الجمعة، 4 أغسطس 2017

عن الرّغبة في الشّتم، وشعري، وأشياء أخرى

أكتب عندما أكون ممتلئة.. ممتلئة بالمعنى، أو الفراغ، أو الأسئلة، أو الأفكار الّتي تكاد تجعلني أجنّ من فرط دورانها وتردّدها وتداعيها. الكتابة فيضان. عندما أكتب أفيض، أفيض بما يأبى أن يخرج على هيئة كلام. أنا أتكلّم كثيرًا، ولا ألجأ إلى هذا المكان إلّا عندما يحتبس الكلام الّذي لا يصلح للكلام، أو عندما لست أشعر بمزاج للكلام، أو عندما أودّ أن أتكلّم وما من أحد ينصت، فيستقرّ الكلام في رأسي حتّى يملّ، وأملّ، وأودّ لو أتخلّص منه حتّى أسمح لغيره بالدّخول. الكتابة تهوية، الكتابة كنْس، كنْس للكلام. الكلام فضلات.
 أنا عندما أكتب أستفرغ رأسي. الكتابة استفراغ. الكلام قيء. أنا أتقيّأ.

حصلت أشياء جيّدة كثيرة منذ آخر ما كتبتُ وحتّى اليوم، إلّا أنّني في مزاج سيئ، ولست أرغبُ بشيء الآن سوى تعلّم كلّ شتائم العالم، والصّراخ بها.

عندما يتدخّل أحدهم في شؤوني الخاصّة، وأنا ما أخبرته عمّا سأفعل إلّا احترامًا وتقديرًا لمكانته في قلبي وحياتي، وإجابةً لأسئلته الملحّة الّتي لا تنفكّ، فلستُ أتمنّى سوى أن.. أشتم شيئًا، ثمّ أقفل الباب في أوجه الكلّ، أيًّا كانوا، وأمارس الكذب، أو التّحفظ الزّائد، لأنّ الشّفافيّة الزّائدة هذه تجعل (أحدهم) يمتلك الجرأة لدرجة الصّراخ في وجهي لتغيير شيء ليس ذو قيمة في أمر يخصّني أنا، وأنا يا ربّي لا أحتمل التّطفّل، ولا أحتمل الصّراخ. فليذهب كلّ متطفّل إلى الجحيم، حتّى وإن كان دافعه الخوف، أو الحبّ. ارحمني يا ربّ! أتمنّى لو يعاملني العالم كامرأة كبيرة بالغة عاقلة عمرها ٢٠ سنة. أنا كبيرة كفاية، وأتحمّل مسؤوليّة أفعالي، أو أظنّ أنّني أفعل، المهم، ابتعدوا عن طريقي وإلّا.. شتمتكم.

أكره العبث، ولست أتجنّبه إلا لأنّني أكرهه، وأكرهه لأنّني لا أستطيع أن أقبض على المعنى فيه، ولا التنبّؤ بالّذي سوف يؤُول إليه. عندما تُرسل إليّ الرّسائل، وأصدّها، وأؤوّلها بكلّ ما لا يتناسب معها خشية أن أمضي في أمر عبثيّ، إلّا أنّها تنهال عليّ مرّة تلو مرّة حتّى يُتفَوّه بها صراحة، فتتوغّل فيّ دون إرادة منّي، تقتحمني دون مقدّمات، تمطرني، تحمّمني، حتّى يكون ليس من الأمر بدّ؛ فأتقبّل الأمر، وأعطيه فرصة، وأبتسم في وجهه، وأحسن الظّنّ،، ليختفي كلّ شيء، يرحل مع الرّيح، يتبخّر، يتلاشى، وأنا المخدوعة بفكرة الرّسائل ألعن حظّي وحيدة في الفراغ. هذا العالم لا يكفّ يدهشني. أريد أن أشتم أحدًا.

غبيّة أنا، لا أكفّ أتعجّل، لا أكفّ أكرر أخطائي، لا أكفّ أصطدم بذات الجدران، لا تكفّ رجلاي تنزلقان من ذات الأسباب، في ذات الطّرق، لا أكفّ أسقط في ذات الحفر. أكرّر أخطائي كبّبغاء.. ببّغاء أخطاء! هه. لا ألبث أطير حتّى أقع، لا ألبث أتكلّم حتّى أتفوّه بكلّ ما لم أودّ قوله، وعندما أصمت، أصمت عن كلّ ما ينبغي أن يُقال. صرت أخطئ الأهداف كلّها، أخطئ اختيار الكلمات، أخطئ التّعبير عن شعوري، وعندما أصيب مرّة، أتّخذ من إصابتي شعلة نفّاثة تجعلني أنطلق كصاروخ، أدفع بنفسي في كلّ الاتّجاهات كمجنونة، ألقي بها من النّافذة وأغنّي لكلّ آمالي "ومن الشّباك لرميلك حالي"وما إن أرتطم بالأرض حتّى يتهشّم كلّ مافيّ، فلا أملك حينها سوى أن أبكي وأندب حظّي وأنا أحاول أن ألملم شذرات الأمل المفتّتة لأنّني.. لأنّني لا أكفّ آمُل. الأمل فكرة مجنونة، الأمل هاوية تغطّيه ستارة توحي إليّ بأنّ كلّ شيء -إن مضيت خلالها- سيكون على ما يرام.. وأنا دائمًا مخدوعة بالأمل، مخدوعة بفكرة التّحليق والمشي على الهواء، والمشكلة أنّني لا أكفّ! لا أكفّ أوقن بأنّني سأطير يومًا.

أمضيتُ يومي وحيدة جدًا، صامتة جدًا، لأنّ رأسي كان صاخبًا. خرج الكلّ وتركوني، وآه.. ما أسعدني بيوم صافٍ هادئٍ في هذه الإجازة الصّاخبة. أمضيتُ يومي على مهل، لم أتعجّل فعل أيّ شيء. قرّرتُ اليوم، أخيرًا، أن أضع قناعًا لشعري، تلك العادة القديمة الّتي طلّقتها منذ شهور لكثرة الانشغال وقلّة إيماني بأهميّتها. أوليتُ اليوم تركيزي كلّه على شعري، لم أكن أستمع لشيء وأنا أضعه على غير العادّة. مرّرتُ القناع (الّذي هو عبارة عن مادّة كريميّة) عليه خصلة خصلة، وفككت عُقدَهُ بأصابعي -دون الاستعانة بأيّ مشط- عقدة عقدة، وأنا ما أتذكر متى كانت المرّة الأخيرة الّتي تحسّستُ فيها شعري من أقصاه إلى أدناه بهذا التروّي. تحسّستُ فروته، داخله وخارجه، وأطرافه، وكنتُ سعيدة بذلك. شعرتُ أنّني كنتُ بذلك أتحسّس نفسي الّتي بعثرتها، وقسوتُ عليها، وحمّلتها لومًا ما كانت تستحقّه في الأيّام الماضية. كنتُ أستعيدُ شعوري بذاتي وأنا أتحسّسه، وأحاول أن أفكّك العقد الّتي تسكن رأسي من داخله في ذات الوقت الّذي كنتُ أفكّك فيه عقده الخارجيّة. قبل ٤ سنوات، كانت تتحدّث أ. أريج الطّباع عن العلاج النّفسي/الرّوحي الّذي كانت تطبّقه على ضحايا الحروب والأزمات.. تعيد إليهم تقديرهم لذواتهم وإحساسهم بها عن طريق مساعدتهم في استشعار المعاني الكامنة خلف الطّقوس الّروحيّة والدّينيّة الّتي يقومون بها. هي تنتهج ذات النّهج الّذي يسلكه فيكتور فرانكل، والّذي يؤمن أن النّفس المعطوبة بحاجة إلى ما هو فوق العلاج النّفسي، شيء يعبّئ الرّوح ويجيب على أسئلتها، كالأديان، تتّصل بالغيب وتشبع توقها، أي الرّوح، إلى المعاني الخفيّة وكلّ ما هو علويّ. كانت إحدى ما تفعله أ. أريج هو العلاج بالوضوء. تقول: عندما تتوضّأ، أنت تتحسّس ذاتك وتستعيدها. تحسّس نفسك وأنت تتوضّأ، وتذكّر أنّها موجودة، وأنّها تستحقّ. تحسّس وجهك، ويديك، ومرفقيك، وأنفك، وفمك، وشعرك، وأذنيك، ورجليك.. اغسل أعضاءك من الضّوضاء، تخلّص منها. اغسل أذنيك من الأصوات، اغسل فمك من الصّراخ، اغسل يديك من الدّماء، من المشادّات الّتي خاضت فيها، اغسل عينيك من المشاهد الّتي لا تحبّ. تخلّص من كل ذلك، اعط نفسك فرصة أن تصير جديدة،  أن تكون حرّة، وامضِ. كنتُ وأنا أضع القناع على شعري أتحسّسه وذاتي.. كنت أعيد بناء علاقتي مع نفسي وأرمّمها بذات الطّريقة. كنتُ أدرك ثقل وجودي مع كلّ شعرة، وأشعر بخفّته مع سقوط كلّ شعرة. كان وضع القناع فعل استرخاء وتجسير.

أؤمن بأنّ كلّ التّرهات التّجميلية الّتي تقوم بها الفتيات تحمل معانٍ أكبر من ذلك بكثير، تعيد علاقتهنّ بأجسادهنّ، وتجعلهنّ يحببنها على ما هي عليها، يتحسّسن تفاصيلها ويتعلّقنَ بها أكثر، فلا يجرؤن من بعدها على تغييرها بما هو زائف.. حتّى المكياج المتّهم بالتّزييف يفعل ذلك. أحبّ فقرة وضع المكياج وأعدّها مقدّسة، رغم أنّني لا أضع إلّا القليل، القليل جدًا، إلّا أنّني به أتحسّس تفاصيل وجهي، أحفظها وأحبّها، وأجعلها تبدو أكثر وضوحًا. الجسد في نهاية المطاف هويّة، جزء من هويّة، عن طريقه نعبُر العالم، وعن طريقه نعبّر عن الباقي من أنفسنا، وبه نقابل من نحب، ونحتضن من نحبّ، ونحفظ به أصغر التّفاصيل في من نحبّ، في أجسادهم، وبه فقط.. نقضي أوقاتًا حقيقيّة معهم، بالتّواجد الجسدي ذاته، وإن كان مجرّدًا من الكلام؛ المهم أن يكون ممتلئًا بالرّوح.

أخيرًا، شاهدتُ فيلم غبيًّا جدًا جدًا جدًا، يا الله، كان غبيًّا جدًا! كلّ الأمور الجيّدة فيه تحصل عن طريق الصّدفة بطريقة غبيّة، جعلتني أشعر أنّ الأمل هو أغبى شيء يمكن أن أفعله في حياتي، رغم أنّني أظنّ أنّه أراد أن يوصل رسالة معاكسة تمامًا. أكره الغباء، وأكره الآمال الزّائفة. أكره الزّيف، والمشاعر الّلحظيّة، والكلام الّذي لا يُطابق قلب متحدّثه، وكلّ التّرهات! أحيانًا حتّى.. أكره أن يمتدحني أحد فوق ما أستحقّ، خصوصًا وأنا في حالة تشبه الّتي أمرّ بها الآن.. حزينة ومفتّتة. عندما أخطئ وأكرّر أخطائي، لست بحاجة سوى للحب، لا المديح ولا الثّناء. أريد حبًّا وصدقًا. أريد من يزمّلني ويدثّرني، كالسّيدة خديجة، ويخبرني أنّني فعلتُ أشياء جيّدة كثيرة في حياتي، أن يعيد ترميمي دون أن أشعر، أن يريني ذاتي، أن يذكّرني بها، أن يجمع جيّدها الّذي  لا أستطيع أن أرى مع سيّئها الّذي لا أرى سواه. حصل قريبًا وأن لجأتُ إلى أحدهم وأنا في أكثر لحظاتي تفتّتًا وهشاشة، وما كان إلّا أن وبّخني، وأعاد القصّة بكثير تكلّف وتركيز على جوانبها الّتي ساءتني ابتداءً. رغم أنّني لستُ من ذاك النّوع الّذي يعرف ذاته عن طريق آخرين، إلّا أنّني كنت أكثر ضعفًا من إعادة النّظر في المبالغات الّتي قال. بكيتُ كثيرًا.. كثيرًا، وتأذّيت، ولستُ أعرف متى سأستعيد ثقتي في الآخرين من جديد.

أتمنّى أن تكون أيّامكم أطيب من أيّامي. لا زلتُ أتفاءل بالغد.. غدًا يوم كبير، وسأقابل فيه أناسًا أحبّهم، وأظنّ أنّني سأحبّ الحياة من بعد غدٍ أكثر.

سامحوني.. أنا في مزاج سيئ جدًا، وما كان أحد بجانبي حتّى أصرخ في وجهه، وخفت أن أتلفّظ بما لا يليق في تويتر، فجئتُ هنا. تصبحون على خير، وسلام.