الأحد، 23 أغسطس 2015

نقية؟

لأنها بداية جديدة لا بد لي فيها ولا مناص من وضع تصور جديد لي/لنفسي معها، قررت هذه المرة أن أجرب النقاء.. أن أكون نقيّة، لا ناجحة ولا سعيدة حتى.. أريد أن أكون نقية فقط.

كان عنواني السابق، وشعاري الذي اتخذته لنفسي مع بداية السنة الماضية هو الجنون، وعندما وجدتني غير قادرة على أن أمارسه في تلك الفترة المضطربة، صرت أبحث عن السعادة.. السعادة فقط، كيفما كانت، وكيفما كان السبيل لها.. ولكن يبدو أنني فشلت فشلًا ذريعًا، على أمل أن أنجح هذه المرة التي أظنّ أنني اخترت فيها شعارًا يناسبني، وأحتاج أن أخصصه لنفسي في الفترة القريبة القادمة على الأقلّ.

دعوني أحدثكم عما أقصد بالنقاء هنا.

طيلة السنة الماضية وما سبقها بعدة أشهر، كنت أعاني من فكرتين لا تبرحان بالي ولا تفارق دموعي حضورهما حينما يفتح نقاش يدور حولهما، وهما: (الأنوثة)، و(القانون) تخصصي في الجامعة. وبين هاتين الفكرتين رابط لا ينفكّ، فلا يكاد أن يذكر الموضوع الأول حتى يفتح معه لزامًا نقاش حول الموضوع الثاني.

كنت باختصار -ولا زلت، ولكنني أحاول أن أتحوّل كما يتبين لكم- أشتعل في كل مرة أشعر فيها أن دور المرأة قاصر أو تكميليّ أو غائب، وبررت ذلك مرة بطبيعتها الجبليّة، ومرة بالصور النمطيّة تجاه المرأة في أذهان الرجال والنساء.. حاولت أن أصل إلى حل يرضيني أو جواب يشفي غليلي ولم أفلح. في كل مرة يبرز فيها أخي الأصغر، ويحظى بفرص أتمناها ليس لشيء إلا لأنه ذكر وأنا أنثى، أبكي وأحترق، وألوم نفسي والعالم، وأكره الرجال، كل الرجال، واليوم الذي ولدتني فيه أمي أنثى، حتى أدوخ من فرط البكاء والتفكير فأنام وأصحو ناسية أو شبه ناسية، بقلب هادئ وذهن أكثر صفاء. 

أما موضوع التخصص فلسببين.
 الأول: لأنني أكرهه وأشعر به ليس إلّا دجلًا موضوعًا من قبل أناس عاديين قرروا لهذا العالم أن يأخذ بإجرءات وضعوها حتى يعمل ويسير،، ولكني موقنة بأنه سيقودني إلى ما أريد، وأن به سأملك الأدوات التي أحتاج لأغير ما أغير في هذا العالم..
 والثاني: لأنني أشعر أن أنوثتي تقف عائقًا في طريق التفوق البارز الذي أريده في مجال القانون لأسباب كثيرة، منها أن أمومتي لن تسمح لي أن أمضي وقتي كله خارج المنزل كما يتحتم على امرأة تعمل كسفيرة مثلًا، أو كممثلة مهمة في مجالس مهمة،،
 ولأنه حسب دراسات علم نفس كثيرة، فالمرأة ليس لحضورها القوة التي يتحلى بها الرجل -ليس لشيء إلا لأنه رجل- في نفوس الرجال والنساء.. لأن المرأة ليست الإنسان المؤهل لشغل منصب قياديّ، فالسبل لا تتيسر لها أولًا، وإن شغلت أحد هذه المناصب صدفة أو معجزة، فلن يكون لحضورها قوة كالقوة الذي ستكون للرجل ثانيًا..
 والكلام في هذين الموضوعين (الأنوثة والقانون) يطول.

(تنبيه: بعد سنة من كتابة هذه التدوينة تغيرت أفكاري حيال قضية المرأة بشكل كبير، صرت أفهم أكثر. الكلام المكتوب أعلاه لا يمثلني الآن، فمشّوا حالكم)

إلا أنني الآن، أشعر أنني تعبت.. تعبت كثيرًا، واستنزفت طاقتي في نقاشات وأبحاث لن تعود عليّ بما أريده ويطمئنّ معه قلبي. تعبت من كل شيء أشدّ معه أعصابي وأحاول بشراسة أن أفوز فيه ولا أفوز، أن أفهم فيه ولا أفهم، ليس في الموضوعين المذكورين آنفًا فقط، بل في كل شيء.

تعبت أن أحاول أن أكون الأولى ولا أكون الأولى، أن أريد شيئًا معينًا بذاته ولا أحصل عليه بذاته، أن أكون كاملة في كل شيء ولا أكون كاملة في كل شيء، وإن كان لابدّ مع جهدي المبذول أن أتفوق على الجميع ولكن.. ما إن ينتهي كل شيء وأعود بعدها، لا أشعر أنني حصلت على ما أريد تمامًا. أشعر أن الحروب الضروس التي خضتها لم تكن ذات قيمة حقيقية كما ظننت.. لم تكن تمامًا ما أريد، ولم يكن، تبعًا لذلك، كل الجهد المبذول فيها ما كان ينبغي أن أبذله.. أشعر بقواي قد خارت وأنا ما فعلت شيئًا عظيمًا ولا إنجازًا كبيرًا، ولم أصل حتى لقناعة أنام وأصحو معها بهدوء و..قناعة!

---

أتأمل حولي كل يوم في محاولات لأن أفهم هذه الحياة العصية.. ويتناهى إلى فكري كل مرة، مع كل تجربة، أن الحياة ليست كما نريد لها أن تكون. ليست بالسهولة التي نظنها ولا بالصعوبة التي نخشاها، ليست بالجمال الذي نتمناه ولا بالتعاسة التي نزعمها. هي لغز، شيء مبهم، لا شيء فيها يشبه ١+١=٢ أبدًا.. هي رموز وأشياء طائرة ومعانٍ خفية وكلمات كثيرة تختبئ بين السطور وخلفها وحولها. هي مصممة بطريقة لا يدركها إلا القلب، ولا يفكك مداخلها ولا مخارجها إلا الحكمة. الحكمة! "الحكمة ضالة المؤمن" وضالتي.

الحكمة كما عرّفتها لنا كتب المدرسة: هي وضع الشيء في موضعه.. هذا تمامًا ما أريده، وأظن أن النقاء هو الخطوة الأولى للوصول إليه.

 أن أكون نقية يعني أن أسعى دومًا إلى كل شيء صالح أجده متاحًا، وأسعى لكل عمل خيّرٍ أستطيع إليه سبيلًا. أن أكون نقية يعني ألا أحارب الظروف وأمشي على عكس التيار حتى أنفذ فكرة سقطت على قلبي كوحي من السماء، أن أفكر نعم، وأن أحلم نعم، ولكن في نفس الوقت، أن أوظف المتاح لتحقيق ما أريد، وأن أصنع مما لديّ نجاحات صغيرة أعبر بها تدريجيًا إلى النجاحات الكبيرة.

 أن أكون نقية يعني أن أحب المكان الذي أكون فيه، وأحب الناس الذين يحيطون بي، وأن أحاول بوجودي أن أسدّ كل ثغرة، وأصلح كل خلل، وأن لا تكون طموحاتي العالية ولا أحلامي الرفيعة سببًا في تعاستي؛ لتعثري عن الوصول لخطواتها الأولى بسبب ظروف.. غبية وغير مقنعة!

أن أكون نقية يعني أن أكون مائعًا، ليس سائلًا بل غازيًا.. أن أكون مرنة بالطريقة التي إن واجهني فيها جدار استطعت أن أنفذ من الفتحات الموجودة فيه، وإن كانت كل الفتحات فيه مطموسة، أستطيع بكل مرونة أن أبتسم في وجهه وأدير وجهي بحثًا عن مخرج جديد. أن أكون نقية يعني أن لا أتشبث بفكرة واحدة، ولا بمكان واحد، ولا بشخص واحد ولا حتى بمظهر واحد. أن أكون بلسمًا أينما حللت ومحضر بشرٍ وفأل أينما قدر لي أن أكون. 

أن أكون نقية يعني أن أحب كل صغيرة تحيط بي، أن أشعر بوجود كل الأشياء، وأحفل بها، وأشعر أن حضورها في حياتي هبة ونعمة ومنّة وفضل جزيل أعجز عن شكر الله عليه. أن أحلّق في كل السماءات وأبصر كل الأنوار وأبحث عن أي مخرج، وأحفل بكل مخرج، وأشكّل الصلصال إن توفر لي صاصال لأصنع منه أجمل فخار، أو أنحت الحجر إن توفر لي حجر لأصنع منه أجمل تمثال، أو أرسم بالريشة إن توفرت لي ريشة لأصنع بها أجمل لوحة، أو أكتب بالقلم إن توفر لي قلم لأكتب به أجمل نص. أن أزهر حيثما زرعني الله، وأضع نفسي في الموضع المتاح لها، وأعيش "الحكمة" بعقلي وجوارحي وإمكانياتي كلها.

بعد اطلاعاتي البسيطة على سير من يعجبني إنجازهم في هذا العالم، وجدت أن هذه الإنجازات كانت فرصة في الطريق، وكان من حظِيَ بها نقيًا كفاية ليفوز بها. لم تكن شيئًا مخططًا له منذ الصغر ولا حلمًا يراود أصحابها، إنما جاءت بسبب هواية أو شغف أو صدق خالص أو حرقة على حق أو دماء أو مبدأ. كان هؤلاء الناجحون -الذين أحبهم وأعجب لهم أنا- ببساطة، أنقياء!

جان فالجان، في رواية البؤساء التي تحكي قصة الثورة الفرنسية، شخص نقيّ جدًا، ولربما كان هو الذي فتق هذه الفكرة التي كان تصول وتجول ولم تجد لها ترجمة لائقة كالنقاء. جان فالجان يساعد الكل، أيًا كانوا. هو محضر خير حتى لأعتى الناس وأكثرهم شرًا وإجرامًا، سخر نفسه للخير كان ظاهرًا أم متخفيًا، شريفًا بين قومه أم ملاحقًا ومطاردًا، كان المال الذي معه كافيًا أم غير كاف، كان قائدًا أم مقادًا، كانت الفجوة الذي يسدها مالًا ينفقه أو حجرًا يرفعه أو صوتًا يصدره أو نفسًا يكتمه أو دمية يشتريها لطفلة ضالة، أو قيادة جيش. كان يفعل ما يستطيع، في المكان الذي يضعه فيه القدر. كان نقيًا جدًا وأعجبني نقاؤه وأحسست به ضالتي التي ما فكرت يومًا أن أتمثلها بهذه الطريقة.

سأجرب ترك التصميم، والتشبث بالأشياء والأفكار، والخوض في الحروب الضروسة والنقاشات العقيمة. سأجرب أن أغلب الصمت على الحديث، والعمل على التنظير، والابتسامة على الشرود والنظر في اللاشيء. سأحاول أن أحاول بحب وألا أشعر بأن الوقت أزمة ومصدر قلق، فالنقاء لا وقت له يبتدأ معه أو ينتهي، هو دائم وسائر وماضٍ مع صاحبه حيثما مضى. أريد أن أغسل قلبي وأملؤه تزامنًا مع ملء عقلي وشهاداتي.. وإن كان ولا بد، فليطغى ما أغسل به قلبي على أي شيء آخر.

ليس النقاء هدفًا أخصص له جزءًا من وقتي، هو شعار دائم ولكن في هذه الفترة على الأقل، أريد أن أجربه وأن أعيش به بكامل كياني.. علّ هذا القلب أن يهدأ، وهذه النفس أن تفهم، والمسافة بيني وبين الله أن تتضاءل وتمحى.. فأشعر بي قريبة أسير كما يريد لي الله أن أسير، وأملأ الفراغ الذي يريدني الله أن أملأه، وأبصر ما يريد لي الله أن أبصر، وأشعر أن قلبي يضيء بنور منه، وجوارحي تسير على نور منه.. وهذا جل مناي.

يا رب النقاء، أسألك نقاء لا يتبدّل ولا يتلون، ولا يلطخه لوث هذه الدنيا وغبارها.