الاثنين، 22 أغسطس 2016

عن فتاة البرتقال، وجدّتي، وأشياء أخرى

انتهيت للتوّ من رواية "فتاة البرتقال" لكاتبها جوستاين غاردر مؤلّف "رحلة صوفي" الكتاب الذي سمعت عنه كثيرًا ولم أقرأه، ولم أضعه مرّة في قائمة متخيّلة للكتب التي أريد أن أقرأها. في زيارة خاطفة للجامعة أهدتني صديقتي هذا الكتاب ذو الغلاف الصلب والأوراق ذات الملمس الخشن الجميل، ولأنه طال بي انتظار سيارتي شرعت في القراءة هناك، وأنهيتها للتوّ، في ثلاث جلسات. لم تدهشني الرواية، لم تحرّك فيّ أسئلة جوهريّة تمنعني من النوم، ولم تمزّق شيئًا ما في داخلي يجعلني أريد أن أناقشها مع شخص آخر، ولم تجعلني أهتزّ من الداخل، ولكنّها كانت جميلة، نسمة رقيقة لونها برتقاليّ، جعلتني أبتسم وأحلّق في عالم آخر، في زمان آخر. كان جون أولاف يتحدث فيها مع جورج، ابنه الي فارق الحياة وعمره ثلاث سنوات ونصف، عبر رسالة طويلة كتبها إليه في آخر أيام حياته، عندما كان المرض يفتك به ويمتصّ منه الحياة يومًا بعد يوم. كانت القشعريرة تسري في جورج وفيّ، كم هو مرعب وجميل وعظيم أن تقرأ رسالة وُجّهت إليك قبل أحد عشر عامًا من شخص ميّت أحبك كثيرًا وما كنت تعرف عنه شيئًا قبل ذلك. كان جون يتوق لأن يخاطب ابنه خطابًا حقيقيًا، ويحكي له كلامًا يفهمه ويعيه،، ولأنه أراد ذلك بشدّة، خاطب جون جورج في زمان مغاير للزمان الذي سوف يتلقّى جورج فيه هذه الرسالة. كان يكتب لجورج ذو الثلاث سنوات وهو يركّب قطاره الذي ما فتئ يفكك قطعه ويركّبها مرة أخرى، اضطرّ أن يستعجل الزمان ويتخيّله شخصًا بالغًا يفهم ما يقول حتى تتسنّى له فرصة أن يتحدّث إليه قبل أن يرحل إلى الأبد، كان يفرّغ كل الأسئلة الوجوديّة التي فكر بها يومًا وأراد أن يشاركها جورج على الورق، ويحكي له عن حياته الأسطورة التي التقى فيها بأمّه فتاة البرتقال.. لم يمهل الزمان جون أولاف حتى يعيش مع ابنه خطوة بخطوة، اضطرّه أن يختصر ذلك كلّه في ثلاث سنوات ونصف، خاطب فها جورج الكبير، وداعب فيها جورج الطفل. كان يمتنع البكاء أمام جورج الطفل ويذهب ليكتب له عن شعوره الفاحش ويرمي بأسئلته العارية على وجهه حتى يقرأها يومًا جورج ذو الخمس عشرة عامًا. في هذه الحياة الأسطورة التي يشكّل فيها الزمان لغزًا عظيمًا، لسوف يكون لذيذًا وغريبًا أن تخترق قواعده فترى فيه الأشياء في زمانين مختلفين في ذات اللحظة عبر رسالة.

عندما كان يحدّث جون ابنه ويقصّ عليه حياته بتفاصيلها المثيرة الشبيهة بقصّة خياليّة غامضة وممتعة، تذكّرت.. ذاك اليوم. قبل أربع سنوات، ليلة ٢٨ من رمضان، كنت أجلس في مقعد السيارة الخلفيّ وحدي، وتجلس أختي في المقعد الأماميّ بجانب عمّي الأصغر الذي كان يقود السيارة. في ذلك اليوم، في طريق العودة الطويل، حكى لنا عمّي عن جدتي التي سُمّيت على اسمها، وعن جدّي صاحب القلب الكبير الطيّب.. جدّي وجدتي اللذان لم يعطني الزمان فرصة أن أراهما، أو حتّى أن أعرف عنهما معلومة واحدة مفيدة. الكلّ يتكتم على قصّة وجودهما ورحيلهما، حتى والدي، ابنهما الأكبر. لا أكاد أعرف سوى قصيصات صغيرة من هنا وهناك. سمّاني والدي على أمّه المتوفاة "علويّة" التي أصرّت عمتي على تغييره لأنه اسم قديم سوف أخجل منه عندما أكبر، كما كانت تقول، ولكنه ما فتئ ينادي عليّ به، ويعدني بالحصول على كل ما أتمنّى إن غيّرت اسمي إلى "علويّة"، ولا يزال العرض ساريًا حتى اليوم. سُمّيت أختي على اسم عمّتي المتوفّاة، وسمّي أخي على اسم جدّي المُتوفّى، رحمهم الله جميعًا. في ذاك اليوم، قصّ علينا عمّي ما لم أعرفه عن جدّتي وعمّتي قط، عن الحادث المريع الذي توفّي فيه ٥ أشخاص من أًصل ثمانية، وكان هو أحد الناجين. لم تكن جدتي وعمتي لتتوفيا لو أن الإسعاف لم يتأخر، كم أحقد على ذلك الإسعاف! كيف كانت حياتي لتتغيّر لو أن جدّتي كانت تعيش اليوم؟ أحب أن أتخيّل أنني سأكون الحفيدة المدللة لأنني سُميت على اسمها. حكى لنا كثيرًا عنهم الثلاثة، وبكيت كما لم أبكِ في حياتي، وظللت أبكي لمدة ثلاث أيام أخريات بعد ذاك اليوم. في منتصف حديثه أوقفنا عند مطعم "فاكهة لبنان" المطعم المفضّل لجدّتي، وأكملنا الأحاديث حتى وصلنا إلى المنزل بدموع كثيرة وفجعات وصدمات. صرت من بعدها أشملهم في دعائي دائمًا، وأحبهم، وشعرت بقلبي صار أكثر اتساعًا لأنه استطاع أن يجد فيه مساحة لأناس ما اجتمعنا مرّة معًا في ذات الزمان، أولئك الذين ما رأيتهم قط، وكانوا سببًا في وجودي اليوم. صرتُ من بعدها أشكو لهم في سرّي ما يحصل في غيابهم.. حصل الكثير يا جدّة، حصل الكثير، وما كان ليحصل لو أنكما كنتما هنا. كانت أعيادنا لتكون.. أكثر، والعيديّات كذلك. كنت لأكون أسعد كثيرًا لو أنكِ كنتِ هنا، لو أنكِ انتظرتِ قليلًا حتى تري حفيدتك.. المُسمّاة باسمك.
أتمنّى لو أرسلت لي جدّتي رسالة تشبه التي أرسلها جون لابنه جورج، وكان لها أن تعنونها "لحفيدتي المُسمّاة باسمي" مثلًا. كانت لتسلّيني كثيرًا في تلك الأوقات العصيبة التي ما كانت لتكون لو أنها.. لو أنها كانت هناك لتحسم الأمر. لم أدرك أن غيابك سوف يكون بهذه القسوة، وأنّ حضورك كان بهذه الضرورة. أراحني كثيرًا أنني صرتُ أفهم ما غاب عنّي، وصرتُ أفسّر الكثير بغيابها هي وجدّي.. كم تمنّيتُ لو كانت هناك جلسة أسبوعيّة في بيت جدّتي لوالدي، يجتمع فيها الـ..كلّ، ولا نضطر من بعدها لاستعادة ذكراها وتصوّر شعورها في محاولات لأن يصبح الواقع أفضل مما هو عليه. كم تمنّيت ذلك يا جدتي.. رحمك الله.

تلك القشعريرة التي شعرتُ بها وأنا أقرأ لجون الميّت، وللقصص التي حكاها عمّي عن جدّي وجدّتي، شعرتُ بها للمرّة الثالثة وأنا أتأمّل مخطوطات العثمانيين ومنحوتاتهم في متاحف إسطنبول، والتي، في الفصل الفائت، درستُ عن تفاصيل أصحابها. لم يكن الأمر مقشعرًا حينما درستُ عن ذاك الزمان كما كان حينما لمستُ الأشياء التي تركوها من خلفهم وتحسّستها بيدي، استحال الأمر من قصّة أو درس أو خيال إلى زمان آخر أدركته إدراكًا، أنا أعيش في زمان لحق ذاك الزمان، زمان كان له أناسه الحقيقيّون جدًا، يتكلّمون بذات اللغة، ولهم أيادٍ تنحت وأثواب تُلبس وأقدام تجول في ساحات القصور التي مشيتُ أنا فيها. أولئك الولاةُ الذين درستُ عنهم كانوا فعلًا هنا! تلك القصور التي كانت مطبوعة بحبر أسود وبجودة رديئة في أوراق الدراسة هي فعلًا موجودة! أليس ذلك مرعبًا؟ أن تشعر أن زمانك هو قطعة مرتبطة بمئات القطع التي تشبهها من قبل ومن بعد؟ أليس مرعبًا أنك الجزء الصغير في عالم اليوم، أنك الذرّة الضائعة في هذا الكون، أنّك الكائن الذي يعيش في بقعة توجد ملايين البقع الأخرى من حولها،، أليس مرعبًا أن لا يكتفي الزمان بهذا الوجود الشاسع، بل بأزمنة أخرى كثيرة، من قبله ومن بعده، مرت على ذات الأماكن، وسكنت ذات الكون، وعاشت، وتنفّست، وجاهدت حتّى يصير الواقع أفضل، أو كانت أنانيّة حتى نعيش اليوم ما نعيش من ضعف ودمار.. أليس مرعبًا أن تعي أن اتّفاقية خرقاء مثل سايكس بيكو هي سبب الحدود الخرقاء بين الدول العربية التي نعيشها اليوم؟ أن المأساة الفلسطينيّة ذات ال٧٠ عامًا كانت فكرة لشابّ أحمق يدعى هرتزل قبل أكثر من قرن؟ هذا ما يحصل فعلًا، هذه الحياة لا يصنعها زمان واحد، وقطع الزمان تتسلسل ويؤثر بعضها في بعض أكثر مما.. نفغل عن ذلك. 

بينما كنت أجول في متحف توب كابي في تركيا، وأنا أتأمّل مليًا وأدرك أنّ وجودهم كان حقيقة راسخة كما لم يحصل وأن فعلت، كنت أفكّر: لِمَ حينما أحطت بالمادّة التي خلّفها أولئك العثمانيّون أدركت وجودهم بشكل حقيقي؟ لِمَ لم تفعل ذلك فيّ كل تلك القصص التي نقبّت من خلفها وصنعت فيها البحوث والواجبات وحفظتها عن ظهر قلب؟ وتذكّرت وينستون في ١٩٨٤ حينما قال أنه عندما كان يشكّ في كل شيء ويظنّ لوهلة أنه جُنّ، كان يتحسس يديه وقدميه ووجهه ليدرك أنه موجود، وأنّ هذا العالم غارق بالأكاذيب، وأنه بالقصاصات القديمة التي يحتفظ بها عن زمان سابق لم تكن فيه الأمور كما هي في يومه ذاك- يستطيع أن يبرر حصول الأشياء من حوله،، وتذكّرت الحديث الذي دار بيني وبين أحد الأصدقاء عن السبب وراء أهميّة اللفظ الذي نعبّر عنه وإن كان الشعور يحفّنا من كل جانب، لِمَ تُحدث تلك الكلمة التي تعبر عن هذا الشعور الهائل الذي، ربما، لا تفيه الكلمة حتّى حقه من الوصف.. لِمَ تحدث الكلمة تلك الصدمة فينا وتجعلنا نراجع كل ما حصل مرّة أخرى ولكن تحت تأثيرها هذه المرة، ليزهر الماضي ويتخذ أبعادًا جديدة، ولا يفعل الشعور،، لم نشعر بتلك الصاعقة من خلف كلمة مثل "أحبك" وإن كنّا نجد الحب دافقًا دافئًا غزيرًا ونشعر به يحفّنا ولا نشكّ بعدم وجوده؟ ما الذي تفعله المادّة ويعجز الشعور عن إيصاله حتّى تسري فينا تلك القشعريرة؟

وحدست: ربّما للمادّة القدرة على ترسيخ ما هو طائر في الجو وحائم فيه من شعور وأفكار، ربما هي من تكسبه الوجود في هذا العالم الذي لا يعترف بوجود إلّا ماهو حسّي، ويعدّ المادّة فيه أصلًا كما الرّوح. ربما هي من يقوم بتأصيل وجود الشعور أو المعنى أو كل ما هو غير محسوس -كما تقول صديقتي- وتجعله مُنطلَقًا لما شاء من بعده من شعور، ربما لا يكفي أن يوجد الشعور وحده دون المادّة، وأنّه يلزمه أن تمنطق وجوده الكلمة المسموعة أو اللمسة المحسوسة أو الأثر الباقي عن زمان مضى أو شخص رحل.. ربما الاتحاد الذي يتزامن فيه وجود الاثنين معًا، هو مايشكّل أصل المعجزات، أصلّ الصدمة التي تنخر القلب وتقبع فيه، أصل الأدراك،، وأصل وجود الإنسان. ربما بالطريقة التي وجد بها الإنسان، سيّد هذا الكون، نستطيع بها وحدها أن نخلق الوجود لغيره من الأشياء.

ربّما، لنعيش هذه الحياة القصيرة كما يجب، بوعي نعطي به وجودنا حقّه، ينبغي أن نشعر بما يحصل في هذه العالم بشكل أكبر، بالأزمنة التي مضت والأزمنة التي تلي، ربما بهذه الطريقة فقط سوف نرى الأشياء بحجم يشبه حجمها الحقيقيّ، وندرك ما كان ينبغي علينا إدراكه كما أدرك جورج أنّ أباه الذي مضى لم يكن أبًا مضى وحسب، بل كان أكثر من يحبّه ويخشى فراقه، وصار له من بعد تلك الرسالة وجود حقيقيّ في قلب جورج وذاكرته، صار أكثر من اسم لأب راحل. ربما إن شعرنا بما حولنا، بما غاب عنّا في أزمنة مضت، بأشخاص الماضي القريب والبعيد، سنستطيع أن نملأ الفراغات، ونحلّ الألغاز، ونرى الأشياء من حولنا ذات بريق، ونفهم أكثر، ونعرف كيف نمضي، ونتّسع أكثر لنحبّ من لم يسعهم الزمان أن يلحقوا بنا ليخبرونا بأفكارهم الغزيرة عن هذه الحياة، عن التجارب التي خاضوها والأخطاء التي اقترفوها، عمّا ينبغي لمن سيخلفهم أن يفعل وألّا يفعل. هذا العالم شاسع واسع، لا يكتفي بالتمدد المكاني، بل فيه من الزمان ما هو أرحب وأعجب، ووجودنا المعجزة يمكن له أن يسع ذلك كلّه إن تحسسّ الواحد فينا الأشياء من حوله، وأدركها كما يجب، ورآها بقلبه.


الأربعاء، 17 أغسطس 2016

عن زيارة بين غيابين

جاءت، وأنا لست متأكدة من أنّه كان ينبغي عليّ أن أعرض عليها عرضًا كهذا منذ البداية. سألتها إن كان الغد مناسبًا وأجابت بلا، عرضت عليها أن نخرج بعد العشاء سويّة، حتى لا يتركّز الموضوع كله في الجلوس في المنزل، ولم تنجح الفكرة لأنّ سائقي مسافر وسائقها مشغول، فقرارتنا نحن الإناث الملكات في هذه البلد تتحكّم فيها أوضاع السائق طبعًا. لست ممّن تريحهم فكرة مجيء الأصدقاء، أحبّها وأرغب بها دائمًا، ولا أرتاح لها لأسباب كثيرة، بقدر ما أجد الأمر ممتعًا حينما يحصل. لم أتعوّد على أن أدعوهم، كانت أختي.. أختي التي ذهبت، كانت هي تفعل دائمًا، وكنت أجد ذلك ممتعًا كفاية، وأنّه يكفيني أن أستقبل صديقات أختي، وأنّ ذلك أقصى ما يمكن أن يحدث. يحصل دائمًا أن تزورني صديقة الطفولة والمدرسة والجامعة، تلك التي كانت تدخل غرفتي، وتوقظني، ثم تنتظرني حتى أتجهّز، ثم نمضي بسيّارتها إلى المدرسة سويّة.. وما يفوق ذلك بكثير. يحصل أن يحدث ذلك من أشخاص محدودين جدًا، أعدّهم من أفراد العائلة، ولكنّ الأمر تقريبًا يقف عند ذاك الحدّ، وغيره معدود ومحدود.

جاءت، وكنت أخاف أن يبدو الأمر أخرقًا، ويكون الذي بيننا مفتعلًا، ويكون اللقاء رسميًّا "رسميّةَ الأصدقاء القدامى الذين ما عاد يربط بينهم سوى الماضي"، نظرًا للفترة الزمنية العظيمة التي فرّقت بيننا، والمسافات الشاسعة.. ثلاث سنوات كاملات، حصل فيها ما حصل، كبرنا فيها كثيرًا، وتغيرت فيها أفكار وقناعات، آلام وأفراح وتجارب وخيبات مررنا بها ولم نتشاركها. كنت أخاف الفجوة العظيمة التي بيننا، كيف نردمها في بضع ساعات ونفتعل عدم وجودها؟ 

دخلَت، فأشرت إلى دراجتي ببلاهة أن هيّا نلعب بها خارج المنزل سويّة، فأخبرتني بسخريتها المعهودة: سوف يكون ساذجًا أن تركبيها وأتفرّج عليكِ، ثم أركب وتتفرّجين عليّ، فلا تكاد الأولى تلحق بالأخرى، ولا نكاد نرى بعضنا أو نتبادل أيّ حديث. ضحكنا، وكانت محقّة. خرجنا نمشي تحت شمس العصر الحارّة وهي في أحسن حالاتها، مشينا، وتكلمّنا كثيرًا وضحكنا، اعترضتنا البقالة فدخلنا، واشتريتُ أنا أشياء غير صحيّة، ولم تشترِ هي إلًا عصيرًا غازيًا. عند ثلاجة العصيرات سألتني: ألا تريدين أن تشتري عصيرًا؟ أجبتها: أنا من النوع الذي لا يشرب العصيرات، رغم أن الكلّ يفعل، مثلما أنني لا أعرف كيف أسمع الأغاني بالسماعات في كل مكان كما يفعل الكل. أشرب العصير وقت الغداء فقط، وأسمع الأغاني حينما أجلس على لابتوبّي فقط. ضحكت ووصمتني بالغباء، وأنه كان عليّ أن أعمل في إعداد "الرابط العجيب" في سبيستون لأنّ ربطي ليس ذو معنى. ضحكت.. لا زلت أجده ربطًا موفقًا ومنطقيًا ذو! (though)

أكملنا المشي. كانت تمشي في الجهة المعاكسة لنا فتاة ترتدي نظارة شمسيّة، قالت: أوه، هذه الفتاة تبدو مثلنا، تمشي على غير هدى لمجرّد أن تمشي، وأشارت لها بيدها ببلاهة ظانّة أنها لا تزال هناك، في كندا، حيث يشير المارّون إلى بعضهم دون تحفظات، فقابلتها الفتاة بتكشيرة الـ"ما أعرفك خير؟"، فضحكتُ وقلت لها مثل كل السعوديين الكذّابين: أعرفها ولا أظنّ أنها تعرفني. أكملنا المشي حتى وصلنا إلى بقعتي المفضّلة، حيث المراجيح النائية التي تحفها الأشجار من كل جانب. تمرجحنا وأكملنا الحديث والضحك. سألتها أن كيف قضيتِ إجازتك؟ فأجابت بأنها تقابل أناسًا كل يوم صبحًا ومساء، وأنه ما حصل أن كان هناك وقت لم يشغله شخص أو لقاء. تعجّبت في داخلي، أليست هذه التي كانت تتهرّب من النّاس أيًّا كانوا؟ أليست هي من كانت تصدّ من يريد لقاءها؟ لغد تغيّرت فعلًا! أخبرتني حينها بمن قابلت ومن ستقابل، واطمأننت لأنني أعرفهم كلّهم تقريبًا، وأنني لا زلت "على الخط". استعدنا ذكريات المدرسة المجنونة، وغير المدرسة، والنوادي التي انضممنا إليها، والمشاريع التي عملنا عليها معًا، وتحدثنا عن العائلة والأصدقاء المشتركين، عن إخوتنا وأخواتنا، وغيرهم.

في طريق العودة، قلت لها: لقد تغيرتِ فعلًا. قالت: كبرنا، هذا ما حصل. ثمّ أخبرتني في خضمّ الكلام: بصراحة، أنت تدورين في دوائر. تتشبّثين بالفكرة، ثم تتركيهنا، ثم تضطركِ الحياة أن تعودي إليها، ثم تتركينها لتعودي إليها، وهكذا. وعقّبَت: طبعًا لا أعني ذلك بشكل سلبيّ! ضحكت ضحكة العارف.. نعم أنا كذلك، ولكن ليس بالضبط. أدور في دوائر ولكن.. أظنّها تتسع كل مرة، وعندما أعود للفكرة أعود لها بزيادات وإضافات وتعديلات، ربما أنا أدور ولكن ليس في دوائر؛ في حلزون،، فهزّت رأسها موافقة.

عدنا، وشربنا القهوة، وأكلنا من الكعكة التي أعددتها بيديّ -لأوّل مرة بعدما غادرت أختي تُعَدّ هذه الكعكة في المنزل، كانت هي دائمًا من يعدّها-. لوّنّا وتكلمنا كثيرًا، وضحكنا طبعًا. تكلمنا عن الجامعة، وعندما كانت تحكي عن أستاذها "الرهيب" وجامعتها التي لا تقبل فيها سوى النخب، كنت أبكي من خلف النّظارة، وأدعو في سرّي: يا ربّ كل ما أريده هو أستاذ واحد جيّد. حكت لي عن المشاريع المجنونة التي يخرج بها الطلاب في جامعتها، ولم تبدُ راضية عن ذلك رغم كل ما كانت تقول، كنت أقول لها: كل ما أتمنّاه هو جامعة تستفزّني وتحثني على المزيد من العمل! كل ما أتمنّاه هو المساحة الحرّة التي يعطونكم إياها هناك. أجابت: نعم هناك مساحة واسعة للإبداع، ولكن ليس الأمر كما تظنّين. في جامعتنا قولبة من نوع آخر، حيث يترك الكل لعمل ما يريدون، لكن أصحاب المشاريع المجنونة بشكل واضح يكون لهم اهتمام خاص، وعلى ذاك المعيار (الجنون) يقاس الإبداع، فيصير الكلّ يعمد إلى إضافة شيء من الجنون حتى ينال المشروع على إعجاب الأساتذة والطلبة، ويحصل على الدرجة المناسبة. ففهمت، ووافقتها في ذلك.

تكلمنا عن الأديان والعدل الإلهيّ والصداقات، عمّا ينبغي ومالا ينبغي، عن أصل الأشياء، عن المنظومة الأخلاقيّة التي تحكم أفعالنا، عن مركزيّة الإسلام أو لا مركزيّته، اختلفنا وتعالت أصواتنا وضحكنا رغم كلّ شيء، وأكملنا تلوين اللوحة. كنت أذهب وأعود فأجدها تباغتني بأن تكمل الحديث السابق بفكرة جديدة من الواضح أنها أحكمت إعدادها في غيابي، فأشير عليها ساخرة: كنتِ تفكّرين في غيابي برد جديد هاه؟ تجيب: أجزم أنكِ كنتِ تفعلين ذات شيء. وكنت أفعل. وضحكنا. استمعنا إلى عدّة أغان ونحن نلوّن، ولأنّ ذوقها عجيب جدًا، أخبرتني أن أخاها يقول: يتزوّج المرء ممّن ينسجم مع ذوقه الموسيقيّ، وأنّه يتساءل عن ماهيّة من سيكون. ولفرط ما اندمجنا في الحديث، نسيت أن أحضّر الشّاي بإحدى الزهورات الكثيرة التي اشتريتها خلال السفر، ونسيت أن أقدّم ما اشتريته أو أعددته لأجلها من الأساس. كنّا منسجمتين جدًا حد الصرااااااااخ، والضحك، والصراخ المشوّب بالضحك. كانت كلمة "لا تسارعي بالحكم" سيدة النقاش، وأساس الاعتراضات والمقاطعات، فكلتينا تظنّ أنها تلمّ بحياة الأخرى من كلّ جوانبها، وأنها تفهم ما يتبادر إلى ذهن الأخرى قبل أن تقوله بغرور غريب رغم الغياب الفاحش الذي حال بيننا. دائمًا ما كانت تواجهنا مشكلة الكهرباء هذه في الماضي، فنحن نتشابه كثيرًا فنحتدّ كثيرًًا، ولكن هذه المرّة كنا ناضجنتين جدًا للدرجة التي وجدنا فيها نقاشاتنا التي تعلو فيها الأصوات أمرًا مضحكًا، وأنّ هذا الحماس صحّي وجميل وحميميّ.

قبل أن تذهب، أخبرتها أنه من الصعب أن تذهب مرة أخرى بعدما عادت وأحببت أنها عادت. ربما كان من الأفضل أن لا تأتي، وأن لا أتذكّر أن قربها مضحك ومنعش لهذه الدرجة. كان الوداع سريعًا، هي تكره الوداع، وأنا أكرهه أكثر. عند عتبة الباب أخبرتني: كنت أحسب أننا لن نعود كما كنّا بعد الفراق الطويل الذي حصل، وهززتُ رأسي. ثم أخبرتها: أحبك رغم المضاربات. حضنتني حضن "أبو شيلة" وهي وحدها من تفعل، وذهبت كما يذهب الغائبون، مرّة أخرى، كما ذهبت أختي، كما ذهبت ابنة عمتي، كما ذهبت صديقتي، كما ذهبت ابنة خالتي.. انضمّت إلى حزب الذاهبين إلى تلك الكندا المقيتة، لأكرهها أكثر. كنت أبتسم حتى اليوم التالي وأنا أسرد الأحاديث التي مضت، بكل ما حملته من سخرية وأفكار تستحقّ المراجعة وإعادة النظر. هي من ذاك النوع الذي إذا تكلّمت معه فأنت تخرج من الجلسة لست كالذي كنت سابقًا. يحصل وأن يهتزّ شيء هناك، بداخلك، ينعشك ويحثّك على المزيد من البحث. سأفتقدها مجددًا، وآمل أن لا يكون الفراق القادم يوازي الأوّل في طوله، فأنا، كما تعلمون، ما عدت أطيق فراقًا آخر. 


السبت، 6 أغسطس 2016

ذات مرض

أشعر بالتعب، رأسي ثقيل، روحي ثقيلة، جسدي يتحرك ببطء، مفاصلي تحتاج إلى تزييت. أشعر بالثقل. أشعر بالحزن والخواء. أفتقد أختي بجنون. أتوق إلى أن أسمو وأرتقي. أشعر أنني ملطّخة بماء موحل. أشعر أنني بحاجّة ماسّة لشخص حكيم يؤمن بي ويأخذ بيدي ويرتقي بي بتدرّج حنون، فأسمو وأعلو يومًا بعد يوم، شيئًا فشيئًا، خطوة خطوة، بهدوء وسكون وحب. أشعر بالزهد من كل شيء، من كل المتع اللحظيّة، من كل شيء زائل، وأتوق لكل شيء باق، ممتدّ، حقيقي وسامٍ. أريد أن أبقى مع شخص واحد نتبادل معًا أحاديث ساكنة وهادئة، أستطيع بها أن أعيد صياغة الفوضى داخلي وأن أعطي للأشياء بعد ترتيبها أسماءً وعنواين. أشعر بالحاجة إلى حديث صادق ممتدّ طويل هادئ، لا يثير فيّ أي نوع من الاستفزاز أو الرغبة في الجدل والمشاجرة، يريحني ولا يزيدني قلقًا، يمتصّ التوتّر داخلي ويأخذني إلى برّ مستقرّ آمن. أشعر أنني أريد أن أركّز على شيء واحد وأعمل فيه بجدّ، وحب، وهدوء، بشكل لا يشبه المذاكرة السريعة ولا العمل على أبحاث الجامعة، بطريقة لا تشبه العمل في الأوقات المضغوطة ولا القراءة في المواضيع التي لا تعنيني حقًا. أشعر أنني أتوق إلى الصدق الخالص، إلى أن أعيش بصدق لا تشوبه أيّ شائبة ماديّة أو شيء من الزيف. أشعر أنني أكره الأشياء الغالية والحفلات الصاخبة والنفاق الاجتماعي أكثر من أيّ وقت مضى. أشعر أنني لا أستطيع أن أمثّل أو أجامل، وأتمنى أن لا يضطرني أي موقف إلى أن أقوم بذلك فيما سيتقدم من حياتي، في الشهر القادم على الأقل. أشعر أنني أريد أن أرفض كل ما لا أريده حقًا، وأن أسعى إلى كل ما أريده حقًا، دون أن أتنازل. لا أريد أن أتنازل عن أيّ شيء أريده بصدق. حياتي الماضية كانت محفوفة بتنازلات عظيمة في مقابل أشياء لم أكن متأكّدة من أنها كانت تستحقّ. أشعر أنني أضعت الكثير منّي ولا أريد أن أفوّت ما سيأتي كما فعلت في الذي مضى. أشعر أنني أريد أن أصمت كثيرًا، لوقت طويل، أن لا أضطرّ للكلام. أشعر أنني أريد أن أكون محفوفة بمن أحب وأثق طيلة الوقت. أشعر أنني أريد أن أعطي وأنا صامتة. أشعر أنني أريد للأشياء الحقيقية أن تتسلّل إلى داخلي، للكلام الحقيقيّ الطاهر، للأناس الحقيقيّين، وأن يقوموا بدورهم بنفض غبار الزيف عن قلبي. أشعر أنه كان بوسعي أن أفعل ما لا أريد في الوقت الذي مضى، وأنا أدرك ذلك، وأن الوقت قد حان حتى أتوقف. أشعر أنني وصلت إلى النقطة التي لا أستطيع من بعدها أن أتحمّل، وأنني متعبة ومجهدة من كلّ ماهو زائف وغير حقيقيّ، وأنني لا أستطيع أن أخوض في جدال لا يفضي إلى معنى، أو إلى نتيجة تعنيني، أو تعني حصول السلام في هذ العالم. أشعر أن لديّ الدافع الكافي لأقوم بما أشعر أنه صحيح دون أن أسائل وأن أضيع وقتي في التساؤل. أشعر أن الوقت يمضي وأنني كنت غافلة عن مضيّه بهذه السرعة، وأن الوقت قد حان حتى لا أسمح له بأن يتغافلني أكثر، وأنّه عليّ أن أكون حقيقيّة فيما سيمضي بنسبة ١٠٠٪، وأن أيّ زيف من الممكن أن يجعلني أنفجر، وأنني أحتاج إلى المراعاة حتى أستطيع أعود أمشي، وأنني أحتاج من يحملني على الصعود، وأنني في أضعف وأقوى مراحل حياتي، وأنني ضائعة جدًا بقدر ما أعرف ما أريد، وأنّ المزيد من الحياة يشكّل كل اللامعنى بقدر ما أجد المعنى وأراه بوضوح رغم بعده الشاسع عنّي. أشعر بأننّي في حاجّة ماسّة للاستقلال واتخاذ القرارات عن نفسي، بنفسي، وأن أتحمّل نتائج هذه القرارات، وأن أدرسها بطريقتي، وأحجم عنها لأنني وجدت في اتخاذها ما يسوءني أو يسوء العالم. أشعر أنني لا أطيق اتباع الأوامر أكثر، أوامر ليس لها معنى، لمجرّد أنّ عليّ اتباعها. أشعر أن ذلك يستهلك منّي الكثير، من وقتي وجهدي وتفكيري، خصوصًا وأنا أحاول أن أجد المبرّرات في أن ما فعلت كان ينبغي أن يكون، وأن أقنع نفسي أنني بالتنازل أكون شخصًا جيدًا وغير أنانيّ. أكره أن أكون أنانيّة، ولكنني أشعر أنّه في هذه المرحلة بالذات أحتاج أن أفكّر في نفسي قليلًا، أن أفهم ما يدور داخلها، ومن ثمّ أستطيع -بعد أن أجد ما أتكئ عليه- أن أقدم التنازلات، وأن أكون متكّأً للآخرين حتى يجدوا متكّأهم كما وجدت أنا. عندما يسقط جسدي ويصبح غير قادر على الحراك أكثر، كما يفعل الآن، أدرك بوضوح كم جعلته يتحرّك فيما لا ينبغي، أو فيما هو غير حقيقيّ، أو أنني حمّلته أكثر ممّا يطيق، فيما لا أريد، وأنه كان من المفترض أن أوجّه طاقتي فيما أشعر أنني أريد فعله حقًا. أفتقد أختي كثيرًا. أكثر مما أطيق. أفتقد وقتي الخاصّ. كثيرًا. أشعر أنه ينبغي أن أعيش وحدي في الفترة القادمة، في الشهر القادم، حاجّة ماسّة لا يغني عنها أي شيء آخر. أشعر رغم ذلك أنني بحاجة للكلام مع عاقل، لا يملك وصاية أبويّة عليّ، ولا يزيد عمره عن الخامسة والثلاثين، أو من الممكن أن يزيد بشرط أن لا يشعرني أنني طفلة، وأنه يكبرني ويعرف الكثير مما لا أعرفه، لذا أنا أشعر بما أشعر، وأن يكون ردّه الوحيد على تساؤلاتي هو أنني سوف أفهم مع الوقت، دون أن يساعدني على أن أفعل. أشعر أنني أريد أن أكمل العمل على مشروعي. أشعر أنني أريد أن أقضي كل وقتي في شيء ذو معنى، كل وقتي، ولا أبالي، مهما كان ذلك مجهدًا. أشعر أن فكرة الجامعة تزيد مرضي وتجعلني أريد أن أتقيّأ. لا أشفق على شيء في نفسي سوى اضطراري للذهاب إلى تلك الحمقاء الفارغة؛ الجامعة. أتناساها عمدًا كلما سألني أحد عنها، كلّما يصلني على بريدي شيء منها، ولا أستطيع أن أنسى. أخاف مجيئها، والوقت يمضي رغمًا عنّي. أشعر أن أهم شيء أفعله في حياتي الآن هو أن أجد مخرجًا يجعلني لا أذهب إليها. ذكراها تجعلني أشعر بهمّ يخرّب عليّ كل محاولات السعادة والاسترخاء، هي الخطر القادم ولا شيء غيرها. حياتي كانت لتكون جيدّة جدًا لو كنت لا أدرس، أو لنقل، لو كنت أدرس في مكان أفضل. كم أتوق إلى الدراسة في مكان أفضل، ليس للحصول على شهادة أفضل، ولا لأن أذهب إلى حرم جامعيّ أرحب، ولكن حتى أعيش بشكل حقيقيّ أكثر، يحترمني، يحترم أن أسأل، يحترم أن أبحث عن المعلومة الحقيقيّة، ولا يضطرني إلى اعتلاف المعلومات في وقت قصير ليس لشيء إلا لأفرّغها. أريد أن أذهب إلى مكان لا أشعر حينما أذهب إليه أنني بهيمة تعتلف ثم تقضي حاجتها. هذا الشعور هو أسوأ شعور يمكن أن أشعر به في حياتي. أكره ذلك. أكرهه بشدّة، أكثر من أيّ شيء. تلك الجامعة زائفة كلها، تافهة كلها، خرقاء كلها، والكل فيها أخرق، والكلّ فيها زائف جدًا، جدًا، أعني: جدًا. لن تصدّقوني ما لم تجرّبوا. لا يعنيني فيها شيء، وأنا لا أعنيها. أكرهها بكل ما أوتيت من طاقة للكره. وأكره كل ما يشبهها، وكلّ من يريد أن يقنعني بأنّ فيها ما يستحق الذهاب والمحاولة، لأنني حاولت خلال سنتين، وأشعر أنني أضعت وقتي. أنا قد أضعته فعلًا. أشعر بالجوع، بطني تؤلمني لفرط ما أنا جائعة، ولكن ذلك لا يهمّني. مستعدّة لأن أشعر بالجوع طيلة عمري إن كنت أفعل ما هو أهمّ. النوم لا يعنيني، والأكل لا يعنيني، والكلّ يعرف ذلك، لأنني أتوق لما هو أكثر، لما هو أسمى. لا الملابس ولا الحقائب ولا الأحذيّة. أريد أن أبدو جميلة دائمًا، بشكل بسيط ونظيف وهادئ. بالبساطة وحدها. أريد أن أبدو جميلة بطريقة حقيقيّة، والقليل من المكياج لا يضرّ. أحبّ في المرض أنّه يشعرني بالخفّة رغم الثقل.. ثقل الجسد وخفّة الأغشية التي أرى بها الأشياء. ثقل الرأس وخفّة الأفكار، سرعة تدفّقها، وضوحها.. ورغبتي الحقيقيّة في كل ما هو حقيقيّ. أشعر أن جسدي حين يثقل، تثقل معه رغبتي في كل ما هو أرضيّ، فتظهر رغبتي بكلّ ماهو سامٍ عنه جليّة واضحة. أشعر أنني حين المرض أعرف ما أريد حقًا. وحين السفر كذلك. حينما أبتعد، أرى الصورة واضحة. حينما أكون هناك، حيث أكون دائمًا، أشعر أن كل ما أريده هو أن أبتعد، وهذا ليس حقيقيّ. حينما تصل إلى أقصى ما ظننت أنك تريده، تستطيع أن تنظر إلى الخلف، ترى ما فعلت، ثم تحدد ما تريد حقًا. الرغبة في السفر تكون ملحّة حينما يبدو كلّ شيء مضجرًا، وأشعر أنها منفذي الوحيد. حينما أفعل، لا توجد عندي رغبة أبعد، لا أشعر أن البعد حل، أفهم أن فيه لا يكمن الحلّ، وأستطيع بعدها أن أراجع أموري بوعي أكبر، دونما رغبة في الهرب، لأنني في صلب الهرب. أنا قد هربت، وليس بعد الهرب إلّا العودة. بالهرب أستطيع أن أعود إلى مكان جديد دائمًا، يقترب من مكاني القديم ولا يكون هو بالضرورة. في كل بُعدٍ فرصة للعودة إلى مكان جديد. وإن عدت إلى نفس المكان، فستعود بروح جديدة، وأنت تنظر إلى الأشياء بطريقة مختلفة، فلا يعود المكانُ هو المكان بالنسبة إليك، وهذا هو المهمّ. أن تتغيّر أنت فيتغيّر هو. لا أستطيع أن أقول أنني بهذا السفر هربت، ولا أستطيع أن أقول أنّه غيّر فيّ شيئًا، ولكن حصل وأن سافرت، وحصل وأن ابتعدت، وذلك بحدّ ذاته شيءٌ.. ما. أريد أن أ ع و د. ولكن لا أريد أن أعود إن لم تحصل الأشياء التي أريد لها أن تحصل. في الواقع، أريد أن أعود في كل الأحوال. ليس في كل الأحوال بمعنى (كل الأحوال) ولكنّي أريد أن أعود، بصدق. لأوّل مرّة أشعر أنني أهرب دونما رغبة في الهرب. رغبت بالهرب، ورغبت بالبعد والتغيير، ولكن ليس في هذا الوقت بالذات، ولا بهذه الطريقة. حصل وأن حدث، حاولت أن أتقمّص دور الهارب، ولكنّها تأبى أن (تزبط معي). هذه الحياة فوضى، كلّها. هذه الحياة عبث. تحصل الأشياء حينما لا نريد لها أن تفعل، وحينما نريد ذلك بقوّة، تصمد صمود الجبال، ويستحيل حراكها. الانسجام مع حركاتها الغريبة متعب، متعب جدًا، وكثير على متعبة مريضة مثلي، كما هو متعب أن ترحل أختي. أفتقدها بجنون. الحياة تحصل، وأجدني في كل مرحلة فيها رغم ضوضائها وازدحام الأحادث فيها- أشتاق أختي. لا يجوز للحياة أن تمضي وأختي ليست موجودة بجانبي، أختي التي ولدتُ وهي موجودة دائمًا. لا يجوز ذلك! ربما لو عادت أختي لكان كلّ شيء على ما يرام، ربما ذهاب أختي هو سبب كل هذه الفوضى. لا أعلم. أنا أشتاقها وحسب. هذا يكفي على ما أظنّ، أشعر بالراحة لأنني كتبت بعد شهر لم أستطع فيه أن أكتب كلمة واحدة مفهومة، ولم أتكلّم فيه مع أختي بشكل كافٍ. الكلام علاج، وتدفّق الأفكار على شكل كلمات، لسبب ما، يجعل التنفّس أكثر سلاسة. أتعلمون؟ أشعر أنني أريد أن آكل الآن. وأنني قادرة على المشي، وأن رأسي أخفّ.