الاثنين، 30 يناير 2017

عن التّقيّؤ

أستعمل عادةً لفظة "التّقيّؤ" أو "الاستفراغ" أو "الغثيان" للتّعبير عن كلّ الأشياء المقزّزة الّتي أواجهها في حياتي بشكل روتينيّ.. يدرك الأشخاص المقرّبون منّي أنّها صفات أساسيّة موجودة في قاموسي، وأحسب أنّني أفعل ذلك تأثّرًا ببثينة العيسى، وتحديدًا، برواياتها "ارتطام لم يسمع له دويّ" و"سعار" وربّما "عروس المطر"، فالشّخصيات الأساسيّة في كلّ منها تتقيّأ كثيرًا. أجد أنّني أحيانًا أضع التّقيّؤ في الكلام الّذي أسوقه كحدث يجعل السّامع يظنّ أنّني قد تقيّأت فعلًا، وأنا بوصفي ذاك لم أكن أقصد سوى أن أعبّر عن قرفي، فأستطرد موضّحة بأنّني لم أتقيّأ فعلًا، إنّما كان الأمر مقرفًا كما لو أنّه جعلني أتقيّأ.. فعلًا. الـ(irony) في الموضوع هو أنّ التّقيّؤ يصيبني بالهلع. كنت أقضي وقتًا طويلًا في صغري أدعو اللّه فيه بأن لا تقترب الحشرات من منزلنا، وأن لا أتقيّأ في حياتي ما حييت. المرّة الّتي أذكر فيها موقفًا واضحًا في طفولتي كان له الأثر في جزعي من التّقيّؤ هو رحلتنا إلى لبنان. أتذكّر أنّنا كنّا نمشي في المساء، ووجدنا في قارعة الطّريق ممرًّا صغيرًا، فدخلنا فيه. كان الممرّ ينخفض ويلتوي كلّما مشينا، حتّى وصلنا إلى نهايته حيث كانت هناك هاوية عظيمة. كنّا على حافة جبل وكان المنظر مرعبًا وغير آمن أبدًا، لم يكن يعزلنا عن السّقوط سوى بضع شجيرات. أعادانا ماما وبابا بسرعة إلى حيث ابتدأ الطريق. سبقنا بابا. جلس أمامنا عند مبتدأ الطّريق ثم تقيّأ، وبكيت أنا. كان المنظر مرعبًا. عدنا إلى الفندق، وبدأت أختي بعد عودتنا إلى الفندق نوبة تقيّؤ طويلة. كنت في الغرفة المجاورة للغرفة الّتي تتقيّأ فيها أختي أسد أذناي وأبكي. عندما فرَغَتْ من الـ.. تقيّؤ، ذهبنا إلى الصّالة، وأعدّت لي والدتي كوب حليب نيدو حارًّا. ما لبثتُ أن أنتهي من آخر رشفة منه حتّى تقيّأته كلّه، ومن بعدها ما عدت أستطيع أن أشرب حليب نيدو حارًّا لأنّه يجعلني أشعر بالرّغبة بالتّقيّؤ في ظلال ذكرى التقيّؤ الأوّل منه. لا يزال الرّعب مستمرًا حتّى اليوم، كلّ شيء إلّا التّقيّؤ، والحمدلله أنّني من أولئك الّذين لا يتقيّؤون إلّا نادرًا،، في حالات المرض العصيبة فقط. 

حصل وأن تسمّمت غذائيًا قبل ثلاثة أيّام. عشت يومين كاملين من المجاعة والتّقيّؤ، كانت بطني خربة، وكنتُ أنا -كما تصفني ماما- خرقة بالية. قضيت يومي وحيدة في البيت عندما بدأ كلّ ذلك. يومها، كان ينبغي أن أذهب إلى حفل زفاف ما باسم أمّي حتّى "أوجّب" عنها، اتفقنا وانتهى الأمر، رغم أنّني كنت أكاد أبكي لفرط ما كنت أكره أن أذهب. ذهبت قبلها إلى ثلاث مناسبات شبيهة تتطلّب مكياجًا كاملًا وتصفيف شعر كامل ولباسًا غير مريح والكثير الكثير الكثير من المجاملات. انتهى وقتي الخاصّ، وتبخّرت الإجازة وأنا أوجّب وأذهب هنا وهناك وأصلح ما ينبغي إصلاحه في حياتي الاجتماعية غير المستقرّة؛ حتّى لا يغضب منّي الآخرون. كنت أظنّ أنّ توجّعات بطني البسيطة أرسلها الله لي لتكون عذرًا أستخدمه لكيلا أذهب، اقتنعت ماما به وأحسستُ أنا حيال تعذّري عن الذّهاب عوضًا عنها- بالذّنب. عندما خرجت ماما، قلت لها: أشعر أنّني أخونك. ردّت: لا، أنتِ متعبة وينبغي أن تستريحي، ورفعت عنّي بذلك -قدّسها الله- الشّعور بالذّنب. قضيتُ يومي بمشاهدة مسلسلي وشعور ينبّئ بأنّ شيئًا ما ليس على ما يرام، رغم أنّني ما أكلت شيئًا منذ استيقظت. عندما جاءت السّاعة الثّالثة بعد منتصف اللّيل شعرتُ أنّني كدت أهلك من فرط الجوع، فأعددت وجبة بيض. انتهيت وشعرت بالهناء، وذهبتُ أنام. استيقظت اليوم التّالي وتقيّأت ألف مرّة. جاءت أمّي فزعة من حيث كانت، وأعطتني كلّ ما ينصح به الأمّهات، وتقيّأته كلّه بكلّ لا اكتراث. ليس خطئي على كلّ حال، كانت بطني هي من تقرّر ذلك. 

انتصف اليوم وأنا خرقة بالية جدًا. لم أكن أعي ما يحصل حولي. أسمع ماما تقول: سنذهب للطّوارئ. استدعت السّائق وألبستني العباءة وذهبنا. كنت أظنّ في السّيارة أنّني كنت أموت، بعد استماعي لقصّة وفاة حمزة إسكندر -رحمه الله- الّذي توفّي قبل أسبوع عند باب المستشفى حسب رواية أختي الصّغيرة. صرت في السّيارة أحسب أيام صيام القضاء، وأفكّر في الأمانات الّتي ينبغي أن تعود لأهلها، وممّن ينبغي أن أعتذر منه وهكذا. كنت أنتظر أن يمرّ عليّ شريط حياتي ولكنّه لم يفعل. كنت أكاد أخبر ماما عمّا ينبغي أن يتمّ عندما أموت، لولا أنها كانت تقبض على يدي اليسرى بقوّة، فحجمتُ عن ذلك ودعوت: يا ربّ امنحني المزيد من العمر حتّى لا يتقطّع قلب هذه الأم الطّيبة القلقة، ومرّت على ذهني أبيات درويش: "وأعشق عمري لأنّي إذا متّ أخجل من دمع أمّي".

كنت لا أعي ما يحصل حولي، نصف وعي، بل ربعه. أُساق إلى حيث تريد ماما، أجلس حيثما تقرّر هي، لا أعرف ما الّذي يحصل، لا أدرك ملامح الأماكن الّتي ساقتني إليها لأنّني لا أقوى على فتح عيناي. انتظرنا طويلًا، وماما المتوتّرة بدورها كانت تذهب وتجيء وهي تحاول أن تجد لي سريرًا ما، تتّصل بمن تعرف وتبحث عن الدّكتور المسؤول حتّى تشرح له حالتي بنفسها علّه يتعاطف ويتعجّل. انتظرنا حوالي أربع ساعات حتّى سمعت صوتًا رجوليًّا يحدّث ماما ويقول: وصلتني مكالمة من الدّكتور -يقصد والدي- وقد كلّمت الدّكتور -يقصد الدّكتور المسؤول عن حالتي- وسوف يوجدون لها سريرًا الآن. كان الرّجل هو جارنا صديق بابا. أحمد الله في سرّي لأنّني ما عدت أطيق انتظارًا في غرفة الانتظار هذه الباردة كالثّلج. أرسلت أمّي السّائق ليحضر لي وسائد ولحافًا من المنزل حتّى أقضي وقتًا مريحًا قدر الإمكان في مكان غير مريح أبدًا، ريثما يتوافر لي هذا السّرير الخياليّ. كانت المكان باردًا جدًا، أعني جدًا، وعلى مريضة مثلي كان الوضع لا يطاق. كان هناك صراخ وصياح، هناك من يسعل وهناك من يعطس، ومع كل سعال كانت أمّي تحاول أن تدير وجهي إلى نواحٍ أخرى حتّى لا تصيبني عدوى من أولئك المرضى المنتظِرين الّذين لم يشخّص حالتهم أحد بعد. لو أنّ أحدهم كان يحمل فايروسًا ينتقل بالهواء لأصاب كل من في المكان بلا شكّ. يا ربّ احمل فيروسات هذا الّذي يسعل بجانبي بعيدًا عنّي، قني من العدوى يا ربّ.. مناعتي لا تحتمل.

مرّت السّاعات الطّوال عليّ في غرفة الانتظار بشكل أسهل من تلك الّتي مرّت على ماما، فقد كنت أنا غير واعية تقريبًا، في حين أنّها كانت واعية وقلقة وبردانة وواقفة معظم الوقت، تحدّث هذا وتتّصل بذاك. أنا.. لا أعرف كيف أعبّر عن امتناني لقلب هذه المرأة. أوجدوا لي سريرًا.. أخيرًا، في اللّحظة الّتي قرّر فيها صديق والدي أن أنتقل إلى مستشفى آخر، تحديدًا عند وصول سائقنا واستدعاء صديق بابا لأولاده بسيّارتهم حتّى يرافقوننا. ولداه الّلذين صارا قادرين على القيادة فجأة، هم أنفسهم أولئك الأطفال الّذين كنت أستمتع بمجيئهم عندنا. كانوا يحضرون أفلامًا ويفتحونها في تلفاز الصّالة الكبير حتّى نتفرّج عليها سويّة. كانوا يقومون مقام الشّرطة الأخلاقيّة إذا ما جاء مشهد غير لائق: يفزعون إلى التلفاز ليغطّونه بأيديهم ريثما يسرّع أحدهم الـDVD حتّى تنتهي اللّقطة. كانوا هم أنفسهم -ولا يزالون- يحضرون كلّ أسبوع تقريبًا حيوانات جديدة في منزلهم، أرانب أو ببّغاوات أو فئران أو كلّ ما يمكن تخيّله وتوفّره أماكن بيع الحيوانات. في شهر ذو الحجّة الماضي، أحضروا ١٢ دجاجة وديكًا، وضعوها خارج المنزل هذه المرّة في قفص كبير مكشوف فوق المنطقة الفاصلة بين منزلنا ومنزلهم. كانت لعبتهم المفضّلة في الماضي هي الإتيان بالحيوان الجديد والدّخول به عليّ في الغرفة وأنا نائمة، فأقوم فزعة وأهرب، ويضحكون. 

على العموم،،

دخلنا الغرفة المقسّمة إلى ستّة أو ثمانية أقسام مفصولة بستائر، أجروا عليّ تحاليل سريعة، ووجّهوا أسئلة إلى ماما الّتي كانت لا تصيب عين الدّقة أحيانًا، فأضطر رغم تعبي إلى محاولة تصحيح المعلومة. لم يكن يسمعني أحد، فكانت تقطع الحديث وتقرّب أذنها منّي، وأضطرّ أنا لإعادة ما قلته. انتهت فقرة الاستجوابات، وجاءت الممرّضة أخيرًا، ممرّضة هنديّة جميلة ترتدي نظّارة دون إطارات كالّتي كنت أرتديها في المرحلة المتوسّطة، وتبتسم طيلة الوقت. تحدّثها أمّي بالإنجليزيّة وتردّ عليها بعربيّة مكسّرة. كلّما كانت تهمّ بعمل شيء مؤلم كسحب دم أو تركيب جهاز إيصال المحلول إلى وريدي، كنت أطلب من ماما قبلًا أن تأتي إلى جهة اليمين حتّى أستطيع أن "أفعص" يدها رغم أنّني فارغة من كلّ أنواع القوّة الّتي لها أن تحثّني على الـ"التّفعيص". تظلّ الإبرة فيلم رعب مهما تقدّم بي العمر. أتذكّر المرّة الأولى الّتي اضطررت فيها إلى أخذ إبرة في مستشفى، كنت أبكي خوفًا. أخرج أبي قلمًا من جيبه وصار يحاول أن يبسّط الأمر لي ويجعله أكثر قبولًا عندي، مشبّهًا وخزة الإبرة بوخزة القلم، وراح يوخزني بالقلم بلطف في مرفقي. ضحكت، ثمّ بكيت مجددًا عندما وخزتني الإبرة الحقيقيّة. التطّور الوحيد الحاصل الآن هو أنّني لا أبكي، طبعًا، أو أحيانًا، وأستطيع أن أصرف نظري عن الإبرة الّتي تدخل جسدي.. أتألم فقط، وأخاف كثيرًا. 

تسلّل الجلوكوز إلى جسدي ببطء. بعد وقت ليس بقصير صرت أتكلّم مع ماما بشكل طبيعي وأرى الأشياء حولي بوضوح، ثم أدركت أنّني قادرة على فتح عيناي، وقادرة على الكلام، وسرّني ذلك. شعرت أنّني أملك الدّنيا. كم هو قدّيس هذا الجلوكوز! تقول ماما أنّني حييت بعد موت. أنظر إلى الأنبوب المتّصل بي.. يبدو أنّ الجلوكوز توقّف عن السّريان إلى جسدي حدّ أن دمي تسرّب بشكل عكسيّ إلى الأنبوب. أخبر ماما أنّ هنالك شيء ما غير طبيعيّ يحصل في الأنبوب المتّصل بوريدي. تنادي بقلق على أيّ دكتور موجود، لأنّه في هذه المستشفى ما من أحد يهتمّ بك حتّى لو كنت على وشك الموت إن لم تتفطّن أنت لما تحتاجه وتطالب به بإصرار. جاءت الممرّضة وأوقفت هذا التّسرب بأن فصلت الأنبوب، وتركت إبرة الوريد ملتصقة بجسدي. لم أطق الجلوس في ذاك السّرير أكثر، قفزت منه على الأرض، وأخبرت ماما أنّني أريد أن أحرّك رجلاي في ممرّات المستشفى. مشيت، وأظنّ أنّ النّاس فزعوا لأنهم رأوني قبل قليل مستلقية وشبه ميتة، وأنا الآن أمشي أمامهم كجنّيّة. لم أتمالك قواي لأنّ العالم بدأ يتذبذب من جديد فعدت. كالعادة، أتسرّع النّتائج وأظنّ أنّ فعلًا واحدًا كافيًا ليصل بي إلى حيث أريد، إلى التّعافي التامّ. أخبرنا الدّكتور أنّه ينبغي أن أبيت في المستشفى، شعرت في البداية بالـ"حماس" لأنّني ما كنت قد جرّبت مرّة أن أبيت في مستشفى، ولكن بعد كلّ الانتظار القاتل والهدوء القاتل والإزعاج القاتل الّذي وجدته في هذه المستشفى أصررت على الرّجوع، فأخبرني بأنّه ينبغي عليّ تجربة شرب عصير ما؛ فإنّ استقرّ في بطني أستطيع أن أعود، وإن لم يستقرّ، فلا بدّ من المبيت. انتابني شعور بالبكاء لأنّني كنت أعلم أنّني سوف أتقيأ كلّ شيء ما دامت كلّ العصيرات الّتي دخلت بطني قبل عدّة ساعات كنت قد تقيّأتها كلّها. 

الحياة في المستشفى قاتلة بكلّ ما تعنيه الكلمة من معنى، وفي تلك الغرفة بالذّات، الوضع لا يحتمل. كانت بجانبي فتاة تبكي كثيرًا وتلعب بالآيباد بصوت عالٍ جدًا جدًا جدًا، بجانبها -حسب حدسي وإدراكي السّمعي- فتاة تعاني من الرّبو، ويبدو أنّ الحالة اشتدّت عليها ممّا اضطرّها إلى المجيء إلى الطّوارئ. كانت قد باتت في المستشفى مرّة واحدة فقط حسبما أخبرَت الدّكتور، ويبدو أنّها لا تعرف أسماء أجهزة الرّبو لأنّ الدّكتور كان يحاول أن يستعلم عنها مشيرًا إليها بالألوان والأحجام والأشكال. في الجهة المقابلة لهذه الفتاة كانت هناك فتاة أخرى تبكي وفمها مغلق بشكل لا ينقطع، تصدر صوتًا يشبه الأنين، ولكنّه كان بكاءً. أخبر الدّكتور والدها أنّها ينبغي أن تبيت لأنّ العمليّة سوف تُجرى عليها غدًا صباحًا، وردّ الوالد باعتراض وفجيعة بأنّه لا يمكن لهما المبيت في هكذا مكان، مكان عارٍ وباردٍ ومنعدم من العناية اللّائقة، فأخبره الدّكتور بأنّه حرّ في نهاية المطاف ولكنّ هذا هو رأيه، رأي الدّكتور. كانت الفتاة تردّ على والدها وهي تبكي بأنّها تريد أن تذهب إلى الـ"الدّكان" أولًا كما وعدها ثمّ تعود. ياللطّفلة المسكينة. 

في كلّ فترة، يجب أن تراودني نوبة بكاء عنوانها "ليش ما اتخصّصت طب". كلّ الرّسائل الإلهيّة والنّصائح في حياتي والتّوقعات من قبل المقرّبين إليّ كانت تشير عليّ بأن أتخصّص في الطّبّ، ولكنّني كنت أحدس منذ بدايات المرحلة الثّانويّة أنّه ليس مكاني، أنّ رسالتي في هذا الوجود تختلف عن ذلك. كنت بحاجة إلى أفق أرحب، ووقت خاصّ أكبر يسمح لي باطّلاع أوسع. كنت أشعر أنّني أريد أن أتجاوز ذلك، أتجاوز التّحصيل العلميّ. أحبّ أن تترك لي مساحة للتّفكير والإضافة والرّبط، وأكره أن أتعرّض لحقائق علميّة بحتة. كنت هذه الأيّام في خضمّ شعور ينبّئ بنوبة شبيهة بعد خوضي حديثًا عن "النّاس الرّهيبين" مع صديقة أختي المتخصّصة في الطّب، والّتي حكت لي خلاله عن أناس أذكياء جدًا يشبهون أولئك الّذين في الأفلام، وأنّهم موجودون على أرض الواقع، هناك في مجتمع الطّب. حكت لي عن الجوّ هناك، عن الفرص، عن الاستشاريين الّذين "ختّموا" العالم وكل الأشياء الرّائعة الممكنة في سنّ صغيرة جدًا، حدّثتني عن طبيعة حياة أحبّها، أحبّها أكثر من هذا الغباء الّذي أعيشه، والّذي أدركت كم هو مقزّز وباعث على التقيّؤ بعد دخولي للجامعة، واختلاطي بأناس لا يريدون أن يتعلّموا، وهمّهم، جلّ همهم هو عدم الرّسوب، ومحاولاتي الحثيثة الفاشلة في حوار أساتذتي عن سبب تدنّي مستوى العطاء العلمي، والّتي كان يُجاب عليها بـ: هذا هو مستوى الطّلاب، لا نستطيع أن نجعل الموضوع أكثر تعقيدًا لأنّ الكلّ سوف يرسب بهذه الطّريقة. نعم، هذه إجابة مقزّزة وغير مقنعة وباعثة على التقيّؤ، ولكن مستوى الطّلبة واستعدادهم لتعلّم أيّ شيء مقزّز أيضًا وباعث على.. التّقيّؤ. كلّ شيء في تخصّصي ومجتمع التّخصّص باعث على التّقيّؤ،، ولكن، بعد خوضي لهذه التّجربة الغريبة في المستشفى، أدركت بأنّه رغم سموّ مهنة الأطّباء ونبلها- فأنا لن أطيق البقاء في هكذا مكان لساعات طوال، وأنّني أتماهى أكثر مع أجواء المحامين والمحاكم، ليس لشيء، ربّما، إلّا لأنّني تعرّضت لتخصّصي مدّة سنتين ونصف، ولأنّني أتابع مسلسلات محاماة تجعل الأمر يبدو ممتعًا أكثر. أراحني هذا الخاطر، ووفّر عليّ الكثير من النّدم والدّموع. أريد أن أكون في المكان الّذي أنا فيه ولا شيء غير ذلك.

شربت العصير، انتظرت مدّة نصف ساعة كلّها دعوات باستقرار البطن، ولم أتقيّأ. جاءت الممرّضة بعد دهر لتنزع إبرة الوريد منّي، اتّخذت ماما موقعها بجانبي الأيمن، "فعصت" يدها هذه المرّة لأنّني أمتلك قوّة كافية لفعل ذلك، وضعت الممرّضة ضمادة في المكان وأمرتني "press here" بالإنجليزيّة هذه المرّة. جاء الدّكتور بعد دهر آخر حاملًا وصفة الدّواء في يده ليعطينا إيّاها حتّى نطلبها من الصّيدليّة بالأسفل. أوصلتني أمّي إلى غرفة الانتظار الإسكيمو، وذهبت لتحضر الدّواء. تلحّفت بكل الأشياء وانتظرت دهرًا ثالثًا حتّى أتت، ثم انتظرنا دهرًا رابعًا حتّى أتى السّائق. أمشي في الممرّات بثقة المتعافي ثمّ لا أقوى على حمل نفسي فأتّكئ على ماما، ويراودني حزن بأنّني لم أستعد كامل قوّتي بعد. 

أعود إلى غرفتي أخيرًا! أخيرًا، بعد قضاء يوم كامل في مستشفى متخلّفة، في بلد فيها الرّعاية الصّحيّة متخلّفة جدًا، وأفكّر: ماذا لو لم يأتِ صديق والدي بصوته الذّكوريّ الخشن المقنع كفاية -بالنّسبة لهم- بأنّني بحاجة إلى سرير ما؟ ما الّذي يفعله اللّاجئون والنّازحون والمحاصرون الجوعى وضحايا الحروب بأنفسهم وهم يعانون هكذا جوع دون إبرة جلوكوز تحييهم بعد ممات؟ ما الّذي تفعله أمهاتهم وهنّ يشاهدنهم ينكمشون جوعًا؟ يا الله الطف بهم. تجيء أمّي إلى غرفتي كلّ برهة لتطمئنّ عليّ وتبدي تعجّبها: لقد كنتِ خرقة بالية صباح اليوم! والله لقد كنتِ.. الحمدلله. تحضر لي شوربة مصنوعة من مرق دجاج مسلوق، وتخبرني بأنّها أعدّتها لي على الغداء ظهر اليوم ولكنّني كنت في وضع لا يسمح بتناول أيّ شيء. كانت مياهًا شفّافة ضبابيّة لذيذة جدًا، تناولت ملعقتين أو ثلاثة ونمت.. نمت أخيرًا دون آلام. 

أقضي اليوم ثاني أيّام التّعافي التّدريجي. نمت طيلة اليوم، أعني: طيلة اليوم، أصحو للّصلاة وأنام مجدّدًا، كشبح.، كمومياء. بعد صلاة المغرب، قلتُ لأمّي: عن إذنك، سأعود إلى سباتي الشّتوي. فضحكت ضحكة كبيرة تبعث على السّعادة لأنّ الوصف كان يعبّر عن حالي بدقّة، ضحكنا. مومياء لا يتقيّأ، هذا ما يهمّ. لا آكل شيئًا، لم آكل خلال ٤ أيّام سوى بضع ملعقات من شوربة استقرّت في بطني، رشفتين من عصير، و٤ ملاعق لبن، ورغم أنّ بطني تصدر أصواتًا إلّا أن الأمر لا يزعجني، ما كان يومًا شعور الجوع مزعجًا بالنّسبة لي. في الحقيقة أنا معتادة عليه، حتّى أنّني أستطيع "تصفيره"  فلا أعود أشعر به. المزعج هو أنّني لا أملك طاقة للقيام بأيّ شيء قيّم رغم أنّني اتّخذت عهدًا على نفسي ساعة المرض بأنّني عند العافية سأقوم بكلّ الأشياء القيّمة عملًا بـ"اغتنم خمسًا قبل خمس.. صحّتك قبل سقمك". أتذكّر أنّ أستاذة الرّياضيات في المدرسة كانت تردّد ذلك في كلّ حصّة كنّا نخبرها فيها بأنّنا لا نريد درسًا ما دمنا متقدّمين بشكل كبير عن الشّعب الأخرى، وكانت لا تفتأ تردّد: اغتنم خمسًا قبل خمس، حتّى، حصل وأن توفّي زوجها، واضطررنا للتوقّف عن أخذ دروس رياضيّات فترة ريثما أوجدوا لنا أستاذة أخرى، ولم نتأخّر عن المنهج رغم أيّام التّوقف الكثيرة لأنّ أستاذتنا كانت تحرص على اغتنام الفرصة الأكيدة عوضًا عن التّسليم لمستقبل غير أكيد. هذه الذّكرى لا تفتأ تفجعني وتذكّرني بالحديث، وأنا اليوم، أدركه بكلّ حواسّي وشعوري.

أكملت الآن ٤ ساعات مستيقظة وذلك يسعدني جدًا. أشعر أنّني حيّة من جديد. لم أتقيّأ شيئًا اليوم سوى القليل في الصّباح. أقبلت على الكتابة عندما شعرت أنّني أكاد أدوخ من جديد، أردت أن أقاوم التّعب بالكتابة، وها قد نجح الأمر. حاولت أن أقرأ التزامًا بالخطّة الّتي وضعتها لنفسي خلال الإجازة، كتابًا لا رواية، إلّا أنّني سمحت لنفسي بالبدء بإحدى روايات معرض الكتاب تقديرًا لحالتي الصّحيّة ووعيي النّاقص. قرأت ٧٠ صفحة ونمت كثيرًا خلالها، ولكنّني أعدّ ذلك تطوّرًا في محاولات اتّصالي بالحياة مرّة أخرى. أشعر أنّني ممتنّة لوجودي دون أن أضطرّ لتفسير ذلك، ممتنّة لأنّني أعيش في كنف عائلة، في بيت، وأشعر بالحنق عن كلّ من لا يستطيع،، عن كلّ مريض لا يستقبل عناية صحّيّة لائقة، عن كلّ شخص جُوّع، وأبعد عن مسكنه، وأكره كلّ الأسباب المؤدّية إلى ذلك، كلّ الفساد، كلّ الحكّام، كلّ سرّاق الأموال، وأودّ لو أذهب في تظاهرات ما، تشبه تلك الّتي في أمريكا هذه الأيّام، لأدافع عن حقوقهم. أريد أن أدافع عن ذلك بشكل صريح، أصرخ فيه بصوتي، وأغنّي، وأكتب الشّعارات، وأحثّ النّاس فيه على المزيد من الصّياح باستخدام مكبّر صوت. أريد أن أفعل ذلك بشكل مباشر جدًا، بالصّياح وحده. لو.. لو أنّني أستطيع أن أصرخ فقط، أن أصرخ في وجه هذا العالم غير العادل!


الاثنين، 2 يناير 2017

تنفيس، بس كدا

أكتب هنا لأنّ تويتر صار مكانًا ما عدت أفهمه ولا أشعر أننّي قادرة على الكتابة الحرّة السّاذجة فيه. أشعر فيه بالقرف والغربة والوحشة، والقرف، وأنّ أعينًا ما تلاحقني، وأنّني أحتاج إلى غطاء ما. أكتب وأحذف وأكتب وأحذف.. أكره أنّني فورما أنتهي من كتابة شيء ما، هناك، أعود فأقرؤه وأشعره أنّه لا يمثّلني، أنّني غريبة عنه. كلّ ما أكتب في كلّ مواقع التّواصل، لسبب ما خفيّ، صار لا يمثّلني، ولا أعرف أين تكمن المشكلة بالضّبط. وكأنّني ما عدت أعرف أعبّر عن نفسي هناك، وكأنّ كلّ شيء يخرج منّي صار يستحيل إلى كائن مستقلّ له القدرة على تغيير ملامحه بنفسه.

على العموم، أوجدت اليوم بعض المصادر لبحثي عن "ستالين"، هذا الكائن غريب الأطوار. كان ضعيفًا وهشًّا ومجنونًا يختلق العظمة ويصوّرها حتّى لا يكشف أحد حقيقته. الكثير من الدّراسات تشير إلى أنّه كان بأفعاله المجنونة، حين تولّي الرئاسة، يحاول أن يعوّض ما فاته في طفولته.. كان تابعًا لظروفه بشكل واضح لا يخفى على محلّل نفسيّ. كان يُشتم ويُضرب في طفولته حتّى صار يفشي غضبه على شعبه حينما قُدّر له أن يخلف لينين في رئاسة الاتحاد السّوفييتي. كان لا يثق بأحد، ولا يثق بقدراته أحد، فصار حين تولّي الرئاسة يوزّع المخبرين السّريين، ويعلّق صورًا كبيرة في كلّ أرجاء وأزقّة وجدران بلدان الاتّحاد بشكل يوحي بأنّه يراقب شعبه، حتّى أنّ أفراد العائلة الواحدة ما عادوا يأمنون بعضهم البعض، بطريقة تشبه الوضع الذي صوّره جورح أورويل في ١٩٤٨، وستالين كان، بلا منازع، أخًا كبيرًا. كان يستعمل سياسة الخوف والتّخويف، ولا يخاف لومة لائم في القتل. قتل ستالين من شعبه عددًا يفوق الذي مات منهم في الحربين العالميّة الأولى والثانية. كان مخبولًا. أكرهه بشدّة، من كلّ قلبي، وأتمنّى لو يعود فأبصق في وجهه. لا شيء فيه جذّاب، كان كذبةً كبيرة.

الدراسات التي أجريت في كلّ من ستالين وهتلر مهولة، لم تترك شيئًا يصدر منهما، لا حرفًا ولا إيماءةً ولا حتّى الطريقة التي يقف أو يجلس أو يصفّق بها كلّ منهما إلا شملته دراسات المحلّلين والمفسّرين والمؤوّلين. لا أستطيع أن لا أفكّر بعد كل الدّراسات الّتي اطّلعت عليها عن مصير الّذي أكتبه هنا مثلًا. أتساءل عن كيف سوف يبدو المستقبل، عمّن سأصير إليه. أتساءل إن كان ما أنشره بإرادتي سوف يُؤوّل بشكل ما مسخ لا يشبه الذي كان يسكن قلبي/عقلي حينما صدر منّي. أتساءل عن مصير دفاتري، دفاتر مذكّراتي، هل ستحلّلها الأعين عندما أموت؟ ياللهول! أتمنّى أن تتعامل عائلتي مع أشيائي بسريّة تحترم خصوصيّتي، هذا إن افترضنا أنّني سوف، أكون، أكثر من فتاة تهلوس في أنصاف اللّيالي على الإنترنت لغرض التّنفّس والهرب.

عندما أتأمّل العام الفائت، أشعر بتوجّس حيال هذا العام الّذي سيأتي. كان عامي الفائت أصعب عام مرّ عليّ بلا منازع، بعد عام ٢٠١٢. كان حافلًا بالخيبات والمفاجآت والمفاجعات، والفقد، والذهول من فرط بشاعة الواقع. إنجازي الأكبر الذي خرجت منه هو أنّني لم أجنّ. صرت أوعى نعم، وتعلّمت أشياء كثيرة، ولكن هناك أشياء، بالمقابل، أشعر أنّها ماتت فيّ ورحلت إلى الأبد. ربّما هذا الّذي أسمّيه موت هو نضج ليس إلّا. لا أعلم. المهم أنّني تغيّرت، كثيرًا، بشكل صارخ. منذ رمضان الفائت فقط، تغيّرت عندي أفكار كثيرة، أعني كثيرة، كثيرة جدًا، وجوهريّة جدًا، ومفصليّة جدًا. قرأت كثيرًا وسألت كثيرًا عن تلك الأسئلة التي كانت تمزّقني، لم أجد حلولًا كاملة بعد، ولكنّي وجدت الكثير من الإجابات التي أنارت بداخلي أنوارًا هدّأت من روع الجهل عندي. صرت أكثر صبرًا وتريّثًا فيما يتعلّق بالبحث عن الإجابات، ما عادت الأسئلة تقتلني كما كانت تفعل في الماضي، أو ربّما، كلّ الأسئلة الّتي كانت تقتلني وتقضّ مضجعي وتجعلني أبكي قبل النّوم وبعد الاستيقاظ، أوجدت مهدّئات لها. أتساءل إن كانت نوبة التّساؤلات المزعجة ستعود مرّة أخرى، تلك الّتي استمرّت أطول ممّا يجب. 

على طاولة الغداء بالأمس، كان أخي الصّغير يُسابق بين إصبعيه السّبابة والوسطى وهو يقلّد الطّريقة الّتي يتكلم بها معلّقو الكرة، الإصبح الأوّل كان "عبدالله" والإصبع الثاني كان "عبدالرحمن"، أبناء جارتنا. تبيّن فيما بعد أنّه أخذ درسًا في مادّة لُغتي عن سباق الهجن، وأنّه كان يقوم بإصبعيه بسباق هجن لأنّ أبناء جارتنا اسم العائلة خاصّتهم هو "الهجن". ضحكنا لمدّة ٥ دقائق، ثم شرحنا له أنّ المقصود بسباق الهجن هو سباق الجمال، لا سباقًا بين أبناء جارتنا. هذا النّونو الذي لا يكبر، ولن يكبر في عيني أبدًا، لا أستطيع أن لا أراه كائنًا "لزّوزًا" صالحًا للتقبيل رغم أنّه يكاد يصير في طولي. 

*تم حذف ١٠ أسطر كانت مكتوبة هنا لغرض السّتر على النّفس*


خلاص، كفاية. كان عندي الكثير من السّواليف في عقلي ولكن ينبغي أن أكمل ما تبقّى من مهام. الكتابة هنا ممتعة يا جماعة، بخلاف أيّ مكان آخر. تصبحون على خير، يومي غدًا سيكون حاااافلًا جدًا. نتمنّى أن يكون حافلًا بطريقة مُرْضِية، لا مرَضِيّة. هه ه!