السبت، 31 ديسمبر 2016

عن أناس سقطوا من الجنّة

كنت أشعر بخذلان، وخوف، ونفور من الحياة. كان كلّ شيء يبدو فارغًا ورماديًا، وكنت أحاول ما أستطيع بما تبقّى من قوّة.

 إحدى محاولاتي كانت ذلك الّذي كتبته وذهبت به إلى مركز التّدقيق اللغويّ عندنا في الجامعة. كان منفذًا، وكنت أحتاج أن يكون مثاليًا حد تدقيقه من قبل مختصّين. ذهبت هناك وأنا ما أتوقّع الكثير، عشر دقائق من المراجعة السّريعة، إضافة فاصلة، إزالة كلمة، وهكذا. دخلتُ فحيّتني بوجه طلق وترحيب أشعرني براحة ما أشعر بها عادةً في الجامعة. طلبت منها قبل أن نبدأ أن تعطيني رأيها فيما تقرأ، لا أن تكتفي بالمراجعة اللّغويّة، ورحّبت بذلك. كان المكتوب الّذي حملته إليها ينبغي أن يكون عنّي، وعن أشياء تتعلّق بي. عندما جلَسنا، وقبل أن نبدأ، أخبرتها عرَضًا -وأنا أشرح عمّا يتحدّث هذا الّذي كتبته- بمعلومة ما، تتعلق بمكان ما، كانت هي ذاتها تنتمي إليه. اختلفت آراؤنا حولها، كانت مصممّة على رأي وكنت مصمّمة على آخر، فأشارت إليّ  فجأة، وأنا لمّا أكمل الشّرح، بأن أنتظر، ثم اتصلت على قريبة لها لتتأكّد من رأيها المخالف لرأيي حول الموضوع. اتصلت بها على مسمع منّي، وتبيّن أنها هي المصيبة لا أنا. ضحكت من العفويّة التي تصرّفَت بها والطريقة الّتي توصّلت بها لحل حاسم.. واعترفت بالهزيمة. كانت لطيفة جدًا، ودقيقة جدًا، وتريد أن تساعدني بكلّ ما تملك من خبرة وفهم بحرفيّة بالغة، وأنا لم أقابلها في حياتي إلّا منذ عشر دقائق. كانت تعليقاتها تنمّ عن خبرة طويلة وذكاء عالٍ وحبّ غير مسبوق للعطاء والإخلاص في العطاء. كانت تريدني أن أكون الأفضل. 

قرأت ما قرأت، وكانت تستفسر كلّ مرّة عمّا كنت أكتب. يحصل أن أبدأ في الشرح وأستفيض، وعندما أنسجم حدّ أنني أتساءل عن سكوتها الطّويل في خضمّ استرسالي في الشّروح، ألتفت إليها فأراها تتّكئ على يدها وعلى وجهها نظرة مضحكة. أسكت. تقول: خلصتي؟ أجيب: إيوة. قبل أن تبدي رأيها في ما كنت أقول، أخبرتني أنها مختصّة في علم النّفس أصلًا، وأنها تقدّم استشارات، وأنّه من حسن حظّي أنها كانت هي المدقّقة في هذا الموعد بالذّات لا سواها. أخبرتني أنني لا أتعامل مع نفسي بما يليق، وأنّه ينبغي أن أغيّر ذلك، وعليه عليّ أن أغيّر النّصف الثّاني مما كتبت. كانت تقول أنّها تؤمن بأنّه يمكنني أن أكتب شيئًا يبرق أكثر، ويخبر عنّي أكثر، وأحتفي فيه بنفسي أكثر. كانت تريدني أن أظهر فيما أكتب، وأن أشير على نفسي فيه صراحةً، وأنسب لنفسي ما فعلت. لم أكن أؤيدها في قرارة نفسي، لا أحبّ أن أبدو بالطّريقة التي كانت تريدني أن أظهر بها، رغم أنني أعرف أنها، بطريقةٍ ما، في ذاك السّياق بالذّات، كانت محقّة. كنت معطوبة ومفتّتة، وكانت تحاول أن تلملم أجزائي وتجعلها تبدو ذات معنى. أخرجَت ورقة، وكتبت فيها ما تظنّ أنّه ينبغي أن يكون. كتبَت ما تقصده فكرة فكرة، وتحت كلّ فكرة مثال. خطّها جميل، تكبر الحروف وتصغر وتستدير وتتّصل ببعضها بجمال وانسياب يليق بكاتبة محترفة. 

عندما كتبتُ اسمي في ورقة التّقييم، سألتني إن كنت أعرف فلانة، أو فلانة، وتوصّلنا في النّهاية إلى قرابة تجمعنا. كان ذلك مدهشًا ومضحكًا. هذه الكائنة الجميلة المحترفة كانت يومًا ما في إحدى الأفراح العائليّة الكبيرة لا ريب! عندما انتهينا، أخبرتني أنّ الورقة التي كتبتُها هي أفضل ما استقبلته في هذا المركز على الإطلاق، وكنت أضحك خجلًا ودهشة، ثمّ غمرتني بأمنياتها الطّيبة ودعواتها الخالصة بأن يمضي الأمر وفق ما أحب. كنت أقول كعادتي حينما يفيض الامتنان: مرّة شكرًا، وتردّ بلطف بالغ، وهي تحاكي طريقتي في نطق الكلمة: مرّررة عفوًا! خرجتُ بنفس متجدّدة، وابتسمت طيلة الطريق من المركز إلى السّيارة، ومن السّيارة إلى البيت. أدرك، وأنا أراجع الموقف مع نفسي، أنني كنت قد مكثت معها ساعتين، يا إلهي.. ساعتين! والموعد كان ينبغي أن يكون ربع ساعة. أخبرتني خلال الموعد أنّها ستعتذر قبل الرّابعة لأنّ عندها موعد آخر، ولكنّها، عندما حان الوقت، أجرت اتّصالًا لتعتذر عن موعدها الآخر. أنا لا زلت أعجب من ذاك الكرم وذاك اللّطف الذي فاضت به عليّ رغم أنّه كان اللقاء الأوّل.

عدت ومحوت النّصف الثّاني كلّه، وتتبعت تعليماتها. أخرجت الورقة ووضعتها أمامي. كتبت، كتبت كثيرًا، وكنت راضية أكثر ألف مرّة عمّا كتبته قبلًا. كنت سعيدة أنني صرت قادرة على إخراج ذاك الذي ما فلحت في إخراجه من داخلي إلى الورقة قبل أن أراها. تلك المرأة الجميلة حرّكت فيّ أشياء، لقد نجحت فعلًا.

في اليوم الثّاني، اكتشفت حينما وصلت الجامعة أن محاضراتي كلّها ملغيّة. لم أتحسّر، لأنّ موعدي مع المدقّقة كان يهمّني. ذهبت إلى غرفة التّدقيق، ونظرت إلى ورقة المواعيد، ووجدت أنّ مواعيدها كلّها محجوزة فضلًا عن تأخّر وقتها. ذهبت إلى مكتبها وكان مقفلًا. يوه! لم أكن أريد غيرها. قرّرت أخيرًا أن أذهب لمن أجد موعدها شاغرًا بحكم فراغي، ومن ثمّ أريه مدقّقتي الأولى بعد تعديله اللّغويّ لآخذ رأيها على عجالة. ذهبت إلى المركز وكانت هناك فتاة في أواخر عشرينيّاتها جالسة هناك. سألتها إن كان هناك موعد شاغر فوريّ، وأخبرتني أن هناك اسم مسجّل، ولكن ما دامت صاحبته لم تأتِ فيمكنها أن تبدأ هي معي. بدأَت بقراءة النّصف الثّاني الّذي كتبته في اليوم السابق، وتوقّفَت عند الفقرة الأولى الّتي تحدّثتُ فيها عن حبّي للأدب العالمي. سألتني: هل تحبّين الأدب العالميّ فعلًا؟ وخضنا نقاشًا طويلًا حول كُتّابنا المفضّلين ورواياتنا المفضّلة. تبيّن لي في خضمّ النقاش أن هذه الآنسة الجميلة تركيّة درست الأدب العالمي في مرحلتي البكالوريوس والماجستير في تركيا، وأنّ رسالتها كانت عن الأدبّ الروسيّ تحديدًا، وأخبرتني أن أمها وأباها أيضًا متخصّصان في الأدب الرّوسيّ. كانت تحبّ الأدب اللّاتينيّ كما كنت أفعل، واشتركنا في حبّ بعض الكتّاب الآخرين من بلدان أخرى. كنّا مندهشتين وسعيدتين. كنت مندهشة من إيجاد كلّ هذه الدّهشة في الجامعة التي اعتدت أن أكرهها واعتادت أن تلفظني. كانت في خضمّ النقاش تأخذ لابتوبّي منّي وتفتح نوافذ في جوجل كروم، لتبحث عن اسم كاتب أو آخر، وتوصية لكتاب أو آخر، مرّة بالإنجليزيّة ومرة بالتّركيّة، وكنت أسجّل كل ذلك.. وعندما كنت أخبرها عن أسماء لا أعرف إلى أيّ بلاد ينتمي أصحابها، كانت تعرف جنسيّة الكاتب من صوت الاسم الذي أنطقه، وحصل ذلك أكثر من مرّة. كانت تعرف كلّ شيء.

امتدّ لقاؤنا لساعتين بدلًا من ربع ساعة تحدّثنا فيه عن كلّ شيء ممكن، ابتداءً بالأدب وانتهاءً بحقوق المرأة. ذهبت بعدها إلى مكتب مدقّقتي الأولى بناء على طلبها برؤية ما كتبت بالأمس. لم أكن متأكّدة مما كنت أفعل. أذكّر نفسي بطلبها وأحمل نفسي وأذهب للمرّة الثّانية. عندما رأتني أخبرتني بأنها سوف تلحقني إلى المركز لترى ما كتبت، رغم أنه ما كان موعدها، وكانت ينبغي أن تذهب لاجتماع مهمّ. جاءت إلى المركز وقرأت ما كتبت. انتهت وأخبرتني بأنه أعجبها جدًا، وأنا كنت.. أطير. صارتا تتكلّمان عنّي هي والآنسة التّركيّة بصوت عالٍ. She is amazing. Yes she is. 
وكنت أضحك خجلًا، كنت أموت وأحمرّ وأضحك. احتضنتاني بمبادرة منهما وهما تتمنّيان لي التّوفيق. خرجت من تلك الغرفة وأنا محفوفة بالحبّ والدّعوات والمديح، بثقة عالية وقلب يرقص. كنت منشكحة بطريقة لا أستطيع التّحكم بها. أضحك وأجري في الطّرقات وعباءتي تطير من خلفي. كنت أطير! غادرت الجامعة لأوّل مرّة وأنا سعيدة، سعيدة فعلًا، وممتلئة بطاقة إيجابيّة ما شعرت بمثيلها في السّنة الأخيرة من حياتي على الأقلّ. كنت مكسورة، ما عدت. كنت أرى الأشياء باهتة ورماديّة، صارت الأشياء ورديّة وبرّاقة. كانت الحياة فيّ تستعيد مجراها، كانت عيناي تبرقان، وكنت أبتسم لكلّ من حولي، وأمنّي نفسي بمستقبل أفضل، وحياة أفضل، ونفس أقلّ عطبًا، وأكثر قدرة على خوض الحياة،، ولوهلة، تصاغرت كلّ المشاكل الأخرى، اتّخذت لونًا شفّافًا والتفّت حول بعضها في ركن بعيد.

اختُتَمت هذه السّلسلة من الأشخاص الذين سقطوا من الجنّة فجأة بلقائنا مع د. منال كيّال. د، منال هي استشاريّة نفسيّة عبقريّة جدًا، كلامها مدروس وفيه عمق أحبّه وأحتاجه. ما فعلته د. منال اليوم هو أن صاغت كلّ الدّروس الّتي كنت أحفر في الأشياء حولي بحثًا عنها في محاولة لإيجاد تفسير أفضل لكلّ ما يجري- بشكل مهذّب وموزون ينبع عن حكمة وخبرة وفهم عميق. كانت تعرف ما تقول. تحدّثت عن النّظرة الماديّة للأهداف، وكيف أنّ هذه النّظرة هي أساس ما يصيبنا بالضّغوط النّفسيّة عند كلّ تغيّر يمكن أن يحصل، وكلّ عارض يقف في وجهها، وأنّه ينبغي أن نفهم أن هذه الأهداف هي وسائل يمكن للـ"أهداف الحقيقيّة" أن تتحقّق بغيرها، والكلام في هذا يطول. تحدّثت عن نظريّة التفّسيرات الّتي راقت لي كثيرًا، وذكرت أخيرًا بأنّ الكثير من الضّغوط النّفسيّة أساسها أفكار خاطئة، وأنّ الحلّ دائمًا يكمن في الوعي، وفي تصحيح مسار هذه الأفكار، وفي تغيير المنهجيّة الّتي ننظر بها للأشياء. قالت أن تغيير الأفكار رقيّ ونضج وإنجاز عظيم متى ما أدرك صاحبه أنّ في منهجيّته السابقة خلل. 

كان حديثها ثلجًا وبردًا وسلوى، كنت أحفل بكلّ شيء توصّلت له بنفسي وكانت تقوله، لكلّ الطّرق التي كنت أعالج بها نفسي وكان يحصل أن تتطابق مع الأشياء التي كانت تسردها. كنت أحبّ تلك الجسور الّتي سدّت بها ثغرات عندي كانت تحول بين فكرة وأخرى، والّروابط الّتي خلقتها، والنّهج الصّلب المتّزن الّذي خرجت به من بعدها. 

أشعر أنّني متعافية جدًا، ومستعدّة جدًا لاستقبال عام جديد، بنفس متّزنة ومقبلة على الحياة. عندما أراجع ما فات، لا أشعر -كما أفعل عادة- أنّني أهدرت نفسي، أجد الآن بالذّات أنّ محاولاتي كلّها كانت تبني بعضها بعضًا، أنّ كلّ ما فات كان بناءً، لا عبثًا، وأنني أحصد اليوم ثمار الوعي. أنا سعيدة ليس لأنّ الحجرة انزاحت، والغمّة تلاشت، ولكنّ لأنّني خرجت من كلّ ذاك الّذي مضى بخلاصة أستخدمها للّذي سيأتي، وأنّني، قبل كل شيء، خرجت بسلام! أنّني رغم الحروب كلّها ما انتهى الأمر بيأس أو عجز، يا الله! كم كنت أتوق لهذه اللحظة، للحظة الّتي أدرك فيها أنّني ما كنت أعبث، وأنني سأصير متعافية من جديد. ممتنّة وراضية. أشعر بالأمان. أشعر أنّ الله كبير جدًا، وأنّ رحماته تحفّني أينما ذهبت، وملائكته تحرسني، وأنّ الحياة رحلة، وأنّني أفهم أنّني سأصل، وأنّ الوصول يكون بعد خوض الشّوط لا قبله كم كنت أظنّ وأرجو، وأنّ النّاس الطيّبين موجودون في كلّ مكان. أحبّ صديقاتي جدًا، وأختي، ومشروعي الصّغير، وماما وبابا رغم اختلافي معهم. أحبّ أنني أفهم، وأنني أكبر وأعي كل يوم أكثر، وإن كانت الطّريق وعرة، وأنّه ما زال هناك وقت، وأنّ العجلة في استباق النتائج ليست شيئًا ينبغي أن أكرّر فعله في ما سيتقدّم من حياتي.


وبكرة يوم أوفف! ييييااااااس!



كل سنة وأنتم طيّبين، وأرواحكم طيّبة، وأنفسكم طيّبة، وحيواتكم زاهية وطيّبة وفوّاحة وتنبض بالحياة.




الثلاثاء، 6 ديسمبر 2016

تيه وغربة

تائهة من جديد.. ظننت بعد كل الذي حصل، بعد كل العزلة ومحاولات التعافي، بعد الأشياء التي تركتها والأشياء التي بدأتها،، أنني عدت، وما عدت. لا أعلم إن كنت في مرحلة انتقالية أم أنني أتردّى يومًا بعد يوم. جاءت أختي ورحلت، وما بكيت إلا دمعةً أو دمعتين. ما عاد شيء يهمّ حقًا، ولا أعرف لم لا أجد في الأمر سلوى. لطالما تمنّيت أن تمرّ الأشياء عليّ بهذه الخفّة، لا يرهقني حملها في قلبي ولا يدميه انتزاعها عندما يأتي وقت الرحيل. لا شيء أريده كما أريد أن تحصل الأشياء عادةً، إلا بعض أحلام لا أخطئ في رغبتي بها مهما حصل. صرت أصمت كثيرًا، أكثر مما ينبغي، في الوقت الذي ينبغي أن أصدر فيه انفعالًا ما. لا أعلم ما الذي حصل، ولا كيف وصلت إلى هذا الذي وصلت إليه. لا أعلم إن كنت أرغب بذلك أم أنني لست إلا نسخة رديئة أخرى مني معدومة الرغبات والانفعالات، قتلتها الأحلام التي رغبت بها بشدّة وما حصلت، ومات شيء فيها من فرط ما كانت تجري بأقصى سرعتها في كل اتجاه وتصطدم كلّ مرّة، كلّ مرّة، بجدار صامد. 

لا أعرف أين يكمن الخطأ بالضبط. فعلت الأشياء التي ينبغي أن أفعلها، جربت أكثر من طريق، ولم يمتلئ ذاك الجزء الفارغ داخلي. دائمًا هناك شيء ناقص، ومع مضيّ الوقت صرت أفقد شعوري الحادّ بالنواقص ومواطن الألم، دخل الكل في الكل، الإحساس ضبابيّ وأنا ما عادت فيّ قوّة لتحرّيات دقيقة عن كل صادرة وواردة في ذاك القلب، وذاك الشعور.

بكيت بالأمس، بكيت قليلًا، أقلّ من العادة، وأنا أستعيد أشواق الحياة التي أودّ أن أعيش، في ظلّ جوّ تعليميّ يحترمني ولا يحفني بالكره وتكميم الأفواه. ولكنّني بكيت، وسعدت لذلك. لا زال فيّ شيء ينبض بالحياة، والرغبة بالحياة.

بعد نوبة البكاء الخفيفة، بدأت كتابًا عظيمًا اسمه "فكرة العدالة" لـ أمارتيا سن، سعدت به جدًا، وكان له الفضل في إسكاتي. اشتريته مصادفة من معرض كتاب جدّة العام الماضي وأنا ألتقف كلّ ما يحوي كلمة "عدالة" حتى أستعين به في بحثي، وأغراني ارتفاع ثمنه رغم صغر حجمه. أخبرني صاحب المحلّ عندما رآني أقلب صفحاته أنه كتاب عظيم. صدّقته واشتريته. لا أعرف متى كانت المرّة الأخيرة التي قرأت فيها شيئًا شعرت معه وأنا أقرأ بخلايا دماغي تتفتّح وتزهر. أحضرت القلم وشرعت بالتلخيص وأنا أكفكف دموعي. آه.. كم أتوق لحياة تحفل بهذا النوع من الأفكار، أفكار تتطاير في كل جانب، حيث يدلي الكلّ بدلوه، وأدلي أنا، أو أستمع إليهم صامتة مبتسمة. العالم يمضي والحياة تمضي وأنا هنا حبيسة عالم خانق يحرم فيه التفكير، ويُنبذ فيه أصحابه.

اعتزال مواقع التواصل الاجتماعي كان مفيدًا في البداية، أظنه يظلّ كذلك. انغمست في أعمال كثيرة وكنت بحاجة لأن أكون في منأى عن المشتتات.. دفعتني للقرار مايا التي اعتزلت كلّ شيء عندما هربت إلى تشيلوي، وعزمت على الأمر من بعدها. عدت اليوم، ولم أشعر أن الأمر مثير للعودة بأي شكل. يروقني أن أظلّ صامتة بينما الكل يصرخ. ما عاد شيء أو مقال أو فيديو يثير فيّ الفضول. العالم مكان مزعج وغير عادل، وكلّ خبر لا يهمّ ما دام الأبرياء لا يزالون يقتلون في حلب، واليمن، وسجون مصر، و..

أبدأ شيئًا جديدًا وأنا لست متأكدة من أنني أريد الإقدام عليه. لا زالت هناك أمور تحتاج أن تستقرّ، ما زالت هناك كتب أودّ أن أقرأها، فيديوهات وأفلام أودّ أن أشاهدها، أناس أودّ أن أراهم، أشياء أودّ أن أتعلمها.. فعلت وأقدمت على جديد سوف يحتلّ مساحة من قلبي وعقلي وراحتي والكثير من وقتي، كسابقه، ولا يثير ذلك فيّ أيّة حماسة. لا أعلم لم لا أشعر برعشة البدايات عندما يكون الأمر إقدامًا على إنجاز جديد. كلّ ما أشعر به هو الثقل، والرغبة بالهروب. أريد أن أهرب! الآن!

عندما صارت حياتي تتمحور بشكل أساسيّ على عدة أشياء تتطلب مني الذهاب والإياب وإجراء المكالمات الكثيرة، صار عالمي الداخليّ غريبًا عليّ.. صرت لا أفهم أشياء كثيرة تصدر أو لا تصدر منّي. لم أعد أعرف ما أريد بالضبط، بعد أن كان الأمر لا يصعب عليّ تمييزه. تكونت الكثير من العقد الجديدة التي لم يسنح لي الوقت فرصة أن أتعرف عليها، هجرت وقتي الخاصّ، الكثير منه، صار ينصبّ جلّه في التفكير والتخطيط والتفكير والمكالمات التي لا تنتهي. لا يروقني الأمر. يروقني بعض الشيء، ولكنّ الوضع برمّته غريب عليّ، أو أنا غريبة عليه. أريد أن أعود إلى حيث كان الاختباء يسيرًا، عندما كنت هباءة لا يعرفها أحد، أنزل أمشي عصرًا ووجهي مختبئ في الكتاب، أعيد قراءة القطعة مرّة بعد مرّة وأذوب في النصّ: أنا، والنصّ، والسّماء فوقي كمساحة للتأمّل. السماء كانت منفذي، والمكان كلّه ملكي. لم أترك عادة المشي العصريّة ولكن كلّ شيء تغيّر. ما عدت أشتهي تصوير أيّ شيء، كل الأشياء سواء، كلّ النباتات سواء، كلّ ما يشغل بالي هو الخوف من أن يخرج حيوان فجأة من مكان ما، أحفظ المشاة كلّهم لأنني صرت أتفرّسهم كما لم أكن أفعل قبلًا. ما عدت أشتهي أن أشتري الآيسكريم من ريالات أخبئها في بطن الكتاب.. ما عدت أطيق الجلوس في الحرّ لأستمتع بالقراءة مع الآيسكريم تحت تلك الشجرة، فوق ذاك الكرسيّ المرتفع، رغم أنّ الجوّ حلو هذه الأيّام. كلّ شيء صار.. مختلفًا. صرت أذهب هناك لأجعل الضوضاء تخرس قليلًا، لأدعها تتسرّب. أنظر للأشياء بعين مهمومة، وأمنّي نفسي أن تكون الحياة وفّرت لي الخيار الذي أحلم به. أشتم نفسي في سرّي لأنني لا أكفّ عن ذات الأمنية كلّ مرّة، كلّ يوم، وأودّ لمرّة واحدة أن تحبّ هذه الخرقاء الحياة الجديدة التي وضعت نفسها فيها وأبلت فيها حسنًا، وكانت تملي على نفسها من قبل أنه ينبغي أن تجري الأمور بهذه الطريقة. عنيدة، خرقاء، ومدلّلة. 

هل ينبغي أن أكون هباءة لا مرئيّة، بشكل يشبه حجمي الحقيقي، وقوّتي الحقيقيّة، ومكانتي الحقيقيّة في عالم واسع شاسع؟ أم أنّ "فيّ ينطوي العالم الأكبر"، والكون كلّه من الممكن أن ينصاع لي لو أنني أردت حصول شيء ما بقوّة؟

أين أنا؟ من أنا؟ هو آم آي؟ (على لسان جان فالجان في فيلم البؤساء)

يقول ديستوفيسكي؛ أحيانًا لا تترك لنا الحياة خيارًا إلا أن نكون جديرين بآلامنا. أتساءل كيف يمكن لي أن أكون جديرة بآلامي، آلامي الحقيرة التي لا تفتأ تنهش فيّ، مهما بلغت منّي اللامبالاة مبلغها. حقيرة نعم، ولو أنني أدين لها، قليلًا، لأنها تذكرني أنني ما زلت على قيد الحياة، وأنني "ما متّ بعد، لم يزل في أضلعي برق ورعدُ". أكره أن أتألم، أحب أن أحيا، والألم كل الألم هو ما يسلب منّي حقي في الحياة.