السبت، 19 نوفمبر 2016

في ختام الإجازة،


انتهت الإجازة تقريبًا. انتهت فعلًا.. الساعة الواحدة تماماً بعد منتصف الليل من آخر أيام الإجازة، الإجازة التي كنت أحتاجها بشدّة، وقمت باستغلالها بأفضل ما يكون كما تقول أمّي.

لست أعرف ما الذي أتى بي هنا، ولست أحمل أيّ فكرة أنوي الكتابة عنها.. كان من نصيب الاسترخاء ومحاولات الهدوء في هذه الإجازة القصيرة هو امتناعي عن التفريغ، فالكتابة بالطريقة التي أفعلها هنا منهكة جدًا بالنسبة لي، خصوصًا بالطريقة التي كتبت بها آخر ما كتبت. كنت أنقش الآلام التي حصلت، وأحاول أن أستخرج الوجه الأبيض من كل تلك الجراح التي ما برأت بعد. اقترفت جريمة. كان ذلك قاسيًا جدًا، ومنفّرًا كفاية من هذه المنطقة التي اعتدت أن أسرد فيها الأفكار التي تتسلّل طواعية، لا التقطيع والتنكيل بجراح قديمة في محاولات ظننتها تسارع بالتشافي.

كانت إجازة ممتازة تقريبًا، كلّ يوم فيها له قصّة سعيدة، ولكن بالرغم من ذلك، لست أشعر أنها جاءت بالطريقة التي أريد بالضبط. كنت أريد هدوءًا تامًّا وعزلةً تامّة، ولكن ما حصل هو أنني كنت في معظم الوقت محاطة بالكثير من الناس، أناس أحبهم، ولكنّ وجودهم -وإن كان منعشًا وحلوًا- جعل وقتي الخاص أقلّ، واضطرّني إلى افتعال ابتسامات كاذبة مرهقة وسماع كلام لم أختر الاستماع إليه، والكلام حينما لم أرغب بالكلام، والصمت حينما لم أرد الصمت. على كلٍّ، أنا شبه متعافية الآن من آلام الأشهر الماضية المرعبة الّتي أصنفها ضمن الأسوأ الّذي مرّ عليّ في حياتي. كانت أيّامًا شرّيرة بطريقة خفيّة، تفعل الأفاعيل ثم تظهر أمامي ببراءة بلهاء.. لم أستطع أن أشير على موضع الألم، كنت أتألّم وأنا لم أعرف أنّني أفعل حتى صارت الدموع تطفر من عيني، وردودي تستحيل انفعالات لم أعهدها من نفسي، والأصوات كلّها صارت تسبّب لي دوارًا، والكلام كلّه صار أشواكًا جارحة تؤذيني وتزيدني اضطرابًا. كنت تحت ضغط نفسيّ رهيب، من كلّ ناحية ممكنة، الأرض من تحتي، والأشواك من حولي، والسماء من فوقي.. السماء! الحمدلله أن الحياة أرحب من بعد واحد.

أقرأ الآن الرواية الثانية لإزابيل الليندي "دفتر مايا" بعد "ابنة الحظ" الرواية المفضلة عندي بلا منازع. هذه الأخيرة أسرت قلبي، وربما كانت لتفوز ما فازت به ابنة الحظّ منّي لولا أنها عنيفة بشكل مخيف أحيانًا. الأوصاف، كلّ الأوصاف فيها صادقة بطريقة فاتنة، والتفاصيل.. إيزابيل تجعل الأماكن والناس والنباتات والأشياء مجسّدة أمامي تجسيدًا، كلّ تفصيل أعيشه معها، أشمّه، وأتحسّسه. لم أستطع أن أهرب من قبل بفعل رواية كما أفعل مع ما تكتب إيزابيل، أوصافها البديعة التي لا تنتهي ولا تكلّ تأخذني صلب المشهد، صلب الأرواح والأمكنة، صلب البيوت، صلب الأزقّة، أشعر أنني في قلب العالم، عالم مايا، وأنني أمتصّ كل شيء داخلي. أشعر بزهوّ وأنا أتنقّل بخفّة الأرواح التي منحتني إيّاها هذه الرّواية.. أنا أنتقل بين عالمي وعالم مايا برشاقة الأرواح ذاتها، منذ الحرف الأوّل أنصهر داخل الكتاب، أذوب في تشيلوي، ثمّ أقفز قفزة رشيقة إلى بيركلي حسبما تريد لي إيزابيل، وأعود إلى عالمي بفعل نداء ماما الذي لا ينبغي أن يُردّ مهما تفُه الطّلب، أعود بعدها إلى تشيلوي، أنصهر مرة أخرى في ثوانٍ.. حيث أجد نفسي هناك، في قلب مايا، أقطن منزل العجوز المهترئ، أشرب حليب القرفة، وأتحسّس شعري الملوّن بألوان الطّيف، وألعب بفرو كافن، الكلب الظريف، بحريّة تامّة من الماضي، في حياة هادئة ذات إيقاع بطيء لا يوجد مثيله في العالم.

تقول ماما أنّ سياستي في التعامل مع الواقع خاطئة بينما كانت عيناها تحدّق صوب الكتاب الذي في يدي، وعندما استفهمت متعجّبة عمّا تقصد، أجابت: الهروب، أنتِ تتقنين الهروب! ابتسمت، ورغم أنّ ذلك لا ينبغي أن يجعلني سعيدة بأيّ شكل لأنّني أخذت شيئا يشبه العهد على نفسي بأن أكفّ عن الهروب كحلّ، إلّا أنني بحاجة إلى هذا المخرج الذي ما عدت أعرف كيف أنفذ من خلاله في الفترة الأخيرة، واستعدت ذلك الآن بفعل الرواية بمهارة بالغة، بخفّة عالية.. كتاب يتنقّل معي، لا يصدر أصواتًا، لا يلفت الأنظار..
الرّواية منفذي السّري، مهربي المؤقّت الذي أخاف أن ينتهي.. أنا أخاف ذلك فعلًا! من لي بقاصّة ماهرة تنسج أشياء تشبه التي تحدث في عقلي بمهارة حكواتيّ بارع في قصّة ممتعة ملوّنة تنضج بالصّدق والحبّ والحزن،، كالّتي تحكيها إيزابيل؟

لا أعرف بأيّ وجه ينبغي أن أعود لحياتي المتخمة بالمسؤوليات كما كانت قبل الإجازة، لست مستعدّة، خصوصًا لتلك الحمقاء الشمطاء الخرقاء البغيضة؛ الجامعة. يتجدّد كرهي لها ما دمتُ أتنفّس. أحبّ ذلك، أحبّ أنني أكرهها، لأنّها تستحقّ! أحبّ أنّني أعرف ذلك، وأقسم أنّني لن أنكره بعد اليوم. الجامعة بغيضة، الجامعة بغيضة، الجامعة كريهة، الحياة رحبة، والجامعة أضيق من حذاء بالٍ قديم، والوقت الذي أقضيه متكوّرة في ذاك الحذاء يؤذيني بشدّة، أتمنّى لو أنّ هنالك شيئًا غير مرور الوقت،، فتحةٌ ما، حبلٌ ما، فارسٌ ما- يأتي ليحرّرني منها لأهرب معه إلى أقصى ما أستطيع، ولا أعود. عليه أن يأتي بحصان رشيق، نركبه أنا وهو، وأقوم بقيادته أنا مستعملة الحركات الجديدة التي تعلّمتها في درسي الأوّل.. ذهبتُ وأنا ما كان ببالي أن أحبّ الفروسيّة، كان الأمر كلّه مدفوع بفضول ورغبة في تجربة الأشياء الأخرى المعدودة الممكن فعلها في هذه البقعة الخانقة من الأرض، وانتهى الأمر بالعشق وحده لذاك العالم الحلم. أريد أن أصبح فارسة، أن أسخّر حياتي بين تلك الحيوانات العجيبة، لولا أنّني أضعف مما ينبغي وأكثر جبنًا ممّا يليق بفارسة.. كان محرجًا كم خفت الاقتراب من الحصان، وكيف أنني ما استطعت قيادته من سياجه إلى الإسطبل بعدما ركبته ووضعت ثقلي كلّه على ظهره. يا ربّ حررني من فوبيا الحيوانات الّتي تحرمني نصف المتع على هذه الأرض. 

رغم كلّ الأشياء التي ستطلّ عليّ كصرارصير مقزّزة في غرفة عقلي الّتي ما كدت أنظّفها في هذه الإجازة الأقصر من ظفر نملة، إلّا أنني أشعر بفتور غريب، واستسلام مغلّفٍ باللّامبالاة. فلتفعل بي الحياة ما تفعل، لا شيء عندي لأخسره. فليمضي ما سيمضي كما يتبدّى له، لن أّهتمّ (أعلم أنني سأهتمّ، ولكن هذا ما أشعر به الآن.. على الأقلّ). قال بوبو (جدّ مايا) عندما رفض العلاج بالكيماوي وآثر العيش بهدوء في آخر أيّامه: "ما الذي نجنيه من الصّراع مع الموت، ما دام سيكسب عاجلًا أم آجلًا؟". قياسًا على ما قال بوبو، أقول: ما الذي أجنيه من الصّراع مع الحياة إن كانت ستأتي بالطّريقة ذاتها؟ إن كانت ستفرض سننها كلّ مرّة؟ إن كانت ستحمل الابتلاءات هونًا أو كرهًا؟ إن كانت ستتعسّر أو تلين حسبما هو مكتوب منذ الأزل؟
فلتفعل بي الحياة ما تفعل، أنا لست إلّا زورقًا مهترئًا متعبًا ومستعدًا للطّفو..

أريد أن أذهب إلى تشيلوي، حيث مايا، مايا التي أكبرها بشهرين.. أتوق إلى هرب شبيه، حيث الحياة أكثر هدوءًا والعلاقات أكثر تخفّفًا. في اللحظة التي أشعر بها باستسلام شبيه، يراودني حدس عجيب بأنّ ما كان يتقافز داخلي رغبة بالحصول سوف يأتي جاهزًا ومستسلمًا كهديّة مغلّفة، وكأنّه كان يتمنّع من باب (التغلّي)،، ينتظرني لأستسلم أنا فيستسلم هو، كعاشق أحمق لا يعرف المبادرة. أشعر أنّ غيمة ما ستأتي تظلّني، ثمّ تفلت حبالًا سماويّة فوقي تنتشلني دون مقدّمات، وتأخذني إلى حيث أريد لي أن أكون.. وكأنّ الحياة تريد أن تبطل أهزوجة: من جدّ وجدّ ومن زرع حصد بشكل تامٍّ في عقلي، تريدني أن أسائل كلّ شيء وأطرح كلّ شيء وأعيد صياغة الأشياء كلّها من جديد، لأنتهي بالإيمان الخالص وحده.


 يا ربّ إيمانًا خالصًا نقيًا يحملني كبساط ريح ويظلّلني كغيمة، ويأخذني إلى سماواتك الرحبة.

تصبحون على إيمان، تصبحون على طفو


الخميس، 3 نوفمبر 2016

الجزء ١: الكلمة والميزان الخفيّ

(مرّ شهر على كتابة هذا الكلام، وأنا الآن أقرؤه وأشعر أنني لم أكتب شيئًا مفيدًا يستحقّ الذكر، كنت أُعبّر فقط، وأستعجل استخراج الدروس. الكلام عن الكلمة ينبغي أن لا يتوقف عند هذا الحدّ، أعني.. الأمر ليس بسيطًا بالشكل الذي قمت باستعراضه)

من أمام البحر الممتدّ حتّى الأفق، على الشّاطئ  الحبيب الّذي طال غيابي عنه، وبدلًا من أشرع في قراءة "زيارة المدق" لنجيب محفوظ الملقاة أمامي -والتي يبدو شكلها مغريًا جدًا بالمناسبة- كما اعتدت أن أفعل في كلّ زيارة لذات البحر في ليالي الجمعة الشبيهة بهذه اللّيلة، حيث تقوم العادة على إنهاء رواية كاملة في يوم الخميس، في جلسة متواصلة في ذات البقعة، على أنوار الأبنية البعيدة الخافتة..

فضّلت هذه المرّة أن أفرّغ شيئًا مما يتكدّس داخلي ولم تسمح لي حياتي الصّاخبة في الفترة الماضية أن أجلس مرّة واحدة لساعة هادئة واحدة حتّى أكتب شيئًا. تراكم الكلام داخلي حتّى صار يزلّ من لساني وأنا لا أعي ذلك.. حتّى صرت أغفل عن أشياء وأنا ما كان ينبغي أن أغفل عنها، لأنّه ما تسنّت لي الفرصة أن أرتّبها أمامي على شكل كلمات تجعل الأمور تبدو على ما هي عليه، وتثبت على ذات الشكل، بطريقتي أنا، دون أن أدع مجالًا لأحد غيري أن يفسّرها بطريقته هو، ويجعلني لفترة طويلة أظنّ أن الأمور كما بدت بعينيه هو، وهي ليست كذلك، أو لا ينبغي أن تكون كذلك.

هذه حياتي أنا، أنا من ينبغي أن يصوغ الأمور ويعطيها شكلها النّهائي في الذّاكرة.

...

كان أسبوعًا عصيبًا، كانت فترة صعبة، بكل ما يمكن للصعوبة أن تكون. كنت مشرّدة، وحيدة، غريبة وخائفة، كنت وحدي تمامًا، وذلك ما جعل الأمر صعبًا إلى هذا الحدّ. ذقت الآلام بأنواعها، الحسّي منها والجسدي، كنت لا أكاد أقف حتّى يأتي ألم آخر يفتك بي، يختبر قوّتي، يتحسس ما علّمتني إيّاه الحياة وما لم تعلّمنيه بعد، ما أعرف التعامل معه وما لا أعرف، ما أفقه الحكمة من ورائه وما لا أفقه، ما يمكنني تفسيره وما لا يمكنني.. شعرت لوهلة أنّ الحياة لفظتني وما عاد شيء فيها يعترف بوجودي، وكأنني ما كنت، وكأنّه ما كانت تربطني بها علاقة من أيّ نوع، وكأنّ كل ما تريده هو أن تستمتع برؤيتي وأنا أتألّم. لفظتني فجأة، دون مقدّمات.. وكلّ التفسيرات التي أحاول استجلابها واختراعها تعود إلى تفسير واحد أخرق منبعه فوبيا الأعمار: أنني صرت عشرين، وأن الحياة تتعامل مع من يصير عمره عشرين أو يزيد بقسوة تليق بالبالغين، دون مراعاة، دون مقدّمات، دون إنذارات. لولا الحبال، تلك الحبال التي أيقنت يومًا أنها موجودة، لما.. عبرت. كانت اختبارات صعبة. هذه الحياة لا تمزح أبدًا! كلّ يوم أدرك فيها جديّة وجودي، جديّة البلاء الممكن أن يصيبني، وأهميّة الاستعداد لمفاجآتها بإيجاد المزيد من الحبال الممتدّة إلى فوق، حبال النّجدة والأنس. دونها لكنت غريقة، أو مجنونة، أو يائسة.

تحسست شيئًا من آلام الأنبياء عندما ذقت مرارة أن يكون الكلّ ضدّي، وأعني بالكلّ، أي الكل، كلّ الناس، من كلّ الجهات، في كل الأماكن، في مختلف مواطن الحياة، من تربطني بهم مختلف الروابط.. ولا أستطيع تفسير ذلك إلّا أنّه كان ابتلاءً. لم أكن مخطئة، لا، أنا لم أفعل شيئًا يحيد عن المقبول بشكل صريح يبرر كل ذاك العداء، كنت بشرًا، فعلت ما يفعله البشر العاديّون، تفوهت بما أتفوه به كل يوم، مع كل الناس، كل مرة.. كدت أجنّ. راجعت نفسي مرارًا وتكرارًا، لماذا أنا يا ربّ، ما هو الذنب العظيم الذي اقترفته حتّى يعاديني الكلّ مرّة واحدة، بهذا الشكل العنيف، عداء يتلو العداء، كلمة مؤذية تتلو الكلمة، صراعًا يتلو الصراع.. الصداع يتضاعف، نومي القليل كاد أن ينعدم، وشهيتي الضئيلة استحالت إلى نصفها، أكره الجميع، أتحسس من وجود الجميع، لأن الكلّ أنانيّ لدرجة أنه يريد أن يستأثر بالراحة لنفسه ويستفرغ مشاكله النفسية على غيره دون مبالاة، دون مراعاة، بطريقة مجرّدة من الأخلاق. تبدأ الأولى بعداء وقح، تعيد فعلتها مرّات عدّة وتحرّض البقيّة، تتجه الأسهم كلها ضدّي، وأنا لا أكاد أحافظ على عقلي من جنون يكاد يصيبني لأنّ الكلّ، مرّة واحدة، قرر أن يعاديني في نفس اللحظة بنفس الطريقة. أخرج من تلك الغرفة وأنا أحاول أن أحافظ على ما تبقّى فيّ من صبر وعقل، أرتّل مع نفسي كلّ ما له أن يساعدني على أن ألملم شتاتها، أبتعد عنهم.. أنا لست مجنونة، أنا لم أفعل شيئًا خاطئًا، ما قلته لم يؤذِ أحدًا، ما بالهم إذًا؟ ولكنني لا أكاد أفعل حتّى يُوجَّهُ إليّ سهم من جهة ما توقّعتها، ورغم أنّه ما كان بقوة الأسهم الأوائل، إلّا أنّني كنت أضعف من أن أتحمل.. كان القشّة التي قصمت ظهر البعير. يفعل السهم فعلته فأسقط.. تنزل الدموع تترى بكلّ استسلام وصمت، أمشي في الممرّات بأنف محمرّ والكثير من السوائل المتساقطة والمناديل، أحاول أن أغطّي ما تبدّى لي تغطيته وأحمد الله أنني أرتدي نظّارة. أغسل وجهي، وأمضي، لأنّه في ذاك اليوم بالذّات كان ينبغي أن أعرض جزئي من الدرس أمام الملأ. يجب أن تتوقف هذه الدموع الآن. يا رب أنا بحاجة لأن تتوقف. أخرج، يتنبّه أحد إلى كل ذاك الاحمرار، وعندما يسألني وأنا لم أكد أحاول نسيان كم هي الحياة قذرة، تعاود تلك السوائل الساذجة انسيابها دون توقف. أعرض جزئي والسوائل تتدفق من تلكم الأعين التي لم تر شيئًا فـ(خبَّصَتْ) كما ينبغي للتخبيص أن يكون، ولا أبالي. أعود إلى ما أظنّه برّ أمان، و بدلًا من أن يجفّ الوجه تعود السوائل، لوجود أشكال أخرى من مسبّبات السّيلان.. وكأنّ وجهي صار يخصّها وحدها، وكأنّ خدّاي طريقان معبّدان. يا رب أسألك أن توقفها. الأمر صار فاضحًا، وأنا في هذه البلاد لا خصوصية لي. الروابط الاجتماعية تلزمني أن أرى الجميع وأن أفتعل ابتسامة أمامهم دون اعتبار أن شخصًا ما من الممكن أن يمرّ بظرف ما، ففضّل أن يقضي يومه بعيدًا عن الأعين، بعيدًا عنهم. هذا الخيار ترف لا أستحقّه في هذه البقعة الاجتماعيّة من الأرض حد الخنق والشنق. يا رب أوقفها. تتوقف ثم تعود، تحملني أختي البعيدة على إيقافها، وكلمة طيّبة من شخص طيّب. تتوقف أخيرًا. هف.. لم تكد. أهلًا بالجفاف! قلبي يستكين أخيرًا، الحمدلله.. 

في ذاك اليوم بالذّات، أفهمتني الحياة دون اختيار منّي لشقّ طريق الفهم ذاك، بتلك الطريقة بالذّات- أنّ الكلمة سلاح فتّاك، أو ضمادة سحرية. بغضّ النّظر عن السّبب الحقيقيّ لما حصل لي، كانت الشرارة التي شبّت بسببها النار، كلمة مؤذية، والضمادة التي ساعدتني على التعافي، كلمة طيّبة. ظننت نفسي أقوى، طننت أنني أدرك المعنى من وراء الكلام وأنني لست بحاجة إلى أن يأتي بصيغة معيّنة حتّى أغضب أو أتعافى. ظننت أنّ الأفعال والأقوال غير ذات قيمة حقيقيّة ما دامت النّوايا جيّدة، ولكنّني لم أكن أفهم. فهمت الآن، فهمت كلّ ما يمكن للدّرس أن يعلّمني. تعلّمت أولًا أن الحقيقة ليست مهمّة إن لم يكن القالب الذي تقدّم به جيّدًا كفاية.. وأنّه ينبغي مراعاة الآخر، ينبغي أن تتفرّس عينيه وحاله قبل أن تنطق بالكلمة الساذجة التي تريد أن تقول. إن لم يكن بحال جيّدة -والكثير منّا في كثير من الأحيان ليس بحال جيّدة- فوفّر الكلمة إلى حين أن يتحسّن الحال، بعد أن تعدّ لها قالبًا مناسبًا تقدّمها به، أو احتفظ بها لنفسك يا أحمق. لا تكن عبثيًا وغبيًا لا تعي ما يصدر منك من ألفاظ، كن واعيًا للحظة وتحسّس الأشخاص قبل أن تلقي بلفظك عليهم، فاللفظ الكريه والله، أثقل على القلب من حجر ثقيل خشن. تعلّمت ثانيًا أن المبادرة الطّيبة بكلمة طيّبة لها أن تغيّر المزاج كله، ولها بسحر بالغ أن تضمّد الجروح ويحصل بسببها كلّ التشافي، مهما كان الألم مزعجًا، مهما كان الجرح كبيرًا. الكلمة الطّيبة بلسم، قطعة من الجنّة، ريح طيّبة وعطر منعش فوّاح، لها أيدٍ تربّت على مواطن الألم، وتحتضن القلب، تحمل الحمل عنه، تنظّفه من أدران الحياة، وتعيده سليمًا نظيفًا، تهدهده حتّي ينام وتغطّيه بكل حنوّ. الكلمة الطّيبة لا تترك صاحبها حتّى يتعافى، وكلّ ما على صاحبها أن يكون طيّبًا كفاية حتّى يتلفّظ بها،، ويمضي. 

بعد كلّ مرّة يحصل فيها لي شيء شبيه، لا أستطيع أن لا أؤمن بأنّ هناك ميزان سريّ يعيد توازن الأشياء في هذه الحياة.. إن سُلب منك شيء يعيده إليك بصيغة أخرى. لا أستطيع أن لا أؤمن بأنّ الله لا يترك أحدًا ينزف دون أن يرسل له آخر يقوم بتضميده،، وكما أن النزيف له أشكال عدّة، فالضمادات كذلك لها أشكال عدّة، وإن خسرت بشكل ربّما تكسب بآخر، المهمّ أن هنالك تعويض ما. 
لا أستطيع أن لا أؤمن أنّ كل ما عليك لترى كيف يعمل هذا الميزان الخفيّ أن تفتح عينيك إلى الرسائل التي تحفك ولا تتغافل عنها كما لو كنت لست كائنًا ذي بعدين له القدرة على رؤية ما وراء الألم الحسّي والتعوضيات الحسّيّة. الجهل وحده، أو الكبر، هو ما يجعلك تظنّ أنك تنزف دونما ضمادة أو معنى أو فكرة أو شعور يساعدك على التشافي. أنت حينما تجهل ذلك أو تتكبر عن الاعتراف به، تغمض عينيك عن حقيقة وجود تدبير خفيّ في هذه الحياة، وتصرّ على عبثيّتها. صدّقني.. أنت الوحيد الخسران من هذا التعامي، أنت المحروم الوحيد، الأعمى الوحيد، ترفض الفهم الكامل وتحصر نفسك في زاوية ضيّقة لا يمكن لها أن تفسّر ما يمرّ عليك، فتتركك مجنونًا، أو يائسًا ينتظر الموت، أو يعيش بعبث لا يليق بالأصوات الداخلية التي تحثّه على فعل أشياء ذات قيمة. لو كان للإيمان فائدة واحدة، لكانت تفسير العجائب التي تحصل، أؤمن بأن الشعور بالعبث هو أسوأ ما يمكن أن يحصل لبشريّ. الإيمان يعطيك منظارًا يحترم عظمة الكون وعظمة خلقك، والأصوات الدّاخليّة، والبلاء الذي يصيبك، وحتّى الكرم المفاجئ الذي يأتيك لا تستحقّه،، فيتيح لك من خلاله تفسير الأمور والأقدار والأشياء بشكل.. مُرْضٍ.

كان هذا هو الفصل الأوّل من “الفترة العصيبة”، تتسيّده الكلمة بآثارها المؤذية والشّافية.. وميزان الحياة الخفيّ الذي لا أفتأ أكرر ذكره في كل موطن. وحتّى لا أستنزف طاقتي المحدودة في الكتابة، سأحاول أن أجزّئ التفريغ على دفعات. لا تزال هناك دفعات كثيرة تخصّ الفترة الماضية آآآآآمل أن لا أسحب على نفسي ولا أكتب عنها. المشكلة أن التفريغ مع هذه الأيدي إمّا أن يكون كاملًا أو لا يكون.. والكلام كثيييير والوقت ضيّق والجسد هزيل والطّاقة محدودة، فليساعدني الرّب! تصبحون على خير.


(عندما شرعت في إكمال كتابة الأجزاء المتبقيّة لم يجرِ الأمر كما ينبغي، فتوقّفت هنا. لا يوجد سوى الجزء ١ من السلسلة المزعومة)