الأحد، 21 يونيو 2015

في غرفة الانتظار


أسندت ظهري على كتف أمي ونحن جالستان على كراسي الانتظار لما طال فيها الانتظار، بينما كان الصوت ينادي رقمًا رقمًا على الترتيب.. ٥٠، ثم ٥١، ٥٢، ٥٣.. وأنا، وقد فاض بي الملل والتعب والنعاس، أتابع الأرقام مع الصوت بعيناي على الشاشة. فجأة، ينادي الصوت على صاحب الرقم ٢٩. هاه؟ ماهذا.. أنا لم أصدق أن يقترب دورنا. كيف له أن يعود فينادي على الرقم ٢٩؟ ينادي الصوت بعدها على الرقم ٢٦! أوه هذا ما ينقصنا، نتحمل تأخير من سبقنا ويزداد الوقت امتدادًا على امتداده دون ذنب منا نحن الملتزمون! ألم ينقضي دوره؟ ألتفت إلى صاحب الرقم ٢٩ وهو يقوم من مكانه. أنتبِهُ.. كان صاحب الرقم ينتظر في الغرفة قبلنا. لم يأتِ متأخرًا إذًا، ربما كانت تنقصه ورقة أو صورة أو.. وهذا هو النداء الثاني على رقمه. على أية حال، كان عليه ألا ينسى، إنه يضيع وقته ووقتهم ووقتنا. 

أتساءل: لم لا تكون قوانين المعاملات الورقية بالصرامة التي ينتفي معها احتمال حصول خطأ أو تأخير في أوراق العملاء، فلا يتأخر الدور على أحد من المنتظرين وتمضي المعاملات سريعًا؟ ولكنها صارمة كفاية.. سهر أبي ليلة الأمس وهو يعدّ الأوراق ويعيد عدها ليتأكد من اكتمالها.. إنها صارمة حد الإزعاج.
لم لا يزال الناس يتأخرون ويخطئون إذًا؟ ألم ينبغي أن يكون كل شيء منظمًا منذ البداية، واضحًا منذ البداية، صارمًا جدًا من البداية! ماهو دور هذه الجهات التنظيمية؟ ما دور القانون هنا؟ ألم يأتِ ليوضح ما تتطلبه المعاملات، ويضمن صحة سيرها فينتظم الناس منذ البداية ولا يهفو أحد؟

التنظيم! المُنَظَّم لا يحتاج إلى تنظيم. الكمال لا يحتاج إلى تنظيم. البشر يخطئون ويصيبون، ويهفون مرة، وينسون مرة، ويمرضون مرة فيضطرون إلى الغياب، ويحصل أمامهم حادث مرة فيتأخرون عن مواعيدهم. الناس هنا ملتزمون نعم، ولكنهم لن يكونوا أكثر التزامًا مما هم عليه إلا إن تحولوا إلى آلات لا تخطئ، ولن يكون النظام أكثر صرامة إلا إن كان مرعبًا حد استعمال البنادق على كل المتأخرين والمخطئين.
أتذكّر وأربِطُ بين هذا وذاك مستعيدة تعريف لفظة القانون التي ما خلا منها اختباري الأول في الجامعة: جاء النظام/القانون لينظم حياة الناس أولًا ويسهل سيرها، ثم يتعامل مع الحالات الخارجة عن إطارها كلٌ حسب ظرفه وحالته. وما دام الناس ناقصين، فلن تكون الحياة المنظمة كاملة مهما بلغت من التنظيم. حتى الملتزم عليه أن يتحمل نتائج أخطاء غيره من المتأخرين، لأنه سيخطئ مرة وسيتحمل غيره عبء تأخيره دون شكوى.

أرفع رأسي عن كتف أمي، أعتدل في جلستي وأفكر: ولكنهم يقولون أن هذا الكون كامل، وأن كل شيء فيه يسير بدقة متناهية، وبنظام دقيق جدًا.. كيف نفسر هذه الفوضى إذًا؟

كنا نأخذ في مادة الكيمياء في المدرسة أنه عند حساب كمية محلول قبل التجربة، ومن ثم حسابها بعد التجربة واكتشاف حصول نقصان في كمية المادة المجربة، فهذا النقصان ليس آتيًا من فراغ، إنما لأن جزءًا من هذه المادة تبخر فتحول إلى مادة غير مرئية توزعت في الهواء حولنا، ولكنها لا تزال موجودة! نحن برؤيتنا المحدودة من يرى غيابها على شكل نقص.

إن كل ما يغيب عن أعيننا لا يعني أنه غير موجود، وكل نقص في اعتباراتنا ليس نقصًا بالضرورة، ومحدودية قدراتنا لا تعني أن العالم يقف عند حدودها، وعند الإشكاليات التي نعجز عن حلها وفهمها، وغياب الحكمة عن عقولنا لا يعني أن الحكمة منعدمة. هذ العالم العجيب مترابط بطريقة دائرية أو أكثر تعقيدًا، كل شيء فيه محسوب وموزون، كل نقص فيه يعني زيادة، وكل زيادة نقص، وإن اختلف نوع الزيادة عن نوع النقصان والعكس، وإن أدركنا أحدهما وعجزنا عن إدراك الآخر..
 فربما يكون النقصان محسوسًا والزيادة معنوية، ربما يكون النقصان دنيويًا والزيادة أخروية، وربما يكون النقصان عليك اليوم، والزيادة لآخر، ثم تكون الزيادة لك غدًا، والنقصان عليه..

 العدل في هذه الدنيا العجيبة لا تعرفه موازين البشر ولا حساباتهم ولا معادلاتهم، ولا تستوعبه عقولهم القاصرة. نحن لن نفهم أبدًا مقدار الكمال الذي يسير عليه الكون وتسير عليه الأقدار بعقولنا البشرية ما حيينا، كل ما نستطيع أن نفعله حتى نتعامل مع هذه الموازين بأفضل طريقة ممكنة، هو أن نؤمن.. أن نؤمن فقط بعدل مدبرها وعلمه وإحاطته بكل الزيادات والنقص والأزمنة والمستحقات، وأن نفهم بعدها أن الإنسان على ما يبدو عليه من نقص واستهتار وتغافل-، إلا أن تصرفاته تصبّ في هذه الأقدار الدقيقة، وأنه، في النهاية، جزء من هذا الكون الكامل.

كان يقول سلمان العودة: تخيل لو أنك تشاهد فيلمًا لمخرج تثق به.. كل حدث ستشاهده في بداية الفيلم ولا تفهمه أو لا يعجبك، لن تستبق الأحداث من بعده وتقفل الفيلم متضجرًا بسبب حدث وجدته مبالغًا فيه وغير مرضٍ، لأنك بثقتك بالمخرج، تعلم يقينًا أن حدثًا ما آتٍ سوف يقلب الموازين، ويعيد الأمور إلى مجراها المنطقيّ الذي يقبله عقلك ويرضاه قلبك، وأن ذاك الحدث الشاذّ الذي ما راق لك هو جزء من قصة متكاملة لما تنتهي بعد. ولله في تدبيره وشؤونه وتصرفاته المثل الأعلى.

تمتاز خلقة الإنسان بثنائيتها: الجسد والروح، وتمتاز حياته ببُعديها: المادي والمعنوي، ويمتاز المؤمن فينا بإيمانه بالعالم الغيبي كإيمانه بالعالم المحسوس والمشاهد أمام عينيه، وإيمانه بالتدبير من خلف عالمه المحسوس هذا،، كما يمتاز الإنسان بنسيانه وهفواته وتجلّياته وفرادته. الإنسان ليس آلة، وكل روح، كل تصرف، كل تفكير، كل ذاكرة، كل حياة تختلف عن أخراها.. لا يمكن لواحدة فيها أن تكون كالأخرى، كما لا يمكن لها أن تسير في خط مستقيم يُرسم لها ويفرض عليها، إلا أن خلاصة كل تلك الحيوات تشكل وجودًا متكاملًا وإضافة فريدة للكون كل يوم. كل فعل ظاهر، وكل فعل خفي.. كلها تكمّل بعضها. ونحن إن أردنا الكمال وفق ما نشاهد فقط، كمالًا ماديًا محسوسًا.. فنحن لا نريد لهذا الإنسان إلا أن يتصرف كآلة مثالية أولًا، ونحن بذلك، ثانيًا، نلغي ما يمتاز به الإنسان المؤمن من إيمان بما وراء المحسوس، وتسليم لهذا الرب المدبر.

لن تكون الحياة كما الحياة إن لم يخطئ صاحب الرقم السابق في ندائه الأول، ولن يكون النظام الصارم إنسانيًا إن لم يدع لعملائه مجالًا للخطأ والتصويب والنداء الثاني، ولن يكون الإنسان إنسانًا مؤمنًا بالغيب، موقنًا بالحكمة وراء الأقدار.. بكمال الكون رغم نقصانه الظاهر له، إن كان يظن أن كل ما لايروقه في هذا العالم مجرد عبث وفوضى مزعجة.

الثلاثاء، 16 يونيو 2015

بسم الله الرحمن الرحيم

حاولت أن أكتب مقدمات تليق كمقدمات، وفشلت..
كلما شرعت في كتابة مقدمة، وجدت نفسي أرص التبريرات المطوّلة للبدء في مشروع كتابة،، ثم أحجم عن إكمال ما أبدؤه عندما أرى تبريراتي غير قوية كفاية.

ولأنني مالم أبدأ الآن، فلن أبدأ أبدًا.. هذه المدونة تبدأ. الآن! هكذا دون مقدمة، أو دون مقدمة لائقة.

سأكتب كل ما يخطر لي على بال، دون قيود أو تفكير مسبق أو تنقيح أو.. ليكن ما أكتبه في هذه المدونة الشيء الوحيد الذي أفعله دون أن أفكر، أو أن يكون لي دافع حقيقي وراءه..
لأجرب هذه المرة أسلوبًا جديدًا، أكتشف فيه الدافع بعد أن أشرع في العمل،، أفهم فيه صنعتي عندما أفرغ منها، ليس قبل أن أبدأ فيها.

أريد أن أستعمل الكتابة كفنّ يدهشني، أن أصنع كل مرة بها تحفة لا تشبه سابقتها، ولا تشبهني بالضرورة.

أريد أن أعبر بها فضاءات شاسعة، وأدخل بها أماكن لا أجرؤ على الولوج فيها في عالمي الجادّ الخطير الضيّق الخانق هذا

أريد أن أكون بها حرّة كفاية، حرة جدًا. لا ألوم فيها نفسي أبدًا.. أن أكتب، ثم أحكم على المكتوب وكأنه ليس مني، وكأنه لا يخصني.
أريد أن أرى أفكاري مجسّدة، مرسومة، مكتوبة.

 أتصدقون؟ لم أجرب أن أرى فكرة لي مكتوبة على ورق/شاشة في غير مواقع التواصل الاجتماعي.. أريد أن أفعل ذلك هنا، في مساحة أرحب، تحت عيون أقلّ، بحرية أكبر.. بحرية تامة.

أريد بالكتابة أن أطير! هذا كل ما أريد.


أوه. أخيرًا سأبدأ.

فليشهد العالم أنني في آخر ليالي شعبان من عام ١٤٣٦هـ، يوم الثلاثاء.. أنا سأكتب كلامًا طويلًا مسترسلًا، أخيرًا، دون حساب أي حساب لأي أحد/فكرة/تخوّف من الزلل أو الخطأ أو التعرّي أو الظهور بمظهر ساذج أو.. فليذهب العالم إلى الجحيم، أنا أريد أن أطير!


أراكم في أحاديث طويلة جدًا! =)