السبت، 19 نوفمبر 2016

في ختام الإجازة،


انتهت الإجازة تقريبًا. انتهت فعلًا.. الساعة الواحدة تماماً بعد منتصف الليل من آخر أيام الإجازة، الإجازة التي كنت أحتاجها بشدّة، وقمت باستغلالها بأفضل ما يكون كما تقول أمّي.

لست أعرف ما الذي أتى بي هنا، ولست أحمل أيّ فكرة أنوي الكتابة عنها.. كان من نصيب الاسترخاء ومحاولات الهدوء في هذه الإجازة القصيرة هو امتناعي عن التفريغ، فالكتابة بالطريقة التي أفعلها هنا منهكة جدًا بالنسبة لي، خصوصًا بالطريقة التي كتبت بها آخر ما كتبت. كنت أنقش الآلام التي حصلت، وأحاول أن أستخرج الوجه الأبيض من كل تلك الجراح التي ما برأت بعد. اقترفت جريمة. كان ذلك قاسيًا جدًا، ومنفّرًا كفاية من هذه المنطقة التي اعتدت أن أسرد فيها الأفكار التي تتسلّل طواعية، لا التقطيع والتنكيل بجراح قديمة في محاولات ظننتها تسارع بالتشافي.

كانت إجازة ممتازة تقريبًا، كلّ يوم فيها له قصّة سعيدة، ولكن بالرغم من ذلك، لست أشعر أنها جاءت بالطريقة التي أريد بالضبط. كنت أريد هدوءًا تامًّا وعزلةً تامّة، ولكن ما حصل هو أنني كنت في معظم الوقت محاطة بالكثير من الناس، أناس أحبهم، ولكنّ وجودهم -وإن كان منعشًا وحلوًا- جعل وقتي الخاص أقلّ، واضطرّني إلى افتعال ابتسامات كاذبة مرهقة وسماع كلام لم أختر الاستماع إليه، والكلام حينما لم أرغب بالكلام، والصمت حينما لم أرد الصمت. على كلٍّ، أنا شبه متعافية الآن من آلام الأشهر الماضية المرعبة الّتي أصنفها ضمن الأسوأ الّذي مرّ عليّ في حياتي. كانت أيّامًا شرّيرة بطريقة خفيّة، تفعل الأفاعيل ثم تظهر أمامي ببراءة بلهاء.. لم أستطع أن أشير على موضع الألم، كنت أتألّم وأنا لم أعرف أنّني أفعل حتى صارت الدموع تطفر من عيني، وردودي تستحيل انفعالات لم أعهدها من نفسي، والأصوات كلّها صارت تسبّب لي دوارًا، والكلام كلّه صار أشواكًا جارحة تؤذيني وتزيدني اضطرابًا. كنت تحت ضغط نفسيّ رهيب، من كلّ ناحية ممكنة، الأرض من تحتي، والأشواك من حولي، والسماء من فوقي.. السماء! الحمدلله أن الحياة أرحب من بعد واحد.

أقرأ الآن الرواية الثانية لإزابيل الليندي "دفتر مايا" بعد "ابنة الحظ" الرواية المفضلة عندي بلا منازع. هذه الأخيرة أسرت قلبي، وربما كانت لتفوز ما فازت به ابنة الحظّ منّي لولا أنها عنيفة بشكل مخيف أحيانًا. الأوصاف، كلّ الأوصاف فيها صادقة بطريقة فاتنة، والتفاصيل.. إيزابيل تجعل الأماكن والناس والنباتات والأشياء مجسّدة أمامي تجسيدًا، كلّ تفصيل أعيشه معها، أشمّه، وأتحسّسه. لم أستطع أن أهرب من قبل بفعل رواية كما أفعل مع ما تكتب إيزابيل، أوصافها البديعة التي لا تنتهي ولا تكلّ تأخذني صلب المشهد، صلب الأرواح والأمكنة، صلب البيوت، صلب الأزقّة، أشعر أنني في قلب العالم، عالم مايا، وأنني أمتصّ كل شيء داخلي. أشعر بزهوّ وأنا أتنقّل بخفّة الأرواح التي منحتني إيّاها هذه الرّواية.. أنا أنتقل بين عالمي وعالم مايا برشاقة الأرواح ذاتها، منذ الحرف الأوّل أنصهر داخل الكتاب، أذوب في تشيلوي، ثمّ أقفز قفزة رشيقة إلى بيركلي حسبما تريد لي إيزابيل، وأعود إلى عالمي بفعل نداء ماما الذي لا ينبغي أن يُردّ مهما تفُه الطّلب، أعود بعدها إلى تشيلوي، أنصهر مرة أخرى في ثوانٍ.. حيث أجد نفسي هناك، في قلب مايا، أقطن منزل العجوز المهترئ، أشرب حليب القرفة، وأتحسّس شعري الملوّن بألوان الطّيف، وألعب بفرو كافن، الكلب الظريف، بحريّة تامّة من الماضي، في حياة هادئة ذات إيقاع بطيء لا يوجد مثيله في العالم.

تقول ماما أنّ سياستي في التعامل مع الواقع خاطئة بينما كانت عيناها تحدّق صوب الكتاب الذي في يدي، وعندما استفهمت متعجّبة عمّا تقصد، أجابت: الهروب، أنتِ تتقنين الهروب! ابتسمت، ورغم أنّ ذلك لا ينبغي أن يجعلني سعيدة بأيّ شكل لأنّني أخذت شيئا يشبه العهد على نفسي بأن أكفّ عن الهروب كحلّ، إلّا أنني بحاجة إلى هذا المخرج الذي ما عدت أعرف كيف أنفذ من خلاله في الفترة الأخيرة، واستعدت ذلك الآن بفعل الرواية بمهارة بالغة، بخفّة عالية.. كتاب يتنقّل معي، لا يصدر أصواتًا، لا يلفت الأنظار..
الرّواية منفذي السّري، مهربي المؤقّت الذي أخاف أن ينتهي.. أنا أخاف ذلك فعلًا! من لي بقاصّة ماهرة تنسج أشياء تشبه التي تحدث في عقلي بمهارة حكواتيّ بارع في قصّة ممتعة ملوّنة تنضج بالصّدق والحبّ والحزن،، كالّتي تحكيها إيزابيل؟

لا أعرف بأيّ وجه ينبغي أن أعود لحياتي المتخمة بالمسؤوليات كما كانت قبل الإجازة، لست مستعدّة، خصوصًا لتلك الحمقاء الشمطاء الخرقاء البغيضة؛ الجامعة. يتجدّد كرهي لها ما دمتُ أتنفّس. أحبّ ذلك، أحبّ أنني أكرهها، لأنّها تستحقّ! أحبّ أنّني أعرف ذلك، وأقسم أنّني لن أنكره بعد اليوم. الجامعة بغيضة، الجامعة بغيضة، الجامعة كريهة، الحياة رحبة، والجامعة أضيق من حذاء بالٍ قديم، والوقت الذي أقضيه متكوّرة في ذاك الحذاء يؤذيني بشدّة، أتمنّى لو أنّ هنالك شيئًا غير مرور الوقت،، فتحةٌ ما، حبلٌ ما، فارسٌ ما- يأتي ليحرّرني منها لأهرب معه إلى أقصى ما أستطيع، ولا أعود. عليه أن يأتي بحصان رشيق، نركبه أنا وهو، وأقوم بقيادته أنا مستعملة الحركات الجديدة التي تعلّمتها في درسي الأوّل.. ذهبتُ وأنا ما كان ببالي أن أحبّ الفروسيّة، كان الأمر كلّه مدفوع بفضول ورغبة في تجربة الأشياء الأخرى المعدودة الممكن فعلها في هذه البقعة الخانقة من الأرض، وانتهى الأمر بالعشق وحده لذاك العالم الحلم. أريد أن أصبح فارسة، أن أسخّر حياتي بين تلك الحيوانات العجيبة، لولا أنّني أضعف مما ينبغي وأكثر جبنًا ممّا يليق بفارسة.. كان محرجًا كم خفت الاقتراب من الحصان، وكيف أنني ما استطعت قيادته من سياجه إلى الإسطبل بعدما ركبته ووضعت ثقلي كلّه على ظهره. يا ربّ حررني من فوبيا الحيوانات الّتي تحرمني نصف المتع على هذه الأرض. 

رغم كلّ الأشياء التي ستطلّ عليّ كصرارصير مقزّزة في غرفة عقلي الّتي ما كدت أنظّفها في هذه الإجازة الأقصر من ظفر نملة، إلّا أنني أشعر بفتور غريب، واستسلام مغلّفٍ باللّامبالاة. فلتفعل بي الحياة ما تفعل، لا شيء عندي لأخسره. فليمضي ما سيمضي كما يتبدّى له، لن أّهتمّ (أعلم أنني سأهتمّ، ولكن هذا ما أشعر به الآن.. على الأقلّ). قال بوبو (جدّ مايا) عندما رفض العلاج بالكيماوي وآثر العيش بهدوء في آخر أيّامه: "ما الذي نجنيه من الصّراع مع الموت، ما دام سيكسب عاجلًا أم آجلًا؟". قياسًا على ما قال بوبو، أقول: ما الذي أجنيه من الصّراع مع الحياة إن كانت ستأتي بالطّريقة ذاتها؟ إن كانت ستفرض سننها كلّ مرّة؟ إن كانت ستحمل الابتلاءات هونًا أو كرهًا؟ إن كانت ستتعسّر أو تلين حسبما هو مكتوب منذ الأزل؟
فلتفعل بي الحياة ما تفعل، أنا لست إلّا زورقًا مهترئًا متعبًا ومستعدًا للطّفو..

أريد أن أذهب إلى تشيلوي، حيث مايا، مايا التي أكبرها بشهرين.. أتوق إلى هرب شبيه، حيث الحياة أكثر هدوءًا والعلاقات أكثر تخفّفًا. في اللحظة التي أشعر بها باستسلام شبيه، يراودني حدس عجيب بأنّ ما كان يتقافز داخلي رغبة بالحصول سوف يأتي جاهزًا ومستسلمًا كهديّة مغلّفة، وكأنّه كان يتمنّع من باب (التغلّي)،، ينتظرني لأستسلم أنا فيستسلم هو، كعاشق أحمق لا يعرف المبادرة. أشعر أنّ غيمة ما ستأتي تظلّني، ثمّ تفلت حبالًا سماويّة فوقي تنتشلني دون مقدّمات، وتأخذني إلى حيث أريد لي أن أكون.. وكأنّ الحياة تريد أن تبطل أهزوجة: من جدّ وجدّ ومن زرع حصد بشكل تامٍّ في عقلي، تريدني أن أسائل كلّ شيء وأطرح كلّ شيء وأعيد صياغة الأشياء كلّها من جديد، لأنتهي بالإيمان الخالص وحده.


 يا ربّ إيمانًا خالصًا نقيًا يحملني كبساط ريح ويظلّلني كغيمة، ويأخذني إلى سماواتك الرحبة.

تصبحون على إيمان، تصبحون على طفو


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق