السبت، 29 فبراير 2020

كسرًا للصمت،،

طيّب؛

لا أدري كم مضى من الوقت لم أكتب فيه شيئًا هنا ولا في أيّ مكان، ولم أعبر عن فكرة واحدة باسترسال وإسهاب كما كنت دائمًا (أو أحيانًا) أفعل. لا أدري كم مضى من الوقت لم أسترسل مع نصّ ثم نصّ آخر، ليس لشيء إلا لتتبع الأحرف والطوفان اللذيذ مع فكرة. لا أدري منذ متى وأنا لم أكن جزءًا من نص طويل، أكتبه أو أقرؤه.. هكذا، لأجل أن أقرأ، وأكتب.. لأجل أن أقتات بالأفكار الطويلة المتماسكة والسرد الطويييل الطويييل كوجبة يوميّة لا أرى الحياة دونها، ولا أعي ما حولي دونها، ولا أكون، كما ينبغي أن أكون، دونها. لم يحصل ذلك منذ فترة طويلة جدًا، وكل ما حصل كان يتعلّق بالمهنة أو سياقات أخرى اضطررت فيها للقراءة/الكتابة، وربما أكثر من ذلك بقليل؛ شيئًا أتنفّس به حتى لا أخبو وأفقد كلّ بريق.. ابتعدتُ حتى كدت أنسى كيف يبدو التعبير، وكيف يكون شكل الأفكار مكتوبًا، وحتّى بدأت أوقن، أو أحاول أن أوقن، أن التعبير الذي كنت أفعله خلسة؛ ضرورةً وحاجةً، حتّى وهو في أكثر صوره خجلًا- مرحلة وانقضت. ابتعدتُ عن كل وسائل الحياة -بهذا المعنى- حتّى وددتُ لو أستسلم لفكرة أن الاختفاء ممكن، وأن بهذا الإيمان الجديد.. شبحُ الرغبة بولادة الأفكار وإخراجها في صورة ماديّة ما- سيفارقني للأبد. وددتُ لو أن الرغبة العارمة في الحياة بهذه الطريقة: طريقة أن أن أتفوّه بشيء يحوم داخلي ويتوالد كجرثومة -أضف كورونا إن أردت- مجرّد رغبة يمكن أن تموت، وقابلة للخبو. وددتُ لو أن لكياني أن يوجد بشكل سويّ دون أن يستلزم ذلك مني أن أتحدّث بما يطنّ في رأسي، وأن أشارك، وأن أغرف شيئًا من عندي لوعاء حديث العالم. وددت أن أصدّق أن ضرورة المشاركة بالفكرة وهم، وأن هناك طريقًا آخر.. ينبغي أن يكون ثمّة طريق آخر! وددتُ لو أنني أستطيع أن أُسكت هذا الطنين أبدًا، وأعيش دونه في سلام، مع وظيفتي وأبحاث وظيفتي، وشكوكي اليومية حول كيف ينبغي أن يبدو مستقبلي، ومشاريعي الصغيرة المختبئة (طبعًا!) وقراءاتي المبعثرة والمتخصّصة، والكلام الرديء الذي أكتبه في دفتري مرة في الشهر بعجلة واقتضاب،، وكأنّه طفل أطال البكاء، وكأنّ ما أكتبه حلوى رديئة أرجو بها انصرافه عنّي. 

وددتُ لو أنني أستطيع أن أعيش دون أن أتكلّم، وأعبّر، بهذا الشكل تحديدًا، شكل الكلام المكتوب،، وأن طرقي الأخرى في عيش الحياة، والأخذ، والعطاء، تكفي. وددتُ لو لو أنني لا أضطرّ أبدًا لدخول نفق شائك، معتم، مخيف، موحش كهذا، ألتفّ حين عبوره حول كلّ حفرة أفقد بها ذاتي إن سقطتُ، وأحمل مبادئي مبعثرة في يدي دون حقيبة تلملمها وتضمن حفظها، وأتفقدها -رغم الظلام- كل مرة خشية فقدانها. وددتُ لو أن في الحياة سبيلًا دون هذا النفق.

المشكلة أن الأمر ليس بأمانيّ، وأنّني كلما أدخلت رأسي تحت التراب، وزجرته بالوعيد إن نطق، وسفّهت ما فيه حتى يكفّ عن الإقدام- أيقنت أكثر أن التعبير، والحكي، والكتابة، وكل وسائل الوجود الممتدّ الذي يتجاوز لحظة ورود الفكرة- ضرورة تلازم الوجود: وجودي، وطالما أن اللاوجود ليس خيارًا، فعدم الوجود رغم الوجود، والعيش البرزخيّ الذي يقدر عليه حصرًا من يمارس قتلًا مستمرًا لكل حياة داخليّة ثائرة- هو الجحيم بعينه. فكرتُ كثيرًا، كثيرًا في الأمر، في أمر وجودي، واحتمالات وجودي، وإمكانية وجودي مع تلافي هذا المكان، وهذه الكيفيّة في الوجود، في إطارها الأصغر والأكبر: في دفتري الصغير ومدوّنتي وتويتر وإنستقرام، وكلّ ما هجرت، وحاولتُ أن أعتزل النصائح الكثيرة التي ترددت عليها قراءةً وسماعًا، وأن أفكر في سياق حياتي الخاصّة بسقفها المنخفض، وأفقها الذي وإن كان يُرى بعد استجلاب كلّ أمل ممكن- يبدو أبعد من أن أطوله (أطاله؟) في الأعوام القليلة القادمة على الأقل.. ولكنني جرّبت، وضقتُ ذرعًا. لن أقتل نفسي ما دامت موجودة. ثمن التسلّح أكثر من قدرتي على تحمّله، والقتل موجع وإن كان من الذات إليها، وأنا متواضعة في طلبي، إذ لستُ أريد شيئًا سوى أن أحقق وجودي مهما تكبّدت لأجل ذلك من تورية ومجاز. أريد أن أكون، وليكن ما يكون. 

أشعر بنشوة. لقد تكلّمت.

طيّب؛
لنمارس فعل السرد العفويّ هذا حتّى أجد طريقة أشذّب بها ما أقول. توقفت عنوة لظنّي أن الحديث السائب بلا فائدة، وأعود عنوة لأنني أيقنت -بعد انقطاع عامين- أنّ الحديث وحده عضلة يلزم أن تتحرّك وإن لم يُتصوّر شكل المنتج الأساس، وهذا الحديث من هذا التمرين.

أعود وعمري أكبر بعامين، وحاجتي لا تزال. مزعج كم يمرّ من الوقت ونحن نختبر فكرة كانت لتكون الآن -إن لم نشكّ بأهميّتها- أكبر بكثير مما كانت عليه مذ غادرناها، وعزائي أنني صرت أؤمن بضرورتها كما لم أؤمن يومًا، وأن هذا الإيمان لا يمكن أن يزعزعه شيء بعد فوضى الشكّ العارمة بضرورة الوجود الممتدّ، والعطاء الكلاميّ، والإضافة، إلخ. 

خلاص يكفي، اللي بعده.

سأصف ما أنا عليه وصفًا مقتضبًا، وسأكمل بعدها عند الذي توقّفتُ، وعليه.

 أنا علياء، موظّفة سعيدة، ولم تكن كذلك منذ أسابيع قليلة، أحب مديري والمحامين الكبار الذين أتعلّم على أيديهم عملًا يفوق مستواي بكثير، وأجتهد أن ألملم أطرافه وأكون ذات فائدة، وأظنّني بدأتُ أصير، ولو قليلًا. أعمل في مكان كبير، مخيف من شدّة ضخامته، وأنا الّتي بحثت عن أصغر مكان محترف يمكن أن يحتويني في بداية مساري المهنيّ، وكتب الله أن أكون في أكبر مكان ممكن. استقرّت نفسي -بعد الدراسة المليون لوضعي الوظيفي بين المغادرة والمكوث- لأن أكمل الذي أنا فيه، وأتعلّم ما يمكن لي تعلّمه، وأن أترك لنفسي فرصة أن تعيش دون شك، وأن تمدّ جذورها، وتحبّ ما تفعل، وأن أسمح لحقيقة أن مكانًا كبيرًا كهذا يمكن أن يكون بدايتي. وددتُ شيئًا أصغر، أرى كل شيء فيه بوضوح وأملك فيه زمام الأمور، ورغم أن مكاني اليوم كان حلمًا وددت الوصول إليه بعد أعوام من البناء المنهجيّ المتدرّج، وُضعت فيه من علّ، وصار أن صرتُ جزءًا منه وصار جزءًا مني. أنا الآن أحبه حبًا صادقًا، وأتعلم كل يوم فيه أكثر من ذي قبل، وأحمد الله قبل أن وضعني فيه أن رزقني رضى وقرارًا،، رغم الضخامة، رغم شكوكي وتردّدي، رغم اضطراب خطتي وإصراري الساذج على أن تسير الحياة وفق الخطّة.

أغادر إلى الدوام كل يوم بحقيبة أكبر منّي -على وصف أحد المراسلين عندنا- ذات عجلات، شكلها مربّع، يمازحني من يراني، أو لا يمازحني، بسؤالي عن وجهة سفري عندما يراني أقوم بسحبها، باعتبار أن ذلك متوقّع من كلّ من يحمل حقيبة كهذه في العمل،، وحيث أعمل، السفر المباشر من مكان العمل عرف شائع. أضع في الحقيبة لابتوب العمل ولابتوبي الشخصي وشاحنيهما، وعلبة تمر، وحليب شوكولاتة معلّب لكفايتي وقت الجوع، ودفاتر، وملفًّا كبيرًا يحوي عقودًا ومسوّدات لمشروع قانونيّ بدأت في كتابته منذ شهرين ولا أزال، وملاحظات متفرّقة نتاج اجتماعات متفرّقة، ومؤخرًا، ملزمة كبرى لتدريب مجهدٍ لذيذ حضرته الأسبوع الماضي كاملًا. توجد في الحقيبة أيضًا سماعة خاصة للابتوب لم أستعملها يومًا، أقلام مبعثرة، حذاء عالٍ (كعب) إن استدعت الحاجة، علبة مناكير واحدة ربما، ووشاح تدفئة في الأيام الباردة. أضع فوق الحقيبة حقيبتي اليدويّة الزرقاء، أو الخضراء، حتى لا أضطر لحمل شيء على كتفيّ الهشّين، وقبل أن أغادر المنزل، أجهّز طبق كورن فليكس بحبوب الشوفان على عجالة، وكأنّ خروجي ليس متوقّعًا، وكأنّ توقيته يتغيّر كل يوم. بيدي قارورة ماء، بيدي الأخرى صحن الفطور، أسند أحد ذراعيّ على جنبي لحمل هاتفي، وباليد المشغولة بقارورة الماء أقوم بسحب الحقيبة، ثم فتح الباب الأول، وعبور الدرجات القلائل عند عتبة الباب، ثم فتح الباب الثاني، كل ذلك وأنا أدعو الله أن لا ينسكب الحليب على عباءتي أو الأرض. أخيرًا، يتناول السائق حقيبتي ويرفعها في السيارة تماشيًا مع تعليمات أبي الصارمة: لا ترفعي الحقيبة بنفسك أبدًا، السائق يرفعها. طيّب يا بابا، ليكن. أركب السيارة، أفتح الشباك وأطلب إغلاق المكيّفات، أسرح وأنا أتأمل في السماء، أنسى فطوري وأذكاري، ولا أنتبه حتّى نصل عند اللّفة المجانبة للمكان لآكل الصحن على عجالة، وأردّد الأذكار الممكن تلاوتها منذ دخولي للمكان وحتّي يقاطعني أوّل شخص يدردش عند المصعد؛ يسلّم ويسأل عن الحال. 

أتردّد في يوم عملي العاديّ بين عدّة مكاتب، من بينها مكتبي، للعمل والسؤال والنقاش ومشاركة الأفكار. تختلف اللغة المتحدّثة بين مكتب وآخر، وإن اتفّقت؛ فاللهجة تختلف. تشكيلة المحامين عندنا عجيبة، تتنوّع فيها جنسياتهم، ولهجاتهم، وألوان بشراتهم، واللغات التي يتقنونها في العمل، وطبيعة العمل، والأعمار، ويتفقون في الخلق الرفيع وحسن المعاملة والتواضع الجمّ لمبتدئة مثلي تسأل كثيرًا وتشارك رأيها في العمل المشتَرك بخجل عندما تملك رأيًا مغايرًا؛ رغبة في التعلّم. أبوابهم مفتوحة دائمًا رغم انشغالهم الشديد، وابتسامتهم تسبق طلبات العمل، وأنا أحب أن أعمل معهم كلّهم، وأحب ما أفعل، وأحب كم أتعلّم من ذلك كلّه. مديري، وهو مدير الكلّ، شخص كبير قلبًا وقالبًا؛ ضخم الجثة، حتى ليظنّه الرائي واقفًا عندما يكون جالسًا، ولضخامته عامل يجعل حضوره مهيبًا بجانب صوته الجهوريّ. أسمر البشرة، أصلع تقريبًا، ويتحدث الإنجليزية بلهجة إفريقية لطيفة، قلبه كبير، يتناسب حجمه مع حجم جثّته، وضحكته تجلجل، ولأنها تجلجل، تجعل من يجلس في حضرته يضحك معه غصبًا. يبتسم دائمًا، ويتحدّث بهدوء، ويفسح لي مجال الحديث بآرائي التي ليست شيئًا ذو قيمة في تاريخ خبرته الطويل، يسأل عنها أحيانًا عندما أحجم عن الكلام طوعًا، ويذلّل سؤاله بـPlease، فيزيد خجلي على الخجل وأقول ما عندي. عندما يراني عند الباب، أو في أيّ مكان، وإن كان يتحدّث مع شخصّ مهم، يلوّح بيده عاليًا للتحيّة، وإن كنت متردّدة في إتيانه للسؤال، يقف مع تلويحه إصرارًا لأن آتي. يضحك عندما يأتي أمر جلل في العمل وهو الذي يغرق حتّى أنفه في المهام، لا يتذمّر، ولا يغضب، بل يهز رأسه يمنة ويسرة، ويقول كلامًا فيه نكتة تهوّن عليه المصيبة، وتتخلّله كلمة (واللهي) بلامين مرقّقتين بين كلام إنجليزيّ يسبقها ويليها. يتقن عمل ثلاثة أمور في وقت واحد: محادثة هاتفيّة، وكتابة إيميل، والاستماع إلى من يتحدّث إليه. عندما أهمّ بالكلام فأحجم ظنًّا أنه منشغل كفاية ولن يسمع، يتساءل تعجبًا: أتستهترين بقدرتي على العمل المضاعف (mutli-tasking)؟ ورغم لطفه الذي لا يشي به شكله، فهو داهية، يتفطّن لكل كلمة تقال، ويحفظ كل تفصيل عن ظهر قلب، وله ذهن تحليليّ يفكك به أكثر المشكلات تعقيدًا، وإن تحدّثت عن شيء إجمالًا يسألني عمّا أعني بالضبط. رغم انشغاله الشديد الذي يحرمني أحيانًا فرصة التعلّم، ورغم ما يعتريه من نقص بشريّ، فهو مدير عظيم، وحسن الخلق، وذو عقل فذّ، وأنا محظوظة بالعمل معه.

رغم ما يبدو عليه الأمر من بساطة وجمال، إلا أن له أشكالاته التي تستحقّ الحيرة، ورغم ما تبدو عليه حياتي العملية من سلاسة، إلا أنه سبقتها حياة كلها سفر متتابع لا راحة تفصل بينه، ومواجهات تفوق احتمالي، وتحمّلتها رغم كل شيء، والتعامل مع شخوص غير أسوياء. ورغم ما تبدو عليه حياتي السابقة من هذا الوصف كارثيةً، إلّا أنني أحن إليها كما يحنّ سجين لزنزاته للذكريات الطيبة التي عاشها فيها، أو لنقل: كما يحن طائر قُصّت أجنحته إلى الحيوات المضاعفة التي كان يعيشها أثناء طيرانه رغم ما كان يعتري ذلك من تعب. ولكنّني لم أكن سجينة، ولم أكن طائرًا،، كنتُ شيئًا بينهما، وأنا الآن، في الأرض الواحدة التي أدوس عليها كل يوم، دون سفر سوى السفر بين اللهجات؛ رضيت، وقرّ قلبي. ليكن ما نخرج به قبل الختام هو إعلان الرضى هذا: أنا رضيت. الحمدلله من قبل ومن بعد.. الحمدلله الذي أغدق عليّ نعمه دون استحقاق، ودون طلب، ورضاي المشوّب من قبلُ، ووجهي الذي كان يتقلّب في السّماء ما كان إلا من جهل، وطموح لما لا يمكن إدراكه، واستباق لما هو آت. 


 كنت أودّ أن أكسر هذا الصمت، وأمارس فعل تحويل الفكرة إلى كلام، حتّى أضخّ شيئًا من هواءٍ في شرارة الأمل الضئيلة داخلي بالقدرة على فعل ما أودّ فعله،، والذي يتجاوز هذا الكلام، ولكنّه يستلزم التعبير والوجه العريض لنسبة الكلام الذي سأكتبه إليّ، وأظنّ أن هذا يحقق شيئًا من ذاك.

تصبحون على خير.


x