الاثنين، 11 سبتمبر 2017

عن الحج، وفقدان الذات واكتسابها.

صباح الخير أيّها العالم البديع. السّاعة ٨:٣٠ صباحًا، وأنا مستيقظة، أتناول فطوري وأقبل على صفحة إلكترونيّة بيضاء لتفريغ رأسي، أليس ذلك رائعًا؟ أشتاق هذا المكان، وكنتُ أنتظر اللحظة الّتي أقبض فيها على المعنى كاملًا من كلّ ما كان يحصل حتّى آتي.. كنت أنتظر كرة الطّين حتّى تجفّ وتتماسك، ثمّ آتي لأرميها في الهواء هنا دون خوف من تفتتها.

كان العام الماضي عصيبًا بالنسبة إليّ، خضتُ في محنه وحيدة، سقطتُ وحيدة وقمتُ وحيدة، ولأجل ذلك فقط، امتلكت صلابة لا سبق لها وثقة مكّنتني من خوض المزيد. وصلت إلى مرحلة عالية من الاعتداد بالنّفس -بشكلّ إيجابي-، كنتُ أحبّ نفسي ومن حولي، أحبّ حياتي وكلّ الأقدار، لا أشواق تبعثر روحي ولا آمال توقعني في هاوية اليأس، وصلتُ إلى مرحلة متّزنة وناضجة بفضل ما مررت، وكنتُ أحبّ كل ذلك، وأظنّني كنتُ بحاجة إلى تجاوزها حتّى أعلو وأكبر.

في هذا الصيف، حصلت مواقف متتابعة عجيبة وجديدة عليّ، تتابع حصولها كالقذائف المصوّبة على وجهي، واحدة تتلو الآخرة، كلمة تتلو الكلمة، موقفًا يتلو الموقف، اندفعت بقوة تجاهي وأنا ما كنت قوية كفاية حتّى أصمد أمامها.. تلقّيتُ كلامًا ما حصل وأن سمعتُهُ في حياتي، ومواقف ما حصل وأن كنتُ مشوّشة أكثر منها في حياتي، وسوء تصرّف ما حصل وأن صدر مني مثيله في حياتي. تفتّتُ. كنتُ فتاتًا وكانت الريح قويّة كفاية حتّى يتوزّع فتاتي في أرض الله فلا أعود بعدها أعرف من أنا. فقدتُ ذاتي، وأنا أعني كلّ حرف عندما أقول ذلك، وكان الشعور غريبًا جدًا، وأستطيع أن أقول بأنّها المرة الأولى الّتي أفقد فيها ذاتي وأنساها بهذه الطريقة. ما عدتُ أعرف من أكون، ما أحب وما أكره، من أحبّ ومن أكره، لما أفعل ما أفعل، ما أودّ فعله، مالا أودّ فعله.. ما عدتُ أتذكّر حتّى آمالي وطموحاتي وخططي القريبة. نسيتُ كل شيء. لا كيان. جلستُ أيامًا وأنا على حالة البله هذه لا أملك تفسيرًا. عندما امتلكت القدرة على الكلام، هرعتُ إلى الشخص الكبير الوحيد الّذي أثق به، وحجزتُ معها موعدًا للكلام، وكانت لسوء حظّي مشغولة. من لطف الله وعجائبه الّتي لا تتناهى أن ساق لي شخصين من حيث لم أحتسب، جاءاني ولم أطلبهما، وبإصرار منهما حكيتُ، حكيتُ ما لم أتوقّع أن أحكيه لأحد، كنتُ ضعيفة وفارغة، وكانا متّكئين. غمرني حبهما وصدقهما في الرغبة بمساعدتي حتّى فتحتُ قلبي. كلامهما الّذي قالاه لي من قبيل "أنتِ تستحقّين" ما فتأ يطنّ في أذني. تذكّرتُ بسببهما أنّني إنسان، وأنّني لا أستحقّ ما حصل، وأنّني أستحقّ الأفضل، وأنّني لستُ الملامة في كلّ شيء، وأنّني طيّبة، وأنّ الطّيبة ليست عيبًا، وأنّه فليذهب العالم إلى الجحيم، وأنّ الماضي فات، وأنّني قيّمة، وأنّ الحياة لا تتوقّف على بعض النّاس، وأنّ الكلام المؤذي يمكن التّخلصُ منه، وأنّ النّاس ليسوا صادقين كفاية حتّى يعنون كل كلمة تخرج من أفواههم، وأنّه طز، وأنّ الحياة لا تزال طويلة وممتدّة وتحمل المفاجآت، وأنّ رفقتهم هي الكنز والسكن والمأوى، وأنّهم ما داموا موجودين في حياتي فلا شيء يهم، فهمها سقطتُ، بسندهم ذاك سوف أقف وأعلو، وجروح قلبي كلها ستستطيب. كانا مرآتين. رأيتُ من خلالهما المعاني كلّها، والحياة بأبعادها الحقيقّة، ونفسي الّتي نسيتُ. أعاراني ذاكرتيهما، فاستعدتُ بفضلهما مخزونًا معرفيًا يكفيني حتّى أُمضي به الحياة ريثما تتشكّل نفسي من جديد. أراجع كلامهما كتمائم.. في كلّ مرّة يتلو عقلي ما يزعجني، أتلو عليه ما قالا، فأسكُن. كان كلامهما سلاحي الّذي واجهتُ به تلك الأزمة، وسلاح الحبّ لا يصدأ، ولا يخذل.

منّ الله عليّ بالحجّ هذا العام، وكانت تجربة الحج من أروع التّجارب رغم غرابتها. كلّ شيء في تجربتي كان غريبًا، حصلت الكثير من الأشياء النّشاز، إلّا أنّه في آخر المطاف كان حجًّا، والحج رائع مهما حصل. الحج؛ هذا المهرجان العالميّ العظيم الّذي يتجرّد فيه الكلّ ويتساوى: الوجهة واحدة، والتلبية واحدة، والقلب متوجّه إلى ربّ واحد. الشعائر واحدة، وطرق تأديتها واحدة، والطرق الّتي يسلكها الحاجّ في الذهاب إليها واحدة، والعدوّ واحد، والحصى تأخذ من مكان واحد، وتجمع بطريقة واحدة، وكل قلب يلهج بالدّعاء منفردًا؛ فرغم الكلّ الّذي يذوب فيه الفرد، إلّا أنّه ينبغي أن يتفرّد بفلكه الخاص، يدعو، ويطلب، ويناجي، ويذكُر، في خطّ فريد ممتدّ من قلبه إلى السّماء. أحببتُ كلّ الشّعائر، واستمتعتُ بكلّ شيء، وكنتُ لا أفتأ أردّد على مسامع ماما "فعاليات الحج هذه تعجبني!". الحجّ كلّه فعاليّات، مهرجان عظيم غزير بالفعاليّات الجسديّة الّتي يحضر القلب فيها غصبًا ويخشع. قرأتُ قبل الحج الفصل الأخير من كتاب "الطريق إلى مكة" لمحمد أسد، وكتاب صفّة حجّة النبيّ -عليه الصلاة والسلام- "كأنّك معه"، وصرتُ أرى ما كان يقوله الكتابات في ما كنّا نفعل، وأستشعر، وكان ذلك.. رائعًا، وتجديديًا. استطعتُ بالحج أن أنقطع عن كل شيء، عن أفكاري القديمة وعاداتي السّيئة والدنيا بكلّ ما فيها، خصوصًا في أيّام الإحرام، حينما تجرّدتُ حتّى من المكياج والتزيّن والانشغال بشكلي، كنتُ بيضاء، مجرّدة سوى من بياض ردائي، متمنّية بذلك أن يعكس لونه على قلبي، أتأمّل تنوّع النّاس واختلاف اللهجات، صامتة، لا أعبأ بشيء، ولا أكفّ أدعو. أعجبني أكثر ما أعجبني في الأمر كلّه أن الحجّ عبادة جسديّة، فيها تحرّكات رمزيّة، وتوحّدٌ في كلّ شيء، وأنّه وإن كان كلّ ذلك لا يعطي معناه في آنه، إلّا أن انعكاساته على القلب عظيمة وراسخة. كان الحجّ آخر أركان الإسلام ومكمّلها؛ لأنّ به يحجّ المرء -والحجّ معناه القصد- إلى الله بجوارحه كلّها، والمعنى لا يتمّ في القلب ولا يتمكّن منه إلّا حينما يعيه المرء ويتحرّك إليه ببدنه. في حركة البدن تمكين للمعنى وتأكيد عليه، فالأفكار طائرة، والعقل إن نسي الفكرة مرّة، فهو لا ينسى الفكرة المصاحبة للفعل، والشعور المصاحب للفعل، وأفعالُ الحج كلها تحمل قيمة عظيمة من خلفها، تأسّيًّا بأفعال الخليل الحنيف: وقفة عرفة الشبيهة بوقفة يوم الحشر، الذهاب إلى مزدلفة وجمع حصى بحجم الحمّصة، وكلّ له في جمعه طريقة رغم أنّ الوصف واحد، المهمّ أن لا يغلو، ومن ثمّ التوجّه إلى منى لرمي عدوّنا الأكبر عند الجمرات باليد والحصى الّتي جمعناها، وتجربة رمي الشيطان باليد فريدة، وتمدّ صاحبها بالقدرة على التمكّن من وسواسه الخاص بذات الطريقة التي تمكن بها سيدنا إبراهيم على التغلب على إبليس حينما همّ بذبح ابنه، وإن اختلفت الطّريقة الّتي نرميه بها. عندما يتجسّد المعنى الّذي لا تفتأ تفكّر به وتتحدّث به أمامك، ثم تتّخذ موقفًا منه في عالم المادّة، فلن يبرح المشهد قلبك من بعدها، وستتذكر في كلّ مرّة تنسى فيها التعامل مع المعاني في عالم المعاني كيف تتصرّف باستعادة تلك الصّورة الّتي تصرّفت فيها في عالم المادّة. كان ونستون في رواية ١٩٨٤ يقول -فيما معناه- أنّه حينما ينسى أين يكون وماذا يفعل لصخب الأصوات الّتي تحيط به وتشوّشه بفعلها، فهو يتحسّس يده والأرض الّتي يقف عليها، ثم يتذكّر بعدها من يكون. كان لطالما اتّبعت منهجه في تذّكر نفسي والعالم من حولي بتحسّس المواد الدّالة على الأشياء والمعاني والأفكار، وهذا هو سبب هوسي بالاحتفاط بشيء من كلّ شيء، ومحاولة تخزين كلّ ذلك عبر التوثيق الكلاميّ، ومنهج الحج العظيم لترسيخ المعنى يفعل -ربما- الشيء ذاته.

بفضل ما أوحى لي به الحجّ من أهميّة للتحرّك البدنيّ، وعلاقة ذلك بما هو داخليّ وقلبيّ، هرعتُ بعد تجربة التّنقية هذه لترتيب الفوضى داخلي، وبدأ ذلك بأن حزمتُ عزيمتي لتصفية أغراضي وتغيير الغرفة وتبديل الأثاث، تلك العمليّة المؤجّلة منذ مدّة طويييلة. عكفتُ في المنزل ٣ أيّام دون خروج أرتّب فيها ما ينبغي. بدأتُ بدولابي، تناولت ملابسي قطعة قطعة، وأخرجتُ منها كلّ رداء لستُ أرتديه، أو ارتديته مدّة كافية حتّى يتمّ التّخلص منه. دائمًا أنا مترددة بشأن ما يخرج من دولابي، إلّا أنّني لم أفعل هذه المرّة، وتخلصت من الملابس الّتي لا أريد كما لم أتخلّص قبلًا. توجّهتُ بعدها إلى الرفوف، أخرجتُ كلّ ما فيها، نظفتها بسائل تمسيح وخرقة، وأعدتُ ما أردتُ إعادته فيها وأنا أدرك ما تحوي رفوفي الآن قطعة قطعة. انتقلتُ بعدها إلى مكتبتي ومكتبي، أخرجتُ كتبي كتابًا كتابًا، ودفاتري دفترًا دفترًا، وأغراضي غرضًا غرضًا، وخلال كلّ ذلك، كنتُ أصفّي أموري برمي الأغراض البالية الّتي تفيض عن حاجتي، ومسح الأشياء المغبرّة بسائل التنظيف، ومن ثمّ وضعها في حقائب الحزم، ووجدتُ خلالها أشياء ضائعة كثيرة، وأشياء كنتُ أظنّ أنها ليست عندي، وأدوية منتهية الصلاحية، بعضها سائح فوق بعض، مختبئة تحت الرّكام، وذكريات، ورسائل من صديقات، وبطاقات مشاركاتي في نشاطات مختلفة، ودفاتر قديمة جدًا كنت أوثّق فيها كل حرفه أسمعه في كل محاضرة أحضرها بشكل عجيب وسرعة عجيبة، ورسومات تنتظر أن تعلّق على الجدران.. هززتُ لها رأسي هذه المرّة وأنا أعدها بأنّها ستجد مكانها لأنني حسمت أمري للتغيير، وفورما يتجدّد الأثاث سأجد لها براويز حلوة تليق بها. استمعتُ خلال مهمّة الترتيب هذه إلى تلاوات قرآن عذبة وأغانٍ بتوصيات الأصدقاء، ولم أحبّ أيّ شيء منها كما أحبّ اختياراتي القديمة، وتعرّفت بسبب تتالي المقاطع بعضها تلو بعض -وأنا أرتّب- على أغانٍ أخرى حلوة أتوقّف عن الترتيب بسببها لأدرك ماذا تقول. أحببت كل شيء يتعلّق بالتّرتيب والتّفريغ، وأشعر أنّ داخلي ترتّب، ولا زلتُ أنتظر تشكيل الغرفة الجديد الّذي سأسرق منه فكرة عن كيفيّة تشكيل ذاتي.

فعل التّفتّت ذاك لم يكن شرًّا محضًا. أعطتني هذه التجربة المريرة فرصة لبدء صنع ذاتي من جديد؛ تحسّس الركام المتواجد فيها، تنظيفه، وتصفيته من كل ما لا أريد، ولولا تلك الغربلة ما كنتُ استطعتُ إدراك جوانب ذاتي كلّها. أشعرُ هذه اليومين بقوّة عجيبة، وتصالح ذاتي، وسلام، وجرأة كبيرة لمواجهة كلّ ما هو آت. انكسرت نظّارتي في أوائل أيّام الحج، وأظنّ تلك كانت علامة للإقبال على العالم دون نظارة ولا حواجز. ارتديتُ عدسات طيلة رحلة الحج، وعزمتُ بعدها على التخلّص من ذاك الحجاب الّذي أحتمي به من كلّ شيء خشية أن يظهر وجهي كاملًا على الملأ. كنتُ أحبّ النظّارة، وأعدّها قناعًا، ودونها أشعر أنّ الضّوء يخترق وجهي أكثر مما يجب، وأن الناس ترى من وجهي أكثر مما يجب، إلّا أنّني لستُ أشعر بذلك الآن، بل على العكس، أودّ لو أقابل النّاس بوجهي كاملًا، ولا أمانع أن تنساب دموعي صريحة على خدّيّ دون نظارة، ولا أن يرى أحدهم ما تتكلّم به عيناي دون نظّارة. أريد أن أرى العالم، ولا أكترث إن رآني هو، أو حاول اقتحامي، أو تجرأ على وجهي كلّه، فأنا حقيقةً، لا أبالي. أريد أن أتخلّص من كل الحجب وكل القيود الّتي لا أصْل لها، أريد أن أكون. أريد أن أترك شعري مفتوحًا دائمًا، أن أرتدي ملابس فاتحة، وعباءات فاتحة، أن أرتدي أشياء تحمل معنى، أن أرتدي حقائب جميلة مصنوعة يدويًّا، أن أرتدي فساتين أكثر، وتنانير أكثر، أن أبتسم أكثر، وأُقبل على الحياة أكثر، وأكون كما أريد أكثر.

هذه ستكون سنتي الأخيرة في الجامعة، ورغم تجاربي السّيئة معها، وكراهيتي لها، ولنظام التعليم فيها، إلّا أنّني أودّ أن أقضي آخر أيّامي فيها أنشر الحب والابتسامات، وأترك فيها أثرًا طيّبًا، فمهما يكن، فيها أناس طيّبون أحبهم وأخشى فراقهم. أريد أن أقضي وقتي الأخير محفوفة بهم، بعيدة عن غيرهم. أريد أن أسامح كلّ من آذاني وأبتسم في وجهه، أن أخبر المدرّسات المقصّرات أنهنّ مقصّرات كما كنت أفعل ذلك خفية، أن "أطنّش" الفصول الدراسية المملّة أكثر، أن أقصّر دراسيًا أكثر لأنّ معدّلي مرتفع كفاية، أن أجرّب النّوادي القليلة الّتي كنت أشعر دائمًا أنها بغيضة، ومحاولاتي للاستمرار فيها باءت بالفشل، أن أتذوّق أشياء جديدة من الكافتيريا، أن أمشي داخل الجامعة دون عباءة، أن أقول كلمة الحق بالفم المليان، لأنّه لا داعي للدبلوماسيّة ما دمتُ سوف أتخرّج وأرحل إلى الأبد، أن لا أشعر بالرغبة بالمشاركة في المنافسات الّتي تشارك فيها وفود الجامعة، أن أمكث فيها أكثر، ولا أهرب كفأر، فجدولي كخرّيجة سيمتلئ بأوقات الفراغ على أيّة حال. أريد أن أجرّب فرصة حبّها، فرصة حبّ كوني تلميذة في مؤسسة تعليميّة سعوديّة، والأهم من كل ذلك، أن لا أجعلها تزعجني.

الحياة يمكن أن تكون طيّبة، والسقطات فيها تتلوها قوّة ويتلوها علوّ، ولطائف الله تحفّ المؤمنين من كلّ جانب، "فكلي واشربي وقرّي عينًا" حتّى وقت المصيبة، ولا يضيرك أن تصومي عن الكلام وإلقاء الأحكام ريثما تستعيدين القوّة، ففعل ذلك حين السقطة شقاء وتكلّف، وهزّي إليكِ بجذع من يتناولك بحبه وحنانه، ويكون متكّأً وسندًا وعونًا للنهوض، فكما أننا نسقط ببعض، فإننا ننهض بآخرين.