحاديث العلياء-إيمانيّة. تلك اللوحة الغالية على قلبي كدت أن أستأثر بها لنفسي وأعلّقها مع مجموعة اللوحات التي أجمعها منذ ٤ سنوات أو أكثر، إلّا أنني تذكّرت أن وحشتها أعظم، وأنها بتذكّر أيامنا الحلوة أحْوج، فأرسلتها إليها. 

كانت هذه المرّة هي الوحيدة التي ألوّن فيها بدون أختي.. كم هو مؤلم أن الأشياء التي ما كانت تفارقني في فعلها أختي وصرت أفعلها وحدي- صارت أكثر من أن أعدّها. يعتادُ الكلّ على رحيلها ولا أعتادُ أنا، ربما لن أفعل أبدًا. هي بالنسبة لهم ابنة من أبناء، أو صديقة من صديقات، أو طالبة من طالبات، أو..  هي بالنسبة لي: أختي، أختي هي هي، غير قابلة للاستبدال، فراغها غير قابل للتعبئة. هي أختي وحسب، أختي التي رحلت. 

كما كنت أصنع اللوحة من الصفر، كنت أفعل ذات الشيء في رأسي: أبني صورة جديدة من الصفر.

- أبدأ بدائرة زرقاء متقنة، في المنتصف. هيه، ألم نتفق أن تتحرّري من دوائرك المتقنة؟ أوه صحيح. أترك الدائرة وآخذ الريشة الغليظة وأرسم خطًا أحمر كبيرًا. أكرّر: يجب ألًا يكون متسقًا. أجعل أطرافه عريضة حتى يصبح أكثر نحولة من المنتصف. نعم هكذا، بداية مرضية، ليست مثالية، فيها أجزاء غير متسقة، والأهم أنني تركت تلك الزرقاء وحيدة في المنتصف باستدارتها المملّة.

- مزجت اللون بالماء، حتى يتكاثر، الكثرة تشعر بالطمأنينة، فالألون على وشك أن تنفذ.. كيف أتصرّف إن نفذت؟ لن أترك اللوحة غير مكتملة.

- اللون يبهت، ويصبّح الخط الأحمر مزيجًا من بقع فاتحة غامقة. البخل لا ينفع.. صرت أكرّر على الخط من ذات اللون دون مزجه بالماء. ستنتهي الألوان هكذا عند منتصف اللوحة! لا يهمّ.

- أستخدم الأصفر وأجده باهتًا، أجرب أن أخلطه مع الأبيض. واو، الأبيض أعطى اللون قوامًا وجعله سميكًا فاقعًا. يبدو أن هذا الأبيض ذو فائدة.. ثم تذكرت الجنود المجهولين الذين تستند عليهم الأشياء الكبرى الظاهرة ولا يراهم أحد. وأفكّر: بالإيمان وحده يكون لأولئك المجهولين قيمة ووزن. هذا سبب مهم لكي تتمسّكي بالإيمان. تخيّلي لو أن عمل المنزل الذي قمتِ به اليوم لأن العامِلة قررت أن تفرنقع وتتركنا فجأة،، تخيّلي لو أنّ جهدك ذاك سوف يذهب هباء؟ تخيّلي لو أنّ الألم الذي أصاب مرفقكِ الذي سقطتِ عليه حتى شككتِ أنه انكسر ذات رحلة بالدراجة في ليل بهيم لم يسمع فيه صياحك أحد، تخيّلي لو أن هذا الألم لا يعود عليكِ بشيء، بمقابل، بشيء يثقل في ميزانٍ ما. تخيّلي لو أن كلّ الأشياء الخفيّة،، كل الصبر الخفيّ، والألم الخفيّ، والسّند الخفيّ، والمحاولات الفاشلة، والخطط غير المنفّذة، لو كلّها كانت تروح هباءً، هل يجعل ذلك حياتكِ أكثر معنى؟ 

- استخدمت الألوان الأربعة الأساسية الموجودة، أريد لونًا جديدًا، والبنيّ لا يعجبني، أدمج لونين: الأحمر والأصفر، وأخلصُ بلون عجيب يشبه لون الـ..قيء. كنت أريده أن يكون برتقاليًا. لا يهم، هكذا تكون المحاولات الأولى. المغزى في المحاولات الأولى أنها محاولات أولى، بداية لشيء ما جديد، يكفيها أنها تمرّد على الأوّلِيّ وخوض لتجربة جديدة، شقّ لمساحة جديدة، يحفّها المجهول وتكسوها أنواع الاحتمالات. كان لون القيء محتملًا في النهاية. 

- أستخدم البنيّ لأنني كنتّ مخيّرة بين أكيد لا يعجبني، ومجهول يحتمل ما هو أسوأ. أجده ليس سيئًا.. ولكن، أوه! وصلت إلى الدائرة، تكاد تقطع الطريق، طريق الخطوط التي رسمتها. لِمَ لمْ أنتبه، سيتغيّر الآن شكل اللوحة التي كنتُ أتخيّل لأنني بسذاجة لم أنتبه أن الدائرة الساذجة تقبع في المنتصف. أجبر الخطّ البنيّ على أن يحفّ الدائرة ويميل من فوقها وأسفلها حتى أحلّ المشكلة. ماذا أفعل الآن؟ خرّبتها! ثم أتذكر أنني يجب أن لا أكون مثاليّة، وأنها مجرد لوحة سخيفة، وأنه لا يهم.

- أحب هذا المأزق الذي وضعتني فيه اللوحة لأنني سأصير حرّة من أي شكل مسبق الآن، ومن كل لون. أنا الآن سأتحرك وفقًا لحركات يدي العفوية فقط. يعجبني ذلك ويجعلني أشعر بالخفّة.

- أختلق ألوانًا جديدة من الألوان الموجودة، أدمج ثلاثة ألوان أو أكثر في كل مرّة، لا أعبأ بالنتيجة، المهمّ أنني ألوّن. أضيف الأبيض لكلّ شيء لأنه لا يكتفي بأن يعطي قوامًا، بل ويجعل اللون زاهيًا. أجد الأشكال التي أرسمها صارت عشوائيّة بسبب الدائرة في المنتصف والخط البنيّ الذي خرب مسيرة الخطوط المحتملة الأخرى، وأفرح أكثر. ياه، هذا ما كنت أريده! وتمنّيت لوهلة لو أنني كنت أستطيع أن أبدأ بهذه الطريقة الحرّة منذ البداية. ربّما تبدأ اللذّة عند المنتصف، وتحقق الأشياء مبتغاها في المنتصف، وتبدأ الرحلة الحقيقية من منتصفها. وأنا، ياللمصادفة، أقف في منتصف كلّ الأشياء، كلللل الأشياء. هممم

- ألاحظ: كلما أوشكت الألوان على النفاذ صرت أخرج بألوان أفضل. كلّما قلّت الموارد صار الإنتاج أزهى وأجمل. ربما لأن الأمر صار غير متعلق بالموارد ذاتها.. انتقل إلى مرتبة أخرى أسمى وأهم: فن المزج. 

- الدائرة ما كانت بذاك السوء، صارت مركزًا يتيح لي أن أبدأ من جهات مختلفة وخطوط متفرقة دون أن ألتزم بترتيب رتيب. المركز لا يعيق، المركز يعين، ويعطي منظورًا أكثر اتساعًا ونتيجة أكثر اتّساقًا.

- الريشة كلّما اختلطت بألوان أكثر، صارت تترك بقعًا أكثر تلوّنًا وجمالًا على المنديل الذي أنظفها به. كثرة التجارب تزيد صاحبها تلوّنًا وتنوّعًا وجمالًا. هذه البقع تحكي مجموع الألوان الذي تلطّخت به الريشة، حتى اللون الذي يشبه القيء صار في مجموع الألوان في البقعة التي تركتها الريشة- جزء من بقعة ملوّنة بديعة.

- أنظر إلى المناكير الأبيض التي تصطبغ به أظافري-والذي كان انطباع أمّي حينما رأته أنه أشبه بـ"اللّكْوِد"- وقد تلوّن بالألوان التي استعملتها، وأقول في نفسي: لا بدّ أن تترك التجربة، أيّ تجربة، أثرًا. لا يمكن أن أشارك في شيء دون أن يترك فيّ شيئًا، حتى لو كان الجهد منصبًّا على شيء آخر. ولكن، أتعلمين؟ صار يبدو أجمل عندما تلوّن! كان يراد له أن يكون أبيض فقط، ولكن الألوان التي لطخته كانت إضافة جميلة غير مقصودة. 

- أنهيت اللوحة برضى، كنت حرّة في أغلب الوقت كما كنت أريد. رأسي صار أكثر هدوءًا، صحيح لم تكن هناك أختي لتشاركني هذه الأفكار بصوت عال، والتي لا أجرؤ أن أشارك بها أحدًا سواها دون أن يسخر منّي وأنا أستنتج من كل شيء استنتاجات أزعم أنها تعلمّني شيئًا بشكل أو بآخر- ولكن ما كان الأمر سيئًا. لم أدع الألوان تتداخل في بعضها كما كنت أتمنى أن أفعل، لا تزال الحدود متحفظة ومستقيمة بطريقة ما، ولكن -على الأقل- لم أرسم ورودًا ولا أوراق شجر هذه المرّة. هذه نقطة تُحسب لي.

 أنظر إلى النتيجة النهائية للّوحة وأفكر: بقدر جهلي بما ستنتهي إليه اللوحة كنت أؤمن بأنها ستنتهي. بقدر جهلي بالطريق الذي سأسلكه حتى أنهيها، بالسبب الذي دفعني إلى البدء فيها، كنت أعلم أنها ستنتهي وهي مصبوغة بالألوان، وأنها ستكون لوحة كاملة مهما حصل. دون الإيمان بالنتيجة، رغم الجهل بما يحفّ كل شيء يخصّها، ما كنت لأقرر أن أرسم لوحة، ما كنت لأبدأ فعلًا عبثيًا. الإيمان.. هذا الإيمان، به أدخل المجهول وأنا أعلم أنني سأخرج بشيء ما ذي قيمة. به تستطيعين أن تدخلي غمار الحياة المجهولة جدًا، المخيفة، التي ستنتهي فيها الموارد مرّة، وتواجهك فيها العوائق مرّات أخر، وستنهيها في النهاية بنتيجة ترتضينها إن أنتِ آمنتِ. دون الإيمان كل شيء عبث. هلّا تشبّثتِ بما تبقّى من إيمان؟ سأفعل.







الاثنين، 22 أغسطس 2016

عن فتاة البرتقال، وجدّتي، وأشياء أخرى

انتهيت للتوّ من رواية "فتاة البرتقال" لكاتبها جوستاين غاردر مؤلّف "رحلة صوفي" الكتاب الذي سمعت عنه كثيرًا ولم أقرأه، ولم أضعه مرّة في قائمة متخيّلة للكتب التي أريد أن أقرأها. في زيارة خاطفة للجامعة أهدتني صديقتي هذا الكتاب ذو الغلاف الصلب والأوراق ذات الملمس الخشن الجميل، ولأنه طال بي انتظار سيارتي شرعت في القراءة هناك، وأنهيتها للتوّ، في ثلاث جلسات. لم تدهشني الرواية، لم تحرّك فيّ أسئلة جوهريّة تمنعني من النوم، ولم تمزّق شيئًا ما في داخلي يجعلني أريد أن أناقشها مع شخص آخر، ولم تجعلني أهتزّ من الداخل، ولكنّها كانت جميلة، نسمة رقيقة لونها برتقاليّ، جعلتني أبتسم وأحلّق في عالم آخر، في زمان آخر. كان جون أولاف يتحدث فيها مع جورج، ابنه الي فارق الحياة وعمره ثلاث سنوات ونصف، عبر رسالة طويلة كتبها إليه في آخر أيام حياته، عندما كان المرض يفتك به ويمتصّ منه الحياة يومًا بعد يوم. كانت القشعريرة تسري في جورج وفيّ، كم هو مرعب وجميل وعظيم أن تقرأ رسالة وُجّهت إليك قبل أحد عشر عامًا من شخص ميّت أحبك كثيرًا وما كنت تعرف عنه شيئًا قبل ذلك. كان جون يتوق لأن يخاطب ابنه خطابًا حقيقيًا، ويحكي له كلامًا يفهمه ويعيه،، ولأنه أراد ذلك بشدّة، خاطب جون جورج في زمان مغاير للزمان الذي سوف يتلقّى جورج فيه هذه الرسالة. كان يكتب لجورج ذو الثلاث سنوات وهو يركّب قطاره الذي ما فتئ يفكك قطعه ويركّبها مرة أخرى، اضطرّ أن يستعجل الزمان ويتخيّله شخصًا بالغًا يفهم ما يقول حتى تتسنّى له فرصة أن يتحدّث إليه قبل أن يرحل إلى الأبد، كان يفرّغ كل الأسئلة الوجوديّة التي فكر بها يومًا وأراد أن يشاركها جورج على الورق، ويحكي له عن حياته الأسطورة التي التقى فيها بأمّه فتاة البرتقال.. لم يمهل الزمان جون أولاف حتى يعيش مع ابنه خطوة بخطوة، اضطرّه أن يختصر ذلك كلّه في ثلاث سنوات ونصف، خاطب فها جورج الكبير، وداعب فيها جورج الطفل. كان يمتنع البكاء أمام جورج الطفل ويذهب ليكتب له عن شعوره الفاحش ويرمي بأسئلته العارية على وجهه حتى يقرأها يومًا جورج ذو الخمس عشرة عامًا. في هذه الحياة الأسطورة التي يشكّل فيها الزمان لغزًا عظيمًا، لسوف يكون لذيذًا وغريبًا أن تخترق قواعده فترى فيه الأشياء في زمانين مختلفين في ذات اللحظة عبر رسالة.

عندما كان يحدّث جون ابنه ويقصّ عليه حياته بتفاصيلها المثيرة الشبيهة بقصّة خياليّة غامضة وممتعة، تذكّرت.. ذاك اليوم. قبل أربع سنوات، ليلة ٢٨ من رمضان، كنت أجلس في مقعد السيارة الخلفيّ وحدي، وتجلس أختي في المقعد الأماميّ بجانب عمّي الأصغر الذي كان يقود السيارة. في ذلك اليوم، في طريق العودة الطويل، حكى لنا عمّي عن جدتي التي سُمّيت على اسمها، وعن جدّي صاحب القلب الكبير الطيّب.. جدّي وجدتي اللذان لم يعطني الزمان فرصة أن أراهما، أو حتّى أن أعرف عنهما معلومة واحدة مفيدة. الكلّ يتكتم على قصّة وجودهما ورحيلهما، حتى والدي، ابنهما الأكبر. لا أكاد أعرف سوى قصيصات صغيرة من هنا وهناك. سمّاني والدي على أمّه المتوفاة "علويّة" التي أصرّت عمتي على تغييره لأنه اسم قديم سوف أخجل منه عندما أكبر، كما كانت تقول، ولكنه ما فتئ ينادي عليّ به، ويعدني بالحصول على كل ما أتمنّى إن غيّرت اسمي إلى "علويّة"، ولا يزال العرض ساريًا حتى اليوم. سُمّيت أختي على اسم عمّتي المتوفّاة، وسمّي أخي على اسم جدّي المُتوفّى، رحمهم الله جميعًا. في ذاك اليوم، قصّ علينا عمّي ما لم أعرفه عن جدّتي وعمّتي قط، عن الحادث المريع الذي توفّي فيه ٥ أشخاص من أًصل ثمانية، وكان هو أحد الناجين. لم تكن جدتي وعمتي لتتوفيا لو أن الإسعاف لم يتأخر، كم أحقد على ذلك الإسعاف! كيف كانت حياتي لتتغيّر لو أن جدّتي كانت تعيش اليوم؟ أحب أن أتخيّل أنني سأكون الحفيدة المدللة لأنني سُميت على اسمها. حكى لنا كثيرًا عنهم الثلاثة، وبكيت كما لم أبكِ في حياتي، وظللت أبكي لمدة ثلاث أيام أخريات بعد ذاك اليوم. في منتصف حديثه أوقفنا عند مطعم "فاكهة لبنان" المطعم المفضّل لجدّتي، وأكملنا الأحاديث حتى وصلنا إلى المنزل بدموع كثيرة وفجعات وصدمات. صرت من بعدها أشملهم في دعائي دائمًا، وأحبهم، وشعرت بقلبي صار أكثر اتساعًا لأنه استطاع أن يجد فيه مساحة لأناس ما اجتمعنا مرّة معًا في ذات الزمان، أولئك الذين ما رأيتهم قط، وكانوا سببًا في وجودي اليوم. صرتُ من بعدها أشكو لهم في سرّي ما يحصل في غيابهم.. حصل الكثير يا جدّة، حصل الكثير، وما كان ليحصل لو أنكما كنتما هنا. كانت أعيادنا لتكون.. أكثر، والعيديّات كذلك. كنت لأكون أسعد كثيرًا لو أنكِ كنتِ هنا، لو أنكِ انتظرتِ قليلًا حتى تري حفيدتك.. المُسمّاة باسمك.
أتمنّى لو أرسلت لي جدّتي رسالة تشبه التي أرسلها جون لابنه جورج، وكان لها أن تعنونها "لحفيدتي المُسمّاة باسمي" مثلًا. كانت لتسلّيني كثيرًا في تلك الأوقات العصيبة التي ما كانت لتكون لو أنها.. لو أنها كانت هناك لتحسم الأمر. لم أدرك أن غيابك سوف يكون بهذه القسوة، وأنّ حضورك كان بهذه الضرورة. أراحني كثيرًا أنني صرتُ أفهم ما غاب عنّي، وصرتُ أفسّر الكثير بغيابها هي وجدّي.. كم تمنّيتُ لو كانت هناك جلسة أسبوعيّة في بيت جدّتي لوالدي، يجتمع فيها الـ..كلّ، ولا نضطر من بعدها لاستعادة ذكراها وتصوّر شعورها في محاولات لأن يصبح الواقع أفضل مما هو عليه. كم تمنّيت ذلك يا جدتي.. رحمك الله.

تلك القشعريرة التي شعرتُ بها وأنا أقرأ لجون الميّت، وللقصص التي حكاها عمّي عن جدّي وجدّتي، شعرتُ بها للمرّة الثالثة وأنا أتأمّل مخطوطات العثمانيين ومنحوتاتهم في متاحف إسطنبول، والتي، في الفصل الفائت، درستُ عن تفاصيل أصحابها. لم يكن الأمر مقشعرًا حينما درستُ عن ذاك الزمان كما كان حينما لمستُ الأشياء التي تركوها من خلفهم وتحسّستها بيدي، استحال الأمر من قصّة أو درس أو خيال إلى زمان آخر أدركته إدراكًا، أنا أعيش في زمان لحق ذاك الزمان، زمان كان له أناسه الحقيقيّون جدًا، يتكلّمون بذات اللغة، ولهم أيادٍ تنحت وأثواب تُلبس وأقدام تجول في ساحات القصور التي مشيتُ أنا فيها. أولئك الولاةُ الذين درستُ عنهم كانوا فعلًا هنا! تلك القصور التي كانت مطبوعة بحبر أسود وبجودة رديئة في أوراق الدراسة هي فعلًا موجودة! أليس ذلك مرعبًا؟ أن تشعر أن زمانك هو قطعة مرتبطة بمئات القطع التي تشبهها من قبل ومن بعد؟ أليس مرعبًا أنك الجزء الصغير في عالم اليوم، أنك الذرّة الضائعة في هذا الكون، أنّك الكائن الذي يعيش في بقعة توجد ملايين البقع الأخرى من حولها،، أليس مرعبًا أن لا يكتفي الزمان بهذا الوجود الشاسع، بل بأزمنة أخرى كثيرة، من قبله ومن بعده، مرت على ذات الأماكن، وسكنت ذات الكون، وعاشت، وتنفّست، وجاهدت حتّى يصير الواقع أفضل، أو كانت أنانيّة حتى نعيش اليوم ما نعيش من ضعف ودمار.. أليس مرعبًا أن تعي أن اتّفاقية خرقاء مثل سايكس بيكو هي سبب الحدود الخرقاء بين الدول العربية التي نعيشها اليوم؟ أن المأساة الفلسطينيّة ذات ال٧٠ عامًا كانت فكرة لشابّ أحمق يدعى هرتزل قبل أكثر من قرن؟ هذا ما يحصل فعلًا، هذه الحياة لا يصنعها زمان واحد، وقطع الزمان تتسلسل ويؤثر بعضها في بعض أكثر مما.. نفغل عن ذلك. 

بينما كنت أجول في متحف توب كابي في تركيا، وأنا أتأمّل مليًا وأدرك أنّ وجودهم كان حقيقة راسخة كما لم يحصل وأن فعلت، كنت أفكّر: لِمَ حينما أحطت بالمادّة التي خلّفها أولئك العثمانيّون أدركت وجودهم بشكل حقيقي؟ لِمَ لم تفعل ذلك فيّ كل تلك القصص التي نقبّت من خلفها وصنعت فيها البحوث والواجبات وحفظتها عن ظهر قلب؟ وتذكّرت وينستون في ١٩٨٤ حينما قال أنه عندما كان يشكّ في كل شيء ويظنّ لوهلة أنه جُنّ، كان يتحسس يديه وقدميه ووجهه ليدرك أنه موجود، وأنّ هذا العالم غارق بالأكاذيب، وأنه بالقصاصات القديمة التي يحتفظ بها عن زمان سابق لم تكن فيه الأمور كما هي في يومه ذاك- يستطيع أن يبرر حصول الأشياء من حوله،، وتذكّرت الحديث الذي دار بيني وبين أحد الأصدقاء عن السبب وراء أهميّة اللفظ الذي نعبّر عنه وإن كان الشعور يحفّنا من كل جانب، لِمَ تُحدث تلك الكلمة التي تعبر عن هذا الشعور الهائل الذي، ربما، لا تفيه الكلمة حتّى حقه من الوصف.. لِمَ تحدث الكلمة تلك الصدمة فينا وتجعلنا نراجع كل ما حصل مرّة أخرى ولكن تحت تأثيرها هذه المرة، ليزهر الماضي ويتخذ أبعادًا جديدة، ولا يفعل الشعور،، لم نشعر بتلك الصاعقة من خلف كلمة مثل "أحبك" وإن كنّا نجد الحب دافقًا دافئًا غزيرًا ونشعر به يحفّنا ولا نشكّ بعدم وجوده؟ ما الذي تفعله المادّة ويعجز الشعور عن إيصاله حتّى تسري فينا تلك القشعريرة؟

وحدست: ربّما للمادّة القدرة على ترسيخ ما هو طائر في الجو وحائم فيه من شعور وأفكار، ربما هي من تكسبه الوجود في هذا العالم الذي لا يعترف بوجود إلّا ماهو حسّي، ويعدّ المادّة فيه أصلًا كما الرّوح. ربما هي من يقوم بتأصيل وجود الشعور أو المعنى أو كل ما هو غير محسوس -كما تقول صديقتي- وتجعله مُنطلَقًا لما شاء من بعده من شعور، ربما لا يكفي أن يوجد الشعور وحده دون المادّة، وأنّه يلزمه أن تمنطق وجوده الكلمة المسموعة أو اللمسة المحسوسة أو الأثر الباقي عن زمان مضى أو شخص رحل.. ربما الاتحاد الذي يتزامن فيه وجود الاثنين معًا، هو مايشكّل أصل المعجزات، أصلّ الصدمة التي تنخر القلب وتقبع فيه، أصل الأدراك،، وأصل وجود الإنسان. ربما بالطريقة التي وجد بها الإنسان، سيّد هذا الكون، نستطيع بها وحدها أن نخلق الوجود لغيره من الأشياء.

ربّما، لنعيش هذه الحياة القصيرة كما يجب، بوعي نعطي به وجودنا حقّه، ينبغي أن نشعر بما يحصل في هذه العالم بشكل أكبر، بالأزمنة التي مضت والأزمنة التي تلي، ربما بهذه الطريقة فقط سوف نرى الأشياء بحجم يشبه حجمها الحقيقيّ، وندرك ما كان ينبغي علينا إدراكه كما أدرك جورج أنّ أباه الذي مضى لم يكن أبًا مضى وحسب، بل كان أكثر من يحبّه ويخشى فراقه، وصار له من بعد تلك الرسالة وجود حقيقيّ في قلب جورج وذاكرته، صار أكثر من اسم لأب راحل. ربما إن شعرنا بما حولنا، بما غاب عنّا في أزمنة مضت، بأشخاص الماضي القريب والبعيد، سنستطيع أن نملأ الفراغات، ونحلّ الألغاز، ونرى الأشياء من حولنا ذات بريق، ونفهم أكثر، ونعرف كيف نمضي، ونتّسع أكثر لنحبّ من لم يسعهم الزمان أن يلحقوا بنا ليخبرونا بأفكارهم الغزيرة عن هذه الحياة، عن التجارب التي خاضوها والأخطاء التي اقترفوها، عمّا ينبغي لمن سيخلفهم أن يفعل وألّا يفعل. هذا العالم شاسع واسع، لا يكتفي بالتمدد المكاني، بل فيه من الزمان ما هو أرحب وأعجب، ووجودنا المعجزة يمكن له أن يسع ذلك كلّه إن تحسسّ الواحد فينا الأشياء من حوله، وأدركها كما يجب، ورآها بقلبه.


الأربعاء، 17 أغسطس 2016

عن زيارة بين غيابين

جاءت، وأنا لست متأكدة من أنّه كان ينبغي عليّ أن أعرض عليها عرضًا كهذا منذ البداية. سألتها إن كان الغد مناسبًا وأجابت بلا، عرضت عليها أن نخرج بعد العشاء سويّة، حتى لا يتركّز الموضوع كله في الجلوس في المنزل، ولم تنجح الفكرة لأنّ سائقي مسافر وسائقها مشغول، فقرارتنا نحن الإناث الملكات في هذه البلد تتحكّم فيها أوضاع السائق طبعًا. لست ممّن تريحهم فكرة مجيء الأصدقاء، أحبّها وأرغب بها دائمًا، ولا أرتاح لها لأسباب كثيرة، بقدر ما أجد الأمر ممتعًا حينما يحصل. لم أتعوّد على أن أدعوهم، كانت أختي.. أختي التي ذهبت، كانت هي تفعل دائمًا، وكنت أجد ذلك ممتعًا كفاية، وأنّه يكفيني أن أستقبل صديقات أختي، وأنّ ذلك أقصى ما يمكن أن يحدث. يحصل دائمًا أن تزورني صديقة الطفولة والمدرسة والجامعة، تلك التي كانت تدخل غرفتي، وتوقظني، ثم تنتظرني حتى أتجهّز، ثم نمضي بسيّارتها إلى المدرسة سويّة.. وما يفوق ذلك بكثير. يحصل أن يحدث ذلك من أشخاص محدودين جدًا، أعدّهم من أفراد العائلة، ولكنّ الأمر تقريبًا يقف عند ذاك الحدّ، وغيره معدود ومحدود.

جاءت، وكنت أخاف أن يبدو الأمر أخرقًا، ويكون الذي بيننا مفتعلًا، ويكون اللقاء رسميًّا "رسميّةَ الأصدقاء القدامى الذين ما عاد يربط بينهم سوى الماضي"، نظرًا للفترة الزمنية العظيمة التي فرّقت بيننا، والمسافات الشاسعة.. ثلاث سنوات كاملات، حصل فيها ما حصل، كبرنا فيها كثيرًا، وتغيرت فيها أفكار وقناعات، آلام وأفراح وتجارب وخيبات مررنا بها ولم نتشاركها. كنت أخاف الفجوة العظيمة التي بيننا، كيف نردمها في بضع ساعات ونفتعل عدم وجودها؟ 

دخلَت، فأشرت إلى دراجتي ببلاهة أن هيّا نلعب بها خارج المنزل سويّة، فأخبرتني بسخريتها المعهودة: سوف يكون ساذجًا أن تركبيها وأتفرّج عليكِ، ثم أركب وتتفرّجين عليّ، فلا تكاد الأولى تلحق بالأخرى، ولا نكاد نرى بعضنا أو نتبادل أيّ حديث. ضحكنا، وكانت محقّة. خرجنا نمشي تحت شمس العصر الحارّة وهي في أحسن حالاتها، مشينا، وتكلمّنا كثيرًا وضحكنا، اعترضتنا البقالة فدخلنا، واشتريتُ أنا أشياء غير صحيّة، ولم تشترِ هي إلًا عصيرًا غازيًا. عند ثلاجة العصيرات سألتني: ألا تريدين أن تشتري عصيرًا؟ أجبتها: أنا من النوع الذي لا يشرب العصيرات، رغم أن الكلّ يفعل، مثلما أنني لا أعرف كيف أسمع الأغاني بالسماعات في كل مكان كما يفعل الكل. أشرب العصير وقت الغداء فقط، وأسمع الأغاني حينما أجلس على لابتوبّي فقط. ضحكت ووصمتني بالغباء، وأنه كان عليّ أن أعمل في إعداد "الرابط العجيب" في سبيستون لأنّ ربطي ليس ذو معنى. ضحكت.. لا زلت أجده ربطًا موفقًا ومنطقيًا ذو! (though)

أكملنا المشي. كانت تمشي في الجهة المعاكسة لنا فتاة ترتدي نظارة شمسيّة، قالت: أوه، هذه الفتاة تبدو مثلنا، تمشي على غير هدى لمجرّد أن تمشي، وأشارت لها بيدها ببلاهة ظانّة أنها لا تزال هناك، في كندا، حيث يشير المارّون إلى بعضهم دون تحفظات، فقابلتها الفتاة بتكشيرة الـ"ما أعرفك خير؟"، فضحكتُ وقلت لها مثل كل السعوديين الكذّابين: أعرفها ولا أظنّ أنها تعرفني. أكملنا المشي حتى وصلنا إلى بقعتي المفضّلة، حيث المراجيح النائية التي تحفها الأشجار من كل جانب. تمرجحنا وأكملنا الحديث والضحك. سألتها أن كيف قضيتِ إجازتك؟ فأجابت بأنها تقابل أناسًا كل يوم صبحًا ومساء، وأنه ما حصل أن كان هناك وقت لم يشغله شخص أو لقاء. تعجّبت في داخلي، أليست هذه التي كانت تتهرّب من النّاس أيًّا كانوا؟ أليست هي من كانت تصدّ من يريد لقاءها؟ لغد تغيّرت فعلًا! أخبرتني حينها بمن قابلت ومن ستقابل، واطمأننت لأنني أعرفهم كلّهم تقريبًا، وأنني لا زلت "على الخط". استعدنا ذكريات المدرسة المجنونة، وغير المدرسة، والنوادي التي انضممنا إليها، والمشاريع التي عملنا عليها معًا، وتحدثنا عن العائلة والأصدقاء المشتركين، عن إخوتنا وأخواتنا، وغيرهم.

في طريق العودة، قلت لها: لقد تغيرتِ فعلًا. قالت: كبرنا، هذا ما حصل. ثمّ أخبرتني في خضمّ الكلام: بصراحة، أنت تدورين في دوائر. تتشبّثين بالفكرة، ثم تتركيهنا، ثم تضطركِ الحياة أن تعودي إليها، ثم تتركينها لتعودي إليها، وهكذا. وعقّبَت: طبعًا لا أعني ذلك بشكل سلبيّ! ضحكت ضحكة العارف.. نعم أنا كذلك، ولكن ليس بالضبط. أدور في دوائر ولكن.. أظنّها تتسع كل مرة، وعندما أعود للفكرة أعود لها بزيادات وإضافات وتعديلات، ربما أنا أدور ولكن ليس في دوائر؛ في حلزون،، فهزّت رأسها موافقة.

عدنا، وشربنا القهوة، وأكلنا من الكعكة التي أعددتها بيديّ -لأوّل مرة بعدما غادرت أختي تُعَدّ هذه الكعكة في المنزل، كانت هي دائمًا من يعدّها-. لوّنّا وتكلمنا كثيرًا، وضحكنا طبعًا. تكلمنا عن الجامعة، وعندما كانت تحكي عن أستاذها "الرهيب" وجامعتها التي لا تقبل فيها سوى النخب، كنت أبكي من خلف النّظارة، وأدعو في سرّي: يا ربّ كل ما أريده هو أستاذ واحد جيّد. حكت لي عن المشاريع المجنونة التي يخرج بها الطلاب في جامعتها، ولم تبدُ راضية عن ذلك رغم كل ما كانت تقول، كنت أقول لها: كل ما أتمنّاه هو جامعة تستفزّني وتحثني على المزيد من العمل! كل ما أتمنّاه هو المساحة الحرّة التي يعطونكم إياها هناك. أجابت: نعم هناك مساحة واسعة للإبداع، ولكن ليس الأمر كما تظنّين. في جامعتنا قولبة من نوع آخر، حيث يترك الكل لعمل ما يريدون، لكن أصحاب المشاريع المجنونة بشكل واضح يكون لهم اهتمام خاص، وعلى ذاك المعيار (الجنون) يقاس الإبداع، فيصير الكلّ يعمد إلى إضافة شيء من الجنون حتى ينال المشروع على إعجاب الأساتذة والطلبة، ويحصل على الدرجة المناسبة. ففهمت، ووافقتها في ذلك.

تكلمنا عن الأديان والعدل الإلهيّ والصداقات، عمّا ينبغي ومالا ينبغي، عن أصل الأشياء، عن المنظومة الأخلاقيّة التي تحكم أفعالنا، عن مركزيّة الإسلام أو لا مركزيّته، اختلفنا وتعالت أصواتنا وضحكنا رغم كلّ شيء، وأكملنا تلوين اللوحة. كنت أذهب وأعود فأجدها تباغتني بأن تكمل الحديث السابق بفكرة جديدة من الواضح أنها أحكمت إعدادها في غيابي، فأشير عليها ساخرة: كنتِ تفكّرين في غيابي برد جديد هاه؟ تجيب: أجزم أنكِ كنتِ تفعلين ذات شيء. وكنت أفعل. وضحكنا. استمعنا إلى عدّة أغان ونحن نلوّن، ولأنّ ذوقها عجيب جدًا، أخبرتني أن أخاها يقول: يتزوّج المرء ممّن ينسجم مع ذوقه الموسيقيّ، وأنّه يتساءل عن ماهيّة من سيكون. ولفرط ما اندمجنا في الحديث، نسيت أن أحضّر الشّاي بإحدى الزهورات الكثيرة التي اشتريتها خلال السفر، ونسيت أن أقدّم ما اشتريته أو أعددته لأجلها من الأساس. كنّا منسجمتين جدًا حد الصرااااااااخ، والضحك، والصراخ المشوّب بالضحك. كانت كلمة "لا تسارعي بالحكم" سيدة النقاش، وأساس الاعتراضات والمقاطعات، فكلتينا تظنّ أنها تلمّ بحياة الأخرى من كلّ جوانبها، وأنها تفهم ما يتبادر إلى ذهن الأخرى قبل أن تقوله بغرور غريب رغم الغياب الفاحش الذي حال بيننا. دائمًا ما كانت تواجهنا مشكلة الكهرباء هذه في الماضي، فنحن نتشابه كثيرًا فنحتدّ كثيرًًا، ولكن هذه المرّة كنا ناضجنتين جدًا للدرجة التي وجدنا فيها نقاشاتنا التي تعلو فيها الأصوات أمرًا مضحكًا، وأنّ هذا الحماس صحّي وجميل وحميميّ.

قبل أن تذهب، أخبرتها أنه من الصعب أن تذهب مرة أخرى بعدما عادت وأحببت أنها عادت. ربما كان من الأفضل أن لا تأتي، وأن لا أتذكّر أن قربها مضحك ومنعش لهذه الدرجة. كان الوداع سريعًا، هي تكره الوداع، وأنا أكرهه أكثر. عند عتبة الباب أخبرتني: كنت أحسب أننا لن نعود كما كنّا بعد الفراق الطويل الذي حصل، وهززتُ رأسي. ثم أخبرتها: أحبك رغم المضاربات. حضنتني حضن "أبو شيلة" وهي وحدها من تفعل، وذهبت كما يذهب الغائبون، مرّة أخرى، كما ذهبت أختي، كما ذهبت ابنة عمتي، كما ذهبت صديقتي، كما ذهبت ابنة خالتي.. انضمّت إلى حزب الذاهبين إلى تلك الكندا المقيتة، لأكرهها أكثر. كنت أبتسم حتى اليوم التالي وأنا أسرد الأحاديث التي مضت، بكل ما حملته من سخرية وأفكار تستحقّ المراجعة وإعادة النظر. هي من ذاك النوع الذي إذا تكلّمت معه فأنت تخرج من الجلسة لست كالذي كنت سابقًا. يحصل وأن يهتزّ شيء هناك، بداخلك، ينعشك ويحثّك على المزيد من البحث. سأفتقدها مجددًا، وآمل أن لا يكون الفراق القادم يوازي الأوّل في طوله، فأنا، كما تعلمون، ما عدت أطيق فراقًا آخر. 


السبت، 6 أغسطس 2016

ذات مرض

أشعر بالتعب، رأسي ثقيل، روحي ثقيلة، جسدي يتحرك ببطء، مفاصلي تحتاج إلى تزييت. أشعر بالثقل. أشعر بالحزن والخواء. أفتقد أختي بجنون. أتوق إلى أن أسمو وأرتقي. أشعر أنني ملطّخة بماء موحل. أشعر أنني بحاجّة ماسّة لشخص حكيم يؤمن بي ويأخذ بيدي ويرتقي بي بتدرّج حنون، فأسمو وأعلو يومًا بعد يوم، شيئًا فشيئًا، خطوة خطوة، بهدوء وسكون وحب. أشعر بالزهد من كل شيء، من كل المتع اللحظيّة، من كل شيء زائل، وأتوق لكل شيء باق، ممتدّ، حقيقي وسامٍ. أريد أن أبقى مع شخص واحد نتبادل معًا أحاديث ساكنة وهادئة، أستطيع بها أن أعيد صياغة الفوضى داخلي وأن أعطي للأشياء بعد ترتيبها أسماءً وعنواين. أشعر بالحاجة إلى حديث صادق ممتدّ طويل هادئ، لا يثير فيّ أي نوع من الاستفزاز أو الرغبة في الجدل والمشاجرة، يريحني ولا يزيدني قلقًا، يمتصّ التوتّر داخلي ويأخذني إلى برّ مستقرّ آمن. أشعر أنني أريد أن أركّز على شيء واحد وأعمل فيه بجدّ، وحب، وهدوء، بشكل لا يشبه المذاكرة السريعة ولا العمل على أبحاث الجامعة، بطريقة لا تشبه العمل في الأوقات المضغوطة ولا القراءة في المواضيع التي لا تعنيني حقًا. أشعر أنني أتوق إلى الصدق الخالص، إلى أن أعيش بصدق لا تشوبه أيّ شائبة ماديّة أو شيء من الزيف. أشعر أنني أكره الأشياء الغالية والحفلات الصاخبة والنفاق الاجتماعي أكثر من أيّ وقت مضى. أشعر أنني لا أستطيع أن أمثّل أو أجامل، وأتمنى أن لا يضطرني أي موقف إلى أن أقوم بذلك فيما سيتقدم من حياتي، في الشهر القادم على الأقل. أشعر أنني أريد أن أرفض كل ما لا أريده حقًا، وأن أسعى إلى كل ما أريده حقًا، دون أن أتنازل. لا أريد أن أتنازل عن أيّ شيء أريده بصدق. حياتي الماضية كانت محفوفة بتنازلات عظيمة في مقابل أشياء لم أكن متأكّدة من أنها كانت تستحقّ. أشعر أنني أضعت الكثير منّي ولا أريد أن أفوّت ما سيأتي كما فعلت في الذي مضى. أشعر أنني أريد أن أصمت كثيرًا، لوقت طويل، أن لا أضطرّ للكلام. أشعر أنني أريد أن أكون محفوفة بمن أحب وأثق طيلة الوقت. أشعر أنني أريد أن أعطي وأنا صامتة. أشعر أنني أريد للأشياء الحقيقية أن تتسلّل إلى داخلي، للكلام الحقيقيّ الطاهر، للأناس الحقيقيّين، وأن يقوموا بدورهم بنفض غبار الزيف عن قلبي. أشعر أنه كان بوسعي أن أفعل ما لا أريد في الوقت الذي مضى، وأنا أدرك ذلك، وأن الوقت قد حان حتى أتوقف. أشعر أنني وصلت إلى النقطة التي لا أستطيع من بعدها أن أتحمّل، وأنني متعبة ومجهدة من كلّ ماهو زائف وغير حقيقيّ، وأنني لا أستطيع أن أخوض في جدال لا يفضي إلى معنى، أو إلى نتيجة تعنيني، أو تعني حصول السلام في هذ العالم. أشعر أن لديّ الدافع الكافي لأقوم بما أشعر أنه صحيح دون أن أسائل وأن أضيع وقتي في التساؤل. أشعر أن الوقت يمضي وأنني كنت غافلة عن مضيّه بهذه السرعة، وأن الوقت قد حان حتى لا أسمح له بأن يتغافلني أكثر، وأنّه عليّ أن أكون حقيقيّة فيما سيمضي بنسبة ١٠٠٪، وأن أيّ زيف من الممكن أن يجعلني أنفجر، وأنني أحتاج إلى المراعاة حتى أستطيع أعود أمشي، وأنني أحتاج من يحملني على الصعود، وأنني في أضعف وأقوى مراحل حياتي، وأنني ضائعة جدًا بقدر ما أعرف ما أريد، وأنّ المزيد من الحياة يشكّل كل اللامعنى بقدر ما أجد المعنى وأراه بوضوح رغم بعده الشاسع عنّي. أشعر بأننّي في حاجّة ماسّة للاستقلال واتخاذ القرارات عن نفسي، بنفسي، وأن أتحمّل نتائج هذه القرارات، وأن أدرسها بطريقتي، وأحجم عنها لأنني وجدت في اتخاذها ما يسوءني أو يسوء العالم. أشعر أنني لا أطيق اتباع الأوامر أكثر، أوامر ليس لها معنى، لمجرّد أنّ عليّ اتباعها. أشعر أن ذلك يستهلك منّي الكثير، من وقتي وجهدي وتفكيري، خصوصًا وأنا أحاول أن أجد المبرّرات في أن ما فعلت كان ينبغي أن يكون، وأن أقنع نفسي أنني بالتنازل أكون شخصًا جيدًا وغير أنانيّ. أكره أن أكون أنانيّة، ولكنني أشعر أنّه في هذه المرحلة بالذات أحتاج أن أفكّر في نفسي قليلًا، أن أفهم ما يدور داخلها، ومن ثمّ أستطيع -بعد أن أجد ما أتكئ عليه- أن أقدم التنازلات، وأن أكون متكّأً للآخرين حتى يجدوا متكّأهم كما وجدت أنا. عندما يسقط جسدي ويصبح غير قادر على الحراك أكثر، كما يفعل الآن، أدرك بوضوح كم جعلته يتحرّك فيما لا ينبغي، أو فيما هو غير حقيقيّ، أو أنني حمّلته أكثر ممّا يطيق، فيما لا أريد، وأنه كان من المفترض أن أوجّه طاقتي فيما أشعر أنني أريد فعله حقًا. أفتقد أختي كثيرًا. أكثر مما أطيق. أفتقد وقتي الخاصّ. كثيرًا. أشعر أنه ينبغي أن أعيش وحدي في الفترة القادمة، في الشهر القادم، حاجّة ماسّة لا يغني عنها أي شيء آخر. أشعر رغم ذلك أنني بحاجة للكلام مع عاقل، لا يملك وصاية أبويّة عليّ، ولا يزيد عمره عن الخامسة والثلاثين، أو من الممكن أن يزيد بشرط أن لا يشعرني أنني طفلة، وأنه يكبرني ويعرف الكثير مما لا أعرفه، لذا أنا أشعر بما أشعر، وأن يكون ردّه الوحيد على تساؤلاتي هو أنني سوف أفهم مع الوقت، دون أن يساعدني على أن أفعل. أشعر أنني أريد أن أكمل العمل على مشروعي. أشعر أنني أريد أن أقضي كل وقتي في شيء ذو معنى، كل وقتي، ولا أبالي، مهما كان ذلك مجهدًا. أشعر أن فكرة الجامعة تزيد مرضي وتجعلني أريد أن أتقيّأ. لا أشفق على شيء في نفسي سوى اضطراري للذهاب إلى تلك الحمقاء الفارغة؛ الجامعة. أتناساها عمدًا كلما سألني أحد عنها، كلّما يصلني على بريدي شيء منها، ولا أستطيع أن أنسى. أخاف مجيئها، والوقت يمضي رغمًا عنّي. أشعر أن أهم شيء أفعله في حياتي الآن هو أن أجد مخرجًا يجعلني لا أذهب إليها. ذكراها تجعلني أشعر بهمّ يخرّب عليّ كل محاولات السعادة والاسترخاء، هي الخطر القادم ولا شيء غيرها. حياتي كانت لتكون جيدّة جدًا لو كنت لا أدرس، أو لنقل، لو كنت أدرس في مكان أفضل. كم أتوق إلى الدراسة في مكان أفضل، ليس للحصول على شهادة أفضل، ولا لأن أذهب إلى حرم جامعيّ أرحب، ولكن حتى أعيش بشكل حقيقيّ أكثر، يحترمني، يحترم أن أسأل، يحترم أن أبحث عن المعلومة الحقيقيّة، ولا يضطرني إلى اعتلاف المعلومات في وقت قصير ليس لشيء إلا لأفرّغها. أريد أن أذهب إلى مكان لا أشعر حينما أذهب إليه أنني بهيمة تعتلف ثم تقضي حاجتها. هذا الشعور هو أسوأ شعور يمكن أن أشعر به في حياتي. أكره ذلك. أكرهه بشدّة، أكثر من أيّ شيء. تلك الجامعة زائفة كلها، تافهة كلها، خرقاء كلها، والكل فيها أخرق، والكلّ فيها زائف جدًا، جدًا، أعني: جدًا. لن تصدّقوني ما لم تجرّبوا. لا يعنيني فيها شيء، وأنا لا أعنيها. أكرهها بكل ما أوتيت من طاقة للكره. وأكره كل ما يشبهها، وكلّ من يريد أن يقنعني بأنّ فيها ما يستحق الذهاب والمحاولة، لأنني حاولت خلال سنتين، وأشعر أنني أضعت وقتي. أنا قد أضعته فعلًا. أشعر بالجوع، بطني تؤلمني لفرط ما أنا جائعة، ولكن ذلك لا يهمّني. مستعدّة لأن أشعر بالجوع طيلة عمري إن كنت أفعل ما هو أهمّ. النوم لا يعنيني، والأكل لا يعنيني، والكلّ يعرف ذلك، لأنني أتوق لما هو أكثر، لما هو أسمى. لا الملابس ولا الحقائب ولا الأحذيّة. أريد أن أبدو جميلة دائمًا، بشكل بسيط ونظيف وهادئ. بالبساطة وحدها. أريد أن أبدو جميلة بطريقة حقيقيّة، والقليل من المكياج لا يضرّ. أحبّ في المرض أنّه يشعرني بالخفّة رغم الثقل.. ثقل الجسد وخفّة الأغشية التي أرى بها الأشياء. ثقل الرأس وخفّة الأفكار، سرعة تدفّقها، وضوحها.. ورغبتي الحقيقيّة في كل ما هو حقيقيّ. أشعر أن جسدي حين يثقل، تثقل معه رغبتي في كل ما هو أرضيّ، فتظهر رغبتي بكلّ ماهو سامٍ عنه جليّة واضحة. أشعر أنني حين المرض أعرف ما أريد حقًا. وحين السفر كذلك. حينما أبتعد، أرى الصورة واضحة. حينما أكون هناك، حيث أكون دائمًا، أشعر أن كل ما أريده هو أن أبتعد، وهذا ليس حقيقيّ. حينما تصل إلى أقصى ما ظننت أنك تريده، تستطيع أن تنظر إلى الخلف، ترى ما فعلت، ثم تحدد ما تريد حقًا. الرغبة في السفر تكون ملحّة حينما يبدو كلّ شيء مضجرًا، وأشعر أنها منفذي الوحيد. حينما أفعل، لا توجد عندي رغبة أبعد، لا أشعر أن البعد حل، أفهم أن فيه لا يكمن الحلّ، وأستطيع بعدها أن أراجع أموري بوعي أكبر، دونما رغبة في الهرب، لأنني في صلب الهرب. أنا قد هربت، وليس بعد الهرب إلّا العودة. بالهرب أستطيع أن أعود إلى مكان جديد دائمًا، يقترب من مكاني القديم ولا يكون هو بالضرورة. في كل بُعدٍ فرصة للعودة إلى مكان جديد. وإن عدت إلى نفس المكان، فستعود بروح جديدة، وأنت تنظر إلى الأشياء بطريقة مختلفة، فلا يعود المكانُ هو المكان بالنسبة إليك، وهذا هو المهمّ. أن تتغيّر أنت فيتغيّر هو. لا أستطيع أن أقول أنني بهذا السفر هربت، ولا أستطيع أن أقول أنّه غيّر فيّ شيئًا، ولكن حصل وأن سافرت، وحصل وأن ابتعدت، وذلك بحدّ ذاته شيءٌ.. ما. أريد أن أ ع و د. ولكن لا أريد أن أعود إن لم تحصل الأشياء التي أريد لها أن تحصل. في الواقع، أريد أن أعود في كل الأحوال. ليس في كل الأحوال بمعنى (كل الأحوال) ولكنّي أريد أن أعود، بصدق. لأوّل مرّة أشعر أنني أهرب دونما رغبة في الهرب. رغبت بالهرب، ورغبت بالبعد والتغيير، ولكن ليس في هذا الوقت بالذات، ولا بهذه الطريقة. حصل وأن حدث، حاولت أن أتقمّص دور الهارب، ولكنّها تأبى أن (تزبط معي). هذه الحياة فوضى، كلّها. هذه الحياة عبث. تحصل الأشياء حينما لا نريد لها أن تفعل، وحينما نريد ذلك بقوّة، تصمد صمود الجبال، ويستحيل حراكها. الانسجام مع حركاتها الغريبة متعب، متعب جدًا، وكثير على متعبة مريضة مثلي، كما هو متعب أن ترحل أختي. أفتقدها بجنون. الحياة تحصل، وأجدني في كل مرحلة فيها رغم ضوضائها وازدحام الأحادث فيها- أشتاق أختي. لا يجوز للحياة أن تمضي وأختي ليست موجودة بجانبي، أختي التي ولدتُ وهي موجودة دائمًا. لا يجوز ذلك! ربما لو عادت أختي لكان كلّ شيء على ما يرام، ربما ذهاب أختي هو سبب كل هذه الفوضى. لا أعلم. أنا أشتاقها وحسب. هذا يكفي على ما أظنّ، أشعر بالراحة لأنني كتبت بعد شهر لم أستطع فيه أن أكتب كلمة واحدة مفهومة، ولم أتكلّم فيه مع أختي بشكل كافٍ. الكلام علاج، وتدفّق الأفكار على شكل كلمات، لسبب ما، يجعل التنفّس أكثر سلاسة. أتعلمون؟ أشعر أنني أريد أن آكل الآن. وأنني قادرة على المشي، وأن رأسي أخفّ. 

الاثنين، 20 يونيو 2016

عن نسب الفضل

تخيل لو أنك بعد سنين من المحاولة والبذل والكدّ والتيه والدعاء تحصل على النتيجة التي لطالما كنت تحلم بها، على نجاح أو وظيفة أو.. شريك! تخيل أنك تجد يومًا بعد يوم أن شريك الحياة الذي اخترته ودعوت الله ليلًا ونهارًا لأجل أن يكون الشريك الذي تريد- هو الشريك الممتاز والمناسب والمفصّل تفصيلًا،، تخيل لو أنك بعد مضيّ سنين من حيرة وضياع وعثرات، تجد الحل جوابًا شافيًا، وأن الحيرة التي مضت كان أسئلة فتقت أوجه الحل، وكانت سببًا في بنائه طوبة طوبة، خطوة خطوة،، تخيل لو أنك كنت تتألم وتكره ألمك، وتحاول أن تتشبث بخيوط الإيمان ما استطعت، وأن تفهم الحكمة من وراء كل ما تجده، ثم بعد فترة تفهم كل شيء، وتنظر وراءك لتجد أن الألم بتدبير عجيب أوصلك إلى مناطق ما كنت تحلم للوصول إليها، أنه أكسبك صحبة في الطريق كانت سلوى وأنس امتدت بعدها صداقة عمر، وأنه جعلك ترى أنوارًا وتخوض آفاقًا، وفوق كل ذلك زودك بالقوة اللازمة والحكمة المطلوبة حتى تمضي فيما ستمضي،،

 تخيل أنك بعد كل ما تجد من مستقبل مضيء يجيب عن تساؤلات الماضي، وبعد أن تجد في الماضي الذي كرهت خطوات مهدت طريقك الذي تحب، فتحب كل خطوة عبرت من خلالها،،

 تخيل أنك بعد كل ذلك لا تجد من تنسب إليه فضل التدبير، فضل الاطلاع على الأسئلة التي تمزقك في داخلك، فضل العلم بصدقك في شق الطريق الفهم؛ لتجد من بعد ذلك جوابًا مفصلًا شافيًا، وتجد إيمانك السابق مجديًا، مجديًا جدًا، ومفضيًا إلى كل ما تحب!

 تخيل أنك بعد كل ذلك لا تستطيع أن تنظر إلى فوق وتغمض عينيك في لحظة صدق وفرح تعجز كل الجوارح عن التعبير عنه، وتقول في سرّك شكرًا يا رب، شكرًا لأنك تطلّع على السر، شكرًا لأنك أقرب إليّ مني، شكرًا لأنك لا تضيع إيمان المؤمن وصدق الصادق ومساعي الساعي، شكرًا لأن كل شيء سابق في علمك، شكرًا لأنك تعرف الماضي والحاضر والمستقبل وتدبّره كله في حكمة بالغة، تخفى علينا في حين لتشع أنواره في حين لاحق.

 تخيل أنك لا تستطيع أن تنسب كل الفضل الذي تجد لرب واحد عالم مدبر هادٍ؟ تخيل أنك في أوج فرحتك تنسب كل ذلك لنفسك وأنت تعرف أنه ما جاء من نفسك،، تخيل أنك في لحظة الدهشة السعيدة تلجأ إلى أن تنسب كل ما وجدت بيأسٍ إلى الصدفة.. الصدفة ذاتها التي لجأ إليها داروين ليفسّر وجود الروح الأولى. أجزم بعظم الخيبة التي تُلجئ الطبيعيين أمثال داروين وأتباعه إلى نسب الفضل كله والإعجاز كله إلى الصدفة.. أشفق على كم الوحدة والحيرة، على الخيبة واليأس، وأشكر الله لأنه الله، لأنه هو الرب، لأنه العظيم صاحب الفضل، لأنني أستطيع أن أنسب إليه الفضل بعلم تام بأنه هو صاحبه، بيقين تام وحب تام..
 لأن هداني أولًا لأن أؤمن به إن استحالت طرق الوصول ومعرفة الحكمة في علمي القاصر، وأن أشكره بعد أن تتجلى لي الحكمة وأفهم، فأزداد به يقينًا، وله حبًا.

 أنت الأول والآخر والظاهر والباطن.. سبحانك. 

السبت، 21 مايو 2016

عمّا مضى

بعد كل عام، أو كل فصل دراسيّ، أخرج عادة بصورة واضحة عن الدروس التي تعلمتها والتجارب التي خضتها، عما أضافه إليّ الزمان وما أخذ، ولكنني هذه المرّة لا أشعر بدافع قويّ لا لشعور مشابه ولا للبوح عنه، لذا فسوف أعتصره اعتصارًا. الفترة القادمة ستكون مختلفة تمامًا، وإن لم أعي كيف مضى الذي مضى، لن يكون للماضي قيمة أدركها، ولن أفهم كيف ينبغي عليّ أن أمضي فيما سيأتي،، وحين يحدث ذلك، تكون المحصّلة الوحيدة هي الندم والندم وحده، والندم مريع ومخيف.

على أية حال..

دعوني أتحدث عن الفصل الثاني بشكل أكثر الدقة، فلا شيء في الفصل الأول يستحقّ الذكر سوى بحثيّ الذين تعبت فيهما بجهد شخصيّ بحت، والضغط الدراسي الذي استنزفني على غير سنعْ. 

في الفصل الدراسي الثاني قررت أن أركز على الأنشطة اللامنهجية كمصدر للعلم والتجارب والخبرات، وأن أعطي الجامعة قدرها الذي تستحقه، وكان ذلك قرارًا حازمًا اتخذته بعد أن أعطيت الجامعة في الفصل الأوّل بإخلاص حقيقيّ، وأنجزت أبحاثًا وتكاليف كأفضل ما يكون، وأبدعت وإن لم يطلب مني الإبداع، وحضرت وإن كان الحضور مضيعة للوقت، وشاركت وإن كانت المشاركات من النوع الذي تطول معه الحصّة فتتذمر منها الطالبات، دخلت في نقاشات داخلية وخارجية مع كل الأساتذة والأستاذات، عرفت كيف درسوا وكيف انتهى بهم المطاف إلى تدريس المادة التي يعطونها، زرتهم كثيرًا في مكاتبهم، ولم يعد كل ذلك عليّ بشيء أذكره وأحبه وأسعد به اليوم، سوى القليل، القليل الذي لا يتناسب مع الكثير الذي أعطيت، وهذا هو الغبن، هذا هو الغبن.

كم معدّل رضاي عن نفسي في ذاك الفصل؟ لا شيء يذكر، لنقل ٢٠٪. المحصّلة الوحيدة هي تأكّدي التامّ من أن الإخلاص في المذاكرة والإعداد لمتطلبات الجامعة ليس هدفًا، والدرجات الكاملة لا تجلب لي الرضى، ولا السعادة، وليست من العلم الذي أدعو به الله عندما أقول "ربّ زدني علمًا" في شيء، إي والله. كلها من نوع احفظ واستفرغ، ما عدا مادة  الـhistory للأمانة، كانت المادّة الـ(وحيدة) الثريّة.

نتاجًا لذاك القرار الذي كان حبيس عقلي اللاواعي، حصل الآتي: كنت عضوة مع مجموعة، لنسمّها رقم (١)، وصاحبة مشروعين، لنسمّ الأول رقم (٢)، والثاني رقم (٣)، وعضوة في فريق، لنسمّه رقم (٤). 

التجربة رقم (١) لم تكن ذات أثر محسوس، ليس الأثر من النوع الذي أعرفه عندما أراه، ولا الذي أشعر به في اليوم التالي.. المحصلة التي خرجت بها كانت من النوع الذي أذكره ولا أنساه، هي درس وصفعة، درس أتعلمه بعد أن أتذوق مرارة الألم والحيرة في آن.

ما حصل هو أنني كنت لا مرئيّة حينما لا يراد لي أن أكون، ومرئيّة حينما تأتي الأعباء الحقيقية التي لا يقدر عليها سواي، ليس لشيء إنما لصعوبتها وقدرتي على تحملها دون الآخرين. لم أمانع أن أكون لا مرئية في البداية، لأنني لم أكن هناك لأظهر أصلًا، ولكن المشكلة كانت أكبر من ذلك، كانت كالدود الذي ينخر التفاحة من الداخل ولا تكاد ترى له أثرًا في الخارج، كالفساد الذي ينخر الهيكل من داخله. لم أشعر بالوخزات الأولى، ظننتها آلامًا أتوهمها، كنت أبتلع الغصص بابتسامة كبيرة، كنت أحسبها أعراضًا عادية، صداع ما بعد الدوام، التعب المصاحب للسعي، الكبد الذي يلازم الحياة، ولكن عندما حان الوقت، وهو سوف يحين عاجلًا أم آجلًا، شعرت حيال الوخزات المتكررة بشعور حادٍّ بوجود خلل ما. ذهبت إلى الطبيب، وكان كذلك. كنت ألوم نفسي، ألوم إرادتي على ضعف تحملها لما تواجه من آلام وخز عاديّة، ولكنها ما كانت عادية، ولم يكن ضعفًا، وما كنت أنا محلًا للّوم. الحقيقة كانت جارحة ونفسي تأذّت كثيرًا من لوم لم تستحقّه.

صرت أرى الأمور بعدها بمنظار مختلف، جمعت الحقائق، حللت المعلومات المعطاة، وكان فعلًا هناك خلل. بعد كثير مناوشات ونقاشات، بعدما تأكدت من أكثر من مصدر، عزمت على اتخاذ إجراء ما، خطوة ما، موقف ما. كانت هذه الخطوة صعبة جدًا، وثقيلة على قلبي، فأنا ما زلت أتمسك بموقفي القديم، بهم، بالأشياء الحلوة التي خططنا لها معًا، ولكن التنازل كان واجب، كان دواءً مرًّا. تخبطت وترددت كثيرًا وقتها ثم عزمت. عندما مرّ الوقت وهدأت الأوضاع، وحصل الذي كنت أخشى حصوله بدوني، لم يكن الأمر صعبًا أبدًا. لم يفتني شيء، والحياة سارت على عهدها الطبيعيّ ولكن دون المزيد من الوخزات، بعزّة أكبر، بصلابة أكبر. لم يفتني شيء! آه ما أجمل أن تعطي نفسك قدرها، آه ما أجمل أن تنسحب حينما يكون الانسحاب موقفًا قويًا وقرارًا لازمًا. كان درسًا صعبًا صرت من بعده أقوى بكثير، وأرى من بعده الدنيا بنظرة أحدّ بصيرة وأكثر حكمة. وداعًا للسذاجة، أهلًا بالفهم، أهلًا بالوعي، والوعي والله لا يأتي على طبق من ذهب.

كان الموقف (١) دفعة كبرى لحصول القصة (٢)، الفقرة الوردية من الفترة التي مضت من حياتي. كانت (٢) مشروعًا حلمًا، قصة منسوجة في خيالي الورديّ، أنام وأصحو عليها، أحدث بها أختي ليل نهار، أخطط لها وأنا لمّا بدأت فيها. كنت أحبها قبل أن أبدأها، ولا أنتظر سوى قدر ما يدفعني للتنفيذ. حصل ما حصل في (١)، فلم أتردد. كان الدافع مزيج من ردة فعل وحماس دفين، موجود وخامد. كان الموقف (١) سببًا كافيًا لتجاوز المخاوف والبدء بالتنفيذ مباشرة، فله الحمد على بلائه الذي لا يكتفي بجلب التعافي، بل لمزيد إرادة وهمة وقوة أتجاوز بها مخاوف لاحقة. بدأنا كما تبدأ البدايات، ساذجة، هلاميّة وغريبة. من الغريب أن تعمل على شيء لا وجود له، من الغريب واللذيذ والمخيف. لم أرض عنه حتى تجاوزنا الخطوة الثالثة، حيث بدأت تشعّ الأنوار وتزهر الآمال، حيث بدأ الربيع واخضرّت الأشياء في عيناي. بكيت يومها من فرط الرضا والتعب، فقد كنت مستيقظة لفترة طويلة، طويلة جدًا، امتدت من الطائرة التي عدت فيها وحيدة (لأول مرة في حياتي دون أي مرافق) إلى المحطة الأولى ثم إلى هناك. كنت سعيدة، سعيدة جدًا، سعادة لا تسعها كلمات الدنيا ولا قلوب العالمين. له الحمد، له الفضل. التدرج سنة الله في الكون، والبداية لا تكفي، والاستمرارية وحدها ترينا كيف تبدو الأشياء حينما يكتمل نموّها فتزهر، والسعي عند الله لا يخيب، والله لا يخيب، والله لا.. له الفضل كله. هذا المشروع من النوع الذي يُحفظ في مخزن الذاكرة، أستعيده حينما أشعر باليأس وعدم الرغبة في مواصلة الحياة. ذكراه تفيض عليّ بشعور أحبه وأعرفه. هذا المشروع من النوع الذي أتغيّب بسببه عن حدث هامّ جدًا، ولا أنام بسببه ثلاثة ليالٍ متواصلات بابتسامة كبيرة، وأخجل لأجله من فكرة الهجرة أو الانتحار، وهكذا.

القصة (٣) قصة لم تكتمل، ليست سعيدة تمامًا، ولكنها محاولة، محاولة ستثمر في وقتها، أخذت مني بعض الوقت والجهد، عولت عليها كثيرًا لحل الكثير من المشاكل، وأظنها سوف تفعل، أظن ذلك. أنا لست متأكدة من دوري فيها، ولا من الناتج، ولا من الأشخاص الذين أتعامل فيها معهم، كل شيء هلاميّ ومجهول بطريقة ليست مشوّقة. أفكر كثيرًا بالانسحاب.. أنا في الحقيقة لا أعرف. 

القصة (٤)، أوووه، هذه القصة مليئة بالمغامرات. حصلت فجأة، بطريقة مربكة لشخص مثاليّ جدًا مثلي. استشرت كثيرًا قبل البدء فيها، وكان ذلك مثمرًا ومفيدًا. بعدما رصصت كل التوقعات والمكاسب والخسائر، ووضعت لنفسي مؤشر نجاح معقول، كانت النتائج مرضية جدًا. أوه يا أصدقائي، الاستشارة مهمة بطريقة لم أتوقعها، وتجعل التجارب ذات عائد جميل يبعث على الرضى، ويجعلك تستمتع بتفاصيل الرحلة الجميلة بدلًا من أن تنشغل بالمخاوف التي لم تكن لتتوقعها لولا الاستشارة. كانت هذه القصة مليئة بالسفر، وكنت أحب ذلك، ولأجله خضت ما خضت. لم أكن أحب الأجواء، لم أكن أحب نفسي فيها، لم تكن تشبهني، ولا تناسبني، ولا ترحب بي كما أنا، كنت أشعر فيها بالضغط من النوع الذي يجبرني على التخلي عن أشياء جوهرية في سبيل التماهي. لم أفعل، فلم أنسجم بشكل كافٍ، ولكنني أحب الكثير من المواقف التي حصلت آنذاك. معيار النجاح الذي وضعته لنفسي تحقق بامتياز بفضل التوقعات التي جهزت نفسي لها. أتعرفون ما الشيء المميز من كل التجربة؟ المواقف التي لم أتوقعها، والأشخاص الذين ما خطر على بالي أنني سوف أقابلهم. أنا توقعت ما كنت بحاجة إلى أن أستعدّ له نفسيًا، ولكن ما أقصده هنا هو الإضافات المفاجئة التي تصاحب التجارب الجديدة لزامًا. المفاجآت التي خبأتها لي هذه التجربة كانت تفوق دائرة خبراتي البسيطة، كانت شيئًا خااااارجًا عن الصندوق، أوه، كانت أبعد من أبعد التوقعات، ورغم صعوبتها أحببتها من قلبي. هي من النوع الذي لا يتحدث عنه ولا يكتب عنه، تسرد في الذاكرة مصوّرة وحسب. أستعيد منها لحظات ولقطات، وأضحك بيني بيني، وأتأمل كم كبرت، كم صرت أعرف أكثر، كم من الزوايا صار بمقدوري أن أنظر من خلالها إلى الحياة. كانت هذه التجربة كبسولة مركزة عبرت من خلالها.. كانت محطة تسريع، كبرت فيها كما لم أكبر في محطات الحياة الأخرى. كنت أخبر صديقتي: أشعر أن اللحظات صارت ثقيلة ودسمة ومتخمة بالمعنى. كانت حياتي تمشي على رتم بطيء، ولكن في هذه التجربة، صارت تمشي برتم سريع، أحداث مركّبة تجر بعضها، أشخاص كثر أقابلهم في اللحظة الواحدة، ألف رسالة أرسل، ألف اتصال أجري، ألف فكرة أفكر بها حيال ألف شيء وشخص وحدث، يمرّ اليوم فلا أعود أعي كيف بدأ وكيف انتهى. أيامي فيها كانت ليست كالأيّام. بفضل هذه الحركة غير المعتادة في حياتي، صار شعوري حيال الأشياء من حولي أكثر تلوّنًا. كم تتلون الحياة بالحركة، كم تحلو بالإضافات الجديدة على مرارتها أو حموضتها أو تطرّفها في طعم أو شكل دون آخر. خرجت من منطقة الراحة بشكل مخيف وممتع، فاتسعت من بعد ذلك الدائرة، تمامًا كما يحصل عندما يلقي الواحد فينا بنفسه في مسبح بارد.. يبرد في البداية، ثم يتقن السباحة رغم البرد، ويستمتع بها.

هذا بالنسبة للجزء الأول من الأشياء الهامة التي حصلت لي في الفصل الفائت، الجزء الثاني ذا طابع مختلف، يرتبط بالأشخاص أكثر من ارتباطه بالأشياء، و لعلّي أتحدث عنه في تدوينة منفصلة.

دمتم أكثر شجاعة، وأكثر تقدير لأنفسكم، بعيون أكثر اتساعًا، وهمّة أكبر للمضيّ في المجهول، وماضٍ تحبونه وتفخرون به كمحطات هامة في تشكيل ذواتكم.