الخميس، 26 نوفمبر 2015

الجامعة.. والنّاس

(تنبيه: بعد سنة من كتابة هذه التدوينة وجدت أن الكلام الذي كتبته هنا أجمل من الواقع بألف مرة. أن أردتم الحقيقة فراجعوا التدوينة السابقة)


النّاس. لطالما كانت هذه الكلمة معضلة بالنسبة لي.
في المرحلة الثانوية، كنت أكرر بسخف: "الناس جحيم يطاق، والحياة بلا ناس نعيم لا يطاق"، مستبدلة (الحب) بـ (الناس) في جملة قرأتها مرّة، ووجدت أن السياق فيها مناسب لأعبر من خلاله عن كرهي لوجود الناس ورغبتي بالوحدة. كنت حينها مترفة بكل الناس الذين أحب من حولي، حتى صرت أرى الوحدة ضرورة وهدفًا لم أستطع الوصول إليه. كنت مترفة، وساذجة قليلًا.. لم أكن أفهم.
أنا لا أزعم الآن أنني فهمت كل شيء، ولا أزعم أنني لن أغير القناعة التي توصلت إليها، ولكن..
أظن أنني كبرت كثيرًا، وجربت كثيرًا، وتألمت كثيرًا حتى أفهم ما أفهمه الآن، وأتبنّى قناعتي الجديدة، أو أصف شعوري الجديد بالطريقة التي سوف أصفه بها.

كانت المرحلة الجامعية بالنسبة لي شاقّة جدًا، من حيث كل شيء باستثناء الدراسة ذاتها. الدراسة في الجامعة، في الواقع، سهلة ويسيرة ومقدور عليها رغم الضغط، والحمدلله.
بدأ كل شيء في الجامعة وأنا وحيدة تمامًا، وحيدة جدًا. كنت أزعم أنني أحب أن أكون وحيدة، جديدة في عالم كل شيء، كل شخص فيه جديد.. لا يعرف فيه أحد ماضيّ، لا يعرف من أكون، لا الأخطاء التي اقترفتها ولا السذاجات التي ارتكتبها.. لا أحد سوف يحكم عليّ، وسوف تكون البداية جديدة جدًا كما ينبغي لها أن تكون. أنا حرة من آراء الناس، من أفكارهم، من أحكامهم، حرة بطريقة تسمح لي أن أكبر كما يليق بخريجة مدرسة صارت طالبة جامعة، أن أغير مظهري أو جوهري أو تصرفاتي أو طريقة كلامي أو طريقة تفكيري بالطريقة التي أريد. أن أتخير نفسي الجديدة وأنتقيها وأكُونَها، هكذا ببساطة. هكذا كنت أفكر، وهكذا كنت أظنّ أو أحلم، ولكن..
لم يكن الأمر بتلك السهولة.

في أول فصل دراسيّ لي في الجامعة، صبرت كثيرًا.. تألمت كثيرًا وحدي، وصمتّ كثيرًا. لم أكن أشارك أحدًا لأنه ليس هنالك من أشاركه أصلًا. كل من أعرف كان منشغل بعالمه الجديد الخاص، بالجامعة الأخرى التي تجمعهم كلهم، وينطق عن اجتماعاتهم سنابتشات بطريقة تبدو ممتعة جدًا، وأليفة جدًا، وحنونة جدًا.. بدوني. 
كنت أتعلم كل شيء جديد بطريقة "الدقّات". واجهت كل أنواع الدّقات والخبطات.. وحدي. وحدي تمامًا. وكان ذلك مؤلمًا أكثر مما أحتمل، وتحملته رغم كل شيء. لا الناس هناك كانوا يفهمون، في الجامعة،، لا العائلة ولا صديقاتي القدامى، لا يفهم أحد لأنه لم يشاركني أحد حتى يعاين ما أرى وأسمع. كيف كانت كل "فشلاتي" الجديدة، والصعوبات التي ما تخيلت وجودها، وكل المشاكل، تلك المشاكل التي أتت من اللامكان حتى تزيد الطين بلّة وعفونة ولزاجة: الجدول، سرقة الكتب، سقوطي من فرط التعب، اللّوكر الذي أقفل مرة وسرق مرة.. رغم كل تلك الجِدّة الفاقعة التي حاولت احتمالها واجتيازها والتأقلم عليها، كانت هناك.. أشياء أخرى.
مارست الصمت وأتقنته في عامي الأول؛ العام الفائت. أتذكر أنني في المرات القلائل التي كنت أرى فيها صديقاتي -اللاتي ذهبن إلى جامعات أخرى طبعًا- كنت أخبرهم كم أشتاق الكلام، وكم هو ممتع ومريح أن تشارك صديقًا الأثقال الجديدة التي ترزح كل يوم على كاهلك ولا تفتأ تتجدد وتعود وتجيء. كنت أخبرهم كم كنت أحتاجهم هناك معي. كنت أدرك حزني وضيقي ووحدتي حينما أراهم.

في الجانب الآخر، هناك في الجامعة، لم أكن قادرة على إيجاد أحد. كنت أكره الفكرة، فكرة أن أكوّن صداقات جديدة، أن أفتح الباب وأعطي المجال للكلام، وأن أبادر بالسؤال عن رقم أو حساب في شبكة اجتماعية ما..
الفكرة كلها هو أن ذلك لا يناسبني، وأن الناس كلهم هناك لا يناسبونني.
كلهم.. لا يفهمون. كلهم. كلهم من طبقة مختلفة أو مكان مختلف بهموم مختلفة. كلهم لا يفهمون.
وإن كانوا سوف يفهمون فهم لن يفموا إلا القليل. لا أحد يفهم أن ما يتعبني شيء يختلف عن الدرجة أو المادة أو.. لم يكن ذلك ما يهمني حقًا. كانت هنالك هموم أخرى، وأحلام، ومخاوف وآلام ما كانوا ليفهمونها. حاولت.. جربت.. فتحت الباب، وما حصل. كنت مختلفة جدًا عنهم، وما كنت مستعدّة لأن أحب ما يحبون وأكره ما يكرهون وأتكلم فيما يتكلمّون..
كنت بعد كل اختبار حينما أراهم يتشاركون الإجابات، يتبادلون الفرحة والأحضان و.. كنت أغبطهم بقدر ما أستغرب من قدراتهم العجيبة على خلق تلك الروابط في الفترة الوجيزة التي تعرفوا فيها. وجدت بعدها أن كثيرًا منهم كان في نفس المدرسة، ومن تعرف هذه وتلك، تعرّف الأولى بالأخرى وهكذا.. 
المشكلة أن الدفعة محدودة جدًا، الطالبات قلائل، وأنا عرفت الوجوه كلها وشعرت باليأس، لأنه ليس هنالك أحد منهم يفهم، أو قابل لأن يفهم..

 تعرفت عليها في أول ترم لي، في حصة الحاسب، ووجدت أنها تشاركني ثلاث حصص أخريات. كانت تضع مكياجًا كثيرًا، و"ما فيها حيل تسوي شي" إلا أنها كانت لطيفة. كنا مختلفتين جدًا ولكنّها كانت تستمتع وتبدي رأيها بصدق. أحببتها رغم كل الأشياء التي ظننت أنني لن أحبها فيها. كان يهمّها أن لا ترسب فقط. كانت تقول قبل كل حصة: يلّا نسحب! وبعد كل تكليف تكلفنا به الأستاذة: يا ربييي! كنت أنزعج، ثم صرت أقلدها دون وعي، ثم.. انتبهت. صرت أخبرها أن تتوقف عن الشكوى قبل أن تخرج الكلمة من فمها. تفاهمنا مع الوقت.. تشاركنا هموم الدراسة وأشياء أبعد. أنا لا أعرف شيئًا عنها الآن، أراها من بعيد، نبتسم، وعندما يصادف أن تكون بجانبي دون صديقاتها الأخريات، نتبادل آخر الأخبار في جو حميميّ بين زميلتين قديمتين. ممتنة لأنها كانت موجودة في ذاك الوقت العصيب، كانت متّكئي الوحيد، الشخص الوحيد الذي يخبرني بعد كل برزنتيشن كيف كان عرضي، وأتأكد من خلالها قبله كيف يبدو شكلي، شعري، ملابسي..

في الفصل الثاني جاءت أخرى.. لم تجئ ولكن أرسلها الله لي. ٤ حصص مشتركة صدفة، ثلاث منها هي مواد التخصص في الفصل الدراسيّ كله. تشاركنا كل شيء حول الدراسة، وأشياء أخرى. أدمنت وجود شخص بعدها في حياتي.. لم أعيد أطيق تلك الوحدة المرعبة. ورغم الوحدة، بوجودها لم يعد للوحدة معنى. كانت هناك دائمًا.. نجلس بجانب بعضنا، نعمل معًا في نفس القروب، نتبادل الأسئلة والشروحات والقصص والضحك حتى ينادى على اسمينا لنسكت، تمامًا كما أيام المدرسة. عندما بدأت الجامعة فقدت بعض الثقة، وبوجودها استعدت ثقتي. كنا "نعزز لبعض" كثيرًا ونكمل على أسئلة بعضنا، أو نجيب حتى على بعضنا البعض بصوت عال. كانت صديقة، الدراسة هي العامل المشترك الأول، ولكنها كانت أكثر من ذلك بعض الشيء. هي ليست كذلك بعد الآن، هي أكثر بكثييير. هذه الإنسانة الفريدة الجميلة التي ما تفتأ تدهشني وتضحكني، ربما أتكلم عنها في وقت لاحق بشكل أكثر تفصيلًا.

هذا العام، تغيرت أشياء كثيرة، كثيرة جدًا، من ضمنها أنا. صرت أمشي وأسلم وأسلم وأتكلم وأسلم و.. 
أستطيع أن أقول أنني لم أعد وحيدة. لا أجلس آكل وحدي لأنه دائمًا هنالك أحد ما يشاركني. في كل الحصص، هناك دائمًا (قروب) يريدني، أو أستطيع أن أنضم إليه دونما خجل. كلّ شيء صار أسهل. دفعتي ليست بذاك السوء، وكثير منهم لطفاء جدًا. الكلّ صار صديقي و.. لم أعد غريبة. المكان لم يعد غريبًا. لا أدّعي أنني أشعر بانتماء ما تجاه الجامعة ولكن، ربما يكون هناك شيء يشبهه في قلبي. التخصص ذاته لم أعد أكرهه، لم أعد أشعر أنني ندّ يريد إثبات العكس. القانون أمر ضروريّ.. من المضحك أنني أعترف بذلك وبحثي لهذا الترم أردت من خلاله أن أثبت أن القانون ليس طريق العدالة المثاليّ. اخترت هذا الموضوع حتى أفهم كيف يعمل ذاك القانون، بعدما تشاكل عليّ الأمر من قبل التخصص ومن بعده، وأظن أنني -وأنا لما أكتب النصف الثاني من بحثي بعد- سوف أنحاز للقانون، في نهاية المطاف، بصفته يمثل العدالة في كثير من الأحيان.. نعم ليست كل الأحيان ولكنه يظلّ ضروريّ. لم أفهم هذه الفكرة إلا هذا العام. كل ما كنت أحتاجه هو مزيد من الفهم، وأنا أفهم اليوم أكثر بكثير مما كنت أفهم قبل دخولي الجامعة.

لست أستطيع وصف التفاصيل عبر هذه الأحرف و لا أعرف لماذا، أشعر أنها خاصة جدًا، أو أنها، ربما، لم تنضج بعد. لم تتبلور صورتها في ذهني بطريقة تسمح لي أن أصفها كطرف ثالث بعيد،، كـ (ريزنبول مان).
أنا فقط أريد أن أقول أنني صرت أحب كل شيء أكثر مما سبق، كل شيء يتعلق بكلّ شيء، وأن الأعباء لا أكاد أشعر بها رغم وجودها، وأن الحياة تبدو أجمل بكثير الآن، وكل ذلك يعود إليهم، إلى الناس التي أحب من حولي.. هناك في الجامعة.
هم كثيرون، كثيرون بطريقة يصعب عليّ أن أصفهم بها. كل وجود، كل كلمة، كل مشاركة من أي نوع تحمل عبئًا، وتلوّن الحياة بطريقة تجعلها أجمل وأزهى وأدعى إلى الحياة.

الحياة أجمل بوجود الآخرين.. لا يخدعنّك أحد يخبرك بأن الحياة ممكنة بدونهم. هذا عذر عاجز، واسأل مجرّب.