السبت، 17 أكتوبر 2015

هيه.. أنا أختنق!

أنا أشعر بالاختناق، وهذا كلام مجرد من كل الحلول المفيدة والكلام المنطقي، أحاول به أن أسرب بعض الدخان الخانق وأجد من خلاله فتحة، أي فتحة، مهما كانت حقيرة أو صغيرة أو.. لا يهم.

مسافة لزجة ومائعة ما استطعت يومًا أن أحدد مكاني فيها، بينهما، هي المسافة التي تفصل بين الحياة التي أودّ أن أعيشها، وبين حياتي التي أعيشها كل يوم. حتى أكون صادقة مع نفسي ومعكم رغم كل الإيجابية التي حاولت اجتلابها مع بداية هذ العام الدراسي، أنا لا أحب حياتي تمامًا. ليس الأمر كما قد تظنون؛ أعني، الأمر لا يتعلق بالناس حولي، ولا بشكلي، ولا بوضعي الاقتصادي، ولا بمنزلي.. المشكلة كل المشكلة تكمن في الشيء الذي أقضي جلّ وقتي فيه كل يوم، ومعظم الهمّ الذي يدور بالي حوله: الجامعة، أو لنقل: حياتي الدراسية. لطالما كرهت وضعي الدراسي.. أنا ما أحببته يومًا، وسلوا عني صديقات المدرسة وزميلات الجامعة وأساتذتي في كل مكان. ربما ليس العيب في كل المؤسسات التعليمية التي ذهبت إليها وكانت التزاماتها جزءًا كبيرًا من حياتي، وليس العيب فيّ.. أنا أعلم يقينًا أن هذا ليس عيبًا أعيب به نفسي ولكن.. بعيدًا عن أفكاري السابقة المثالية عن مؤسسات التعليم التي ما فتئت أرددها، وبعيدًا عن كل الانتقادات والامتيازات ودوري المفترض حيال الواقع الذي ينبغي أن أتقبله،، الشيء الوحيد الحقيقيّ الذي أشعر به الآن، وشعرت به دائمًا، هو أنني لا أحب حياتي الدراسية هذه، التي تؤثر بالضرورة على حياتي عامّةً. أنا لا أريد أن أنتقد نفسي ولا الدراسة.. أنا لا أريد أن أتكلم بمنطق تقبلونه حتى، أريد أن أشعر فقط. الشعور أعمق من المنطق على أي حال، والعاطفة تسمو على العقل لو كنتم تعلمون. 

ما يحصل كل يوم تقريبًا هو أنني أسابق الزمن حتى أكمل بحثًا أو أذاكر اختبارًا، أقتصّ الوقت الذي أقضيه في شيء أحبه أو سؤال أبحث من خلفه عن معنى، حتى أكمل أشياء الجامعة وأؤديها على أكمل وجه،، بنيّة من يريد الخلاص من عبء ثقيل يتجدد على ظهره، لا إقبالًا عليها وحبًا فيها. أبرر لنفسي: ما دمت دخلت في هذا المشروع الدراسيّ الذي يلزمني بالذهاب إلى الجامعة صباحًا كل يوم، وسأقضي أربع سنوات كاملات فيه.. على أي حال، فلأؤدّ ما هو مطلوب مني؛ علّي أحظى بشيء من الفائدة المرجوة، كشهادة بمعدل عالٍ أدخل بها جامعة مرموقة مثلًا.. وهذا في الواقع هو كل ما يهمني،، رغم أنني أتحرّى الصدق بحثًا عن السؤال الضالة في كل موضوع بحث يخص مادة ما.. وللأمانة فقط، الشيء الوحيد الذي أحببته من كل العام الماضي هو الأبحاث.

قدر الله أن لا يكون محيط الجامعة مكانًا أشعر فيه بانتماء أو حب متبادل.. حاولت كثيرًا وفشلت المحاولات، وإن كنت لم أحاول بعدُ كفاية، ولكنني أعلم أنه لن يناسبني.. على أي حال. قد يعود السبب إلى المحيط ذاته أو إلى شخصي أنا مثلًا، والأرجح أنه يعود لاثنينا. تحزنني هذه الحقيقة بقدر ما تريحني: أنا لا أنتمي إلى الجامعة، ولا الجامعة ترحب بي. لا المجتمع ولا الأنشطة و.. لا شيء.. لا أجد فيها شيئًا يجذبني أو يستحق مني أن أمكث في الجامعة فترة أطول من الفترة التي أقضيها في الفصول الدراسية. أنا لا أطيقها أتفهمون؟ نعم، أنا لا أطيقها. مع كل الاحترام، أنا لا أحب الجامعة. هل هذه مشكلة أخبروني؟ هل يحب أحدكم الجامعة حبًا صادقًا ينبع من داخله، أو أنه ما فكر صدقًا بشعوره تجاهها، فهو بدلًا من أن يرهق نفسه بالتفكير فضّل أن يسلّم بحبها؟ هيا أخبروني! لا.. لا تخبروني. أنا لن أفعل إن فعلتم.. على أي حال. أقفل الملف. 

إن لم أكن أحب دراسة فيها ولا نشاطًا، لكم أن تتخيلوا أنني كلما فعلت ما فعلت لأجل شيء يتعلق بالجامعة، أشعر أنني أموت! نعم، في كل مرة شيء مني يموت، يتحوّل لونه إلى الرمادي، يذبل ويفقد لونه وبريقه، يحترق فلا يبقى منه إلا.. الرماد. نعم أنا أستفيد رغمًا عني تجاه الجهد الذي أبذله في الحصص الدراسية، وفي المنزل، وأحب المعلومات الجديدة أيًا كانت، وأحب أن ألقى تقديرًا وأن أحاول وأن أتحدّى نفسي في كل مرة ولكن، لم كل ذلك لا يشعرني بالسعادة؟ لم كلما فكرت بالموضوع بشكل جدّي تتجمع الغصص في حلقي وأوشك أن أبكي لفرط الاختناق؟ لم أشعر أن الجامعة تخنقني وتربط أطرافي وتجبرني على تجرع المعلومات؟ أعني.. أنا أبحث عن المعلومة دائمًا وأحبها، ولكن لم كل معلومة تتعلق بالجامعة أنا أكرهها إلى هذا الحد؟ أنا لا أكره تمامًا كل المعلومات المتعلقة بالجامعة، أنا أحب مادة العقود وأستمتع بها تستفزّ عقلي حين المذاكرة، ومع ذلك، رغم كل شيء، أنا أشعر بالاختناق. حاولت أن أنسجم مع واقعي هذا، أن أجعله ينساب فيّ ويذوب.. فأذوب فيه.. ولا أشعر به عبئًا ثقيلًا ولا عقبة تقف في الطريق. لم الذوبان عصيّ عليّ إلى هذه الدرجة؟ لم يستعصي عليّ أنا؟ ما مشكلتي؟ ما مشكلة الجامعة؟ ما مشكلتنا؟ 

وضعوني في إناء ثم قالوا لي تأقلم.

هي مشكلة ليست ذات حلّ أنا أعلم.. هي مسألة وقت وصبر. أنتظر الوقت يمرّ بطيئًا وأصبر حتى ذلك الحين. هل، حتى ذلك الحين، سيظلّ الأمر يخنقني كما هو الآن؟ أخشى أنني في لحظة التخرج سأشعر بحب تجاه المكان وحزن على فقده. إن أتمنى حصول ذلك فأنا أتمنى أن يحصل الآن، ليس حينما يحين وقت الخلاص المنتظر. أخاف أنني بمرور الوقت سوف أتشكل خضوعًا واستسلامًا من فرط الاختناق على الشاكلة التي تليق بطالبة جامعية سعيدة. حينها، ستكون كل الأجزاء فيّ قد ماتت.. سوف يكون رأسي محشوًا بمعلومات قانونية بالشكل الذي يجعل منه مملًا جدًا، وآليًا جدًا.

 قال لي أحدهم شكوت له كرهي لوضعي الدراسي مرة، أنني: ممتلئة بالطاقة، وأن ذلك يعجبه. سألته: وكيف ذلك؟ كيف تجدني ممتلئة بالطاقة وأنا ما فتئت أشتكي ذبولًا واختناقًا؟ أجابني: أنتِ لفرط الحيوية تشعرين بكل ما تشعرين، وتفكرين بما تفكرين. طاقتك تمتد إلى الجامعة حتى أقصاها ثم، لفرط امتدادها، تعود إليك على شكل خيبة. أسعدتني هذه الفكرة جدًا، وشعرت بعدها أنني مفعمة بالحياة. منذها وأنا أخشى أن أفقد الطاقة التي أحبها فيّ ولا أريدها أن تتبدد من هذا الاختناق. في كل مرة صرت أشعر بالعبرة وأتجاهلها عنوة بل وأسخر منها، في كل مرة أبتذل في الذوبان، وأفتعل ابتسامات بلهاء، وأحاول أن أبدو ككل الطلبة السعداء الذين لا يجدون أي مشكلة مع واقعهم ولا جامعاتهم، أشعر أن طاقتي تقصر، ورغبتي في الحياة تضعف. صرت أشعر أنني أريد أن أنتهي فقط، أريد أن أعيش لينتهي هذا الجزء الخانق من حياتي. والمضحك أنني عندما أجدد خيبتي تجاه الجامعة أشعر أنني حية وحقيقية أكثر! الحقيقة هي أن حقيقتي لا تتجزأ من كرهي لهذه المؤسسات التعليمية. أنا حقيقي إذًا أن أكره التزامات الدراسة.

في كل مرة أختلس فيها الحياة بين التزامين جامعيّين، أفرح وأنتشي وأحب الحياة، ويعود الموت يتسرب إليّ حين العودة لذاك الذي أكره ويخنقني. "إنما العيشُ اختلاسُ". لم لا يكون كل العيش من قبيل هذه الاختلاس الذي أحب؟ هل سيكون له ذات المعنى إن كان مجردًا من التزامات أكرهها من قبله ومن بعده؟ أنا لا أعلم حقًا، ولكن أعلم أن للحياة أشكالًا أخرى أجمل من التي أعيشها بكثير، وهي ممكنة الحصول في حالتي أنا، وفي عمري أنا. كل المخططات الحلوة الكبيرة تدمرها، تلك الكريهة. أنا لا أريد أن أبذل جهدًا أقل مما أستطيع.. أريد معدلًا مرتفعًا يدخلني جامعة مرموقة. معدل الثانوي والقدرات والتحصيلي المرتفعين، ما دخلت بهم الجامعات التي رغبت فيها لأن.. *محا أتكلم عن الموضوع طبعًا*.  لست أرغب فيها لكونها جامعات مرموقة، ولا لأنها تدرس موادًا أرغب فيها حقًا.. لأنها، ببساطة، جزء من حلم قررَت نفسي أن تتبناه يومًا. أن أدرس مع نخبة الطلبة من أنحاء العالم عند أساتذة أدرس على أيديهم الكتب التي ألفوها هم.. هذه فرص أحلم دومًا أن أحظى بها. هكذا هو الموضوع لا أكثر. لا أريد أن أقيّم أحلامي الآن ولا أن أدرس أسبابها حتى أغير خطتي في جديتي تجاه التحصيل العلمي الآن، لأن هذا ليس محور نقاش أحلام، هو محور تحلطم من الجامعة فقط.

أنا كل ما أتمناه هو أن لا أشعر أن الزمن يشكّل مشكلة، وأنني في طريقي للبحث عن معلومة تبرق لها عيناي شغفًا، لا التزام يقاطعني ويجبرني على تولّي أمر معلومة أخرى هي كالحجر الثقيل على قلبي. أنا أحصّل علمًا في الحالتين.. دعوني أفعل ذلك على الفطرة، على الطريقة التي يرتاح لها قلبي، ويحفل لها عقلي. أنا أريد أن أشعر أن لا شهادة تنتظرني ويتوقف عليها مصيري رغمًا عن أنفي. أريد أن يكون الموضوع ممتعًا وأحبه لا أكثر. هذا جلّ مناي. أنا أشعر أنني أموت حينما أتذكر الجامعة، وأنا ببساطة، أريد أن أحيا. أخرجوني من هذا السجن، سأطير بعيدًا أعدكم، واسدوا لي خدمة بأن تنسوْا أمري. 

سفّرني ع أيّ بلد.. واتركني.. وانساني. 

انسوني لعام، لعامين.. أوقفوا الزمن الذي سأتوقف عنده حتى أعود لكم بعدها بحلّ. الاختناق يشوّش فكري وأنا الآن، لا أريد إلا بعدًا وصفاءً وحياة تخلو من شيء اسمه الجامعة.