السبت، 8 أكتوبر 2016

أختي..

أشعر أنّني ناقصة، أو أنّ شيئًا ما ينقصني.. حتّى إن قمت بكل واجباتي، وقابلت كلّ من أحبّ، أشعر أنّ هنالك ثمّة شيء مفقود. مهما فعلت، الأمور لا تكتمل، هذا الشّعور القويّ المتكرّر الّذي لا أظنّني أخطئه.. يلحّ عليّ كلّ مرّة، نهاية كلّ يوم. 

كنت في المطبخ صباح اليوم، أخرجتُ الصّاج الكبير لصنع وجبة بيض للعائلة، ونزلت عليّ الذّكرى كوحي، بكل المشاعر الّتي كانت تحفّني وقتها، وبكيت.. بكيتك يا أختي، وعرفت أين تكمن ضالّتي. 
في رمضان، قبل ثلاث سنوات، أخرجتِ الصّاج الكبير ذاته، ووضعتِه في كيس كبير. ذهبنا أنا وإيّاكِ محمّلتين بالأغراض الكثيرة التي يصحبها هذا الصّاج، ولأنّه كان يأبى أن يستقرّ في كيسه حملتهِ بيدك. وصلنا، وضحك الكلّ من المنظر. بحماسك المعهود، وحبّك الصّادق للعطاء، وإصرارك الحازم على قلْي السّمبوسة هناك، سمبوسة ماما الّتي لا نحبّ أنا وإيّاكِ غيرها- في تلك الشّقة المتواضعة الضيّقة الّتي لا تتحمل رائحة القلْي، حملتِ هذا الصّاج، مع الكثير من السمبوسات "المفرزنات" خلال طريق مكّة-جدّة الحارّ في باص مزدحم بأناس نحبّهم ويحبّوننا. أتذكّر كم قضينا من الوقت في إعداد ما يفوق ٦٠ سمبوسة حتّى يأكل الجميع منها خلال يومي المخيّم. عندما كنّا هناك، حصل خلاف حول إمكانيّة القلْي من عدمه، أصرّ البعض على عدم القلْي حتّى لا تنتشر الرّائحة في أرجاء الشقّة، ولكنّنا قمنا بالقلْي رغم كلّ شيء، في اليوميْن، وتدبّرنا أمر الرّائحة.. وأكل الجميع، وامتدحَنا الجميع، وأشار الكلّ على طبقنا أنّه الطّبق الفائز بلا منازع.. وكنتِ سعيدة جدًا. 

أختي يا ذات الرّوح الحلوة، أنتِ من أفتقد، لا شيء سواكِ أنتِ. كلّما أدخل المطبخ، أتذكّر أيامنا الحلوة جدًا، الحميميّة جدًا، وأحاديثنا الّتي لا تتوقّف هناك بالذّات.. كانت فقرة صنع الفطور -عندما كانت ماما تصرّ على أن نقوم بإعداد الفطور نحن الاثنتين صباح السّبت بمعزل عن يد العاملة- ممتعة دائمًا، وفقرة مطبخ ما بعد منتصف اللّيل.. تهمسين في سريريك: نمت؟ أجيب بلا، ونذهب هناك لصنع وجبة، أيّ وجبة، مادمنا سندخل المطبخ. نقوم عادة بصنع حليب شوكولاتة، أو نعدّ حليبًا أبيض حارًّا مع كورن فليكس، وفراولة مقطّعة. نعدّ ونتكلّم، نأكل ونتكلّم، نفرغ من الأكل ونتكلّم، وكأنّنا خلقنا للكلام، وكأنّ الكلام خلق لنا. نتكلّم عن كلّ شيء، في كلّ شيء، لا نستطيع أن نكفّ.. مهما كان يومي سيّئًا، مهما كنت أواجه من صعوبات وأحمل من أعباء، كلّ ذلك كان لا يهمّ لأنّكِ كنتِ دائمًا.. هناك، للكلام والبوح والضّحك. أقسم أنّني كنت أخرج من مزاجي السيّئ بمجرّد أن نباشر الكلام، أو التّلوين، أو الغناء، أو صنع الطّعام، أو الاستعداد لحفلٍ زفاف ما، أو ترتيب الغرفة،، أو خرجة سريعة للسّوق، أو البنك، أو المكتبة، أو محلّ زهور، أو منزل صديقة.. المشكلة أنكِ تشاركينني كلّ شيء، ولكن ليس بعد أن ذهبتِ. تركتِني أذوب في عالمي دونكِ ولا أفهم كيف صار العالم موحشًا فجأة، ثقيلًا، غليظًا، وأبكمًا! منذ رحيلك صار العالم أبكم منزوع الصّدى، كلّ شيء صار يحصل داخل رأسي، كلّ الأشياء التي كانت تقبل القسمة على اثنتين صارت لا تفعل، صرت أحملها وحدي، وأنا مجرّد.. نصف. أنا نصف إنسان دونك، وحيدة أنا، حزينة وغريبة.

في خروجي الأوّل للسّوق وحيدة دونك الأسبوع الماضي، تذكّرت خرجات السّوق السّعيدة معك. كنت أحمل لابتوبّي، ونقضي الطّريق نتفرّج إحدى حلقات مسلسلنا المفضّل.. نصل إلى السّوق، نتسوّق كما يحلو لنا، دون إزعاج، دون تدخّل أحد، ونقضي الكثير من الوقت نعلّق على الأشياء والأشخاص، ندندن أغاني نحبّها، ونختم بأن نشتري هديّة لشخص نحبّه.. ماما مثلًا..  نذهب بعدها للبحر، نتسكّع قرب مسجد العناني الذي كان يخصّ أحد مشاريعك في الجامعة، ونأكل الآيس كريم، وندعو السّائق لأن يستمتع بوقته هو الآخر. نمرّ على أحد المطاعم في طريق العودة حتّى نعود بشيء لماما والعائلة، ثمّ نعود.

اجتمعت العائلة اليوم لأوّل مرّة بعد رحيلك، وكان الأمر مقشعرًا. كنت دائمًا هناك، ما عدتِ..

قبل أيّام، خرجنا، أنا وهي، نمشي حول المنزل في اللّيل بعد أن فرغنا من الاجتماع. وصلنا عند إحدى بقع المراجيح، تلقّفت كلّ واحدة فينا "مرجيحة" وشرعنا في الحديث والتّأرجح. تحدّثنا عن أختينا اللّتين نفتقدهما، وكنّا نكتم العبرة، ونتصنّع القوّة.
أخبرتني أنّه من العناية  بالصحّة النّفسيّة أن لا أدع أمر رحيلك مكتوم في صدري، لم أوافقها، وكتمت العبرة. عندما هممنا بالرّحيل، شرعت بالبكاء لا إراديًّا، لم أستطع أن أتحمّل أكثر. تكلّمت عنك أكثر ممّا أطيق، لأوّل مرّة كنت قد فاتحت نفسي بالأمر، وسمحت لشخص ما أن يتحدّث عنه معي. توقّفنا وجلسنا في الكرسيّ المقابل، وبكينا أختينا الرّاحلتين، ثمّ ضحكنا على ما فعلنا، وتعهّدتُها ونفسي بعدها أن لا أعود أتعامل مع الأمر بذات الطّريقة الخانقة.. أن أدع الحزن يتدفّق، أن أبوح أكثر، أن أتفهّم رحيلك أكثر، أن أدع الحياة تمضي دون عراك معها، أن أتقبّل فكرة مرور الزّمان، أن أعي أنّ الفقد يلازم المضيّ، وأنّ مقابل الفقد كسب، وأنّه بالوعي وحده سوف أتجاوز الأمر كلّه.

عملًا بذاك الوعد، بكيتك اليوم مرّتين، مرّة عندما أخرجت الصّاج من دولابه، ومرّة حين كلّمتك، وأشعر أنّني ما عدت أخاف فتح هذا الملفّ كما كنت أفعل.. أخافه نعم، أكرهه نعم، ولكن لا بدّ ممّا ليس منه بدّ. لا أريد لهذا الفقد أن يفعل بي ما فعل غيره، لا أريد أن تكون عندي ردّة فعل عنيفة في المستقبل تجاهك بسبب تعاملي القاسي مع الأمر.. يجب أن أسمح للأمور أن تتدفّق.

رغم أنّ الحياة تمضي يا أختي، رغم أنّني في طريقي للتّشافي من فقدك الّذي أرعبني كثيرًا، وهزّني كثيرًا، إلّا أنّ مكانك في القلب واحد، واحد لا يتغيّر. أكبر الأماكن هو، أكبر الغرف، أكثرها سعة وانشراحًا، أملؤها حبًا. لا زلتُ لا أعرف لمن أبوح بما لا أبوح به لسواك ولا يسع الزّمان أن أشاركك ما تعوّدت على مشاركتك إيّاه، بكامل تفاصيله.. لا زلت لا أعرف من له أن يهدهد مخاوفي الصّغيرة دونك، من يشاركني أفكاري وهي طازجة. أحيانًا أفكّر: ربّما حان الوقت أن أكبر، ربّما حان الوقت أن أواجه الحياة وحيدة، أن أتلقّى الضّربات وحيدة، أن أفرح وحيدة.. وأقول بإيجابيّة بلهاء لا يصدّقها قلبي: أنا أستعدّ لأمر ما عظيم لا يقبل أن تتحمّل فيه أختي شيئًا من الأمر، اعتدتُ أن تحملي عنّي كلّ شيء وحان الوقت حتّى أستعدّ للمرحلة المقبلة الصّعبة حيث سأكون وحدي في الحلْبة. أنا أكبر، وكلما كبرنا، تقسو الحياة على أصحابها وتلقي عليهم الأثقال منفردين، وأنا أستعدّ لثقل ما لن يتحمّله أحد سواي.. لن يقدر أحد على تحمّله سواي مهما كان قريبًا ومستعدًا لأن يفعل. كم واستني فكرة "الاستعداد" هذه. عندما أفكّر بقدر صعب على أنّه يعدّني لمواجهة قدر ما عظيم، ينشرح صدري وتهدأ نفسي، وأشعر أنّني أمضي في طريق صحيح مهما بدا قاسيًا.

ولكن.. ما إن أباشر الحياة مرة أخرى، لا أتمنّى سوى أن تعودي بجانبي. 

آه يا.. أختي.