الجمعة، 30 سبتمبر 2016

تفريغ، وكلام فارغ، واستفراغ

أسبوعاي الماضيين كانا حافلين بالكلام والغضب والتوتّر، والحماس، والفرج بعد الشدّة، وبعض اللّحظات الحلوة. أودّ لو أنّني أستطيع أن أتكلّم عمّا حصل لي بتفصيل وحريّة، ولكنّني لا أستطيع، وللمرّة الأولى أشعر بتهديد حقيقيّ حيال ما أريد أن أقصّه أنا عن شيء يخصّني أنا. يومًا بعد يوم، أدرك كمّ الحبال الّذي يحيط رقبتي في هذه البقعة من الكون، وأرى بوضوح أكبر حبل المشنقة الذي يحيط بالعالم، وأختنق أكثر. أريد أن أعيش بلا سلطة، أريد أن أسكن منطقة حياد، وإن كان الخروج من الكوكب يستلزم ذلك فلا مانع، المهم أن أعيش كما يجب.

لأنّ ما حصل لي في الأسبوعين الماضيين كان قهرًا، ولأنّ عدم قدرتي عن الكلام عنه قهر آخر، كان الأمر.. صعبًا. كنت مقهورة، ولكنّني انتصرت في نهاية المطاف، وكنتُ.. راضية عمّا فعلت مهما بلغت خطورته. رغم أنّني كرهت ما حصل من كلّ قلبي، رغم البكاء، والخوف، والظّلم الفادح، أدّى بي الأمر إلى مراجعة أمور مهمّة، ومناقشتها مع أناس أحبّهم ما كنت لأتحدّث معهم وألجأ إلى مشورتهم إن لم يحصل ما حصل. حصل كذلك وأن رأيت النّار التي في قلبي تتّقد رغم كلِّ ما/من كان يحاول إطفاءها من حولي، وعرفت كيف لتلك النّار أن تتعرّف على ما يشبهها في دواخل الآخرين مثلي، وكيف لها أن تجمع بيننا، وتجعل الأمر لذيذًا رغم الخوف.. كانت كلّ الحواجز تنتفي، وكلّ المقدمات.. كان عندنا هدف. جمعنا الخوف والقهر، واتحدّنا فصرنا نارًا واحدة كبيرة فعلت ما فعلت. انتصرنا أكثر من مرّة. أحبّ ما حصل. أحبّ دوري فيه. وأكره أنّني طوردت وتمّ ابتزازي وتهديدي لأنّني لم أصمت، كما يريدون، عندما وجدت حقّي مسلوبًا وتكلّمت حيال ذلك بوسائل مشروعة ولبقة.

حصل كذلك وأن حصلت تغييرات مفاجئة في جدولي، رغم التخطيط الدقيق الذي أتعبني كثيرًا في الفصل الفائت حتى أصمّم جدولي بطريقة تناسبني.. فعلت المستحيل حتى أنتهي قبل الظهر، فيتسنّى لي الذهاب للعمل بعدها. تغيّرت المواعيد في الإجازة أولًا، ثمّ تغيّر موعد آخر يخصّ مادّة أخرى خلال هذا الأسبوع، وتغيّر موعد ثالث، وأخيرًا، تم طردي من أحد المواد قبل يومين لأنّ على المادّة طلب كبير، ومن يكبرني بفصل أو فصلين أو ثلاثة.. إلخ، قُرّر أنهم أحقّ بالمادّة منّي، رغم أنّني حجزت فيها مقعدًا منذ الفصل الفائت، وكانت متوفّرة للجميع. أخطؤوا بحقّي، ولم يسمحوا لي حتّى بأن أصلح أخطاءهم. كنت أقترح الحلول، وأحاول ألّا ألوم أحدًا، ولم يتجاوب أحد. عشت.. صنوف الذلّ. 
ما أغاظني أكثر وأكثر، هو أنّ أصحاب السّلطة والقدرة على تغيير الأمور كلّها يعرفونني جيّدًا، يعرفون ظروفي جيّدًا، ويحترمونني كثيرًا، ولي معهم ماضٍ ممتاز، وأخطؤوا بحقّي عندما غيّروا ما غيّروا، ورغم كلّ شيء، لم يفعلوا أيّ شيء حيال ذلك،، يقولون أن الأمر خارج عن أيديهم رغم أنّهم هم الأيادي المدبّرة المتحكّمة بالموضوع برمّته. كم هو غبيّ هذا الإنسان الذي يشرّع القوانين ثمّ يقدّسها، ويخبر الآخرين أنّه لا يستطيع تغيير شيء فيها، وأن الموضوع خارج عن إرادته، رغم أنّه هو ذاته من فرضها أصلًا. كم هو غبيّ وأعمى. 
هذه الإنسانة صاحبة الأمر كلّه أمرها عجيب، في كلّ مرّة أراها تثار عندي الكثير من الأسئلة. هي من النّوع الذّي يميّز الصّواب من الخطأ، ويتضامن معك إن كنت محقًا، ولكنّها لا تعترف بالخطأ صراحة، ولا تقوى على تغييره وإن كان الأمر بيدها. تلجأ إلى الاعتذار وإقناعك بأنّ الأمر خارج عن سلطتها، وهو ليس كذلك، ولها أن تغيّر الأمور كلّها بكلمة منها.. أجزم أنّها تعيش صراعًا فظيعًا. هي ذاتها من تشرح بسرعة جنونيّة لأنّها تظنّنا نكره حصّتها، ولا تعطينا فرصة أن نحبّها حتّى،، هي ذاتها من تعاملنا كالأطفال فيما يتعلق بوضوح أسئلة الاختبار، والمشاركة في الحصّة.. تتوقع الأقلّ، ولا تريد أن تعطينا فرصة أن نريها أنّ عندنا أكثر من ذلك، ورغم كلّ الغرابة في التّفاهة التي تتعامل بها معنا، اختباراتها طويلة جدًا، بشكل جنونيّ، و.. تتعامل بصرامة مبالغ فيها مع الكثير من الأمور البسيطة التي لا يتعامل غيرها معها بذات الطريقة. 

انتهى أمر الجداول بطريقة مرضية في اللّحظة الأخيرة، وعدت الله أن أتشبّث بالإيمان ما استطعت، ووعدته أن أثق أنّ الأمر كلّه بيده رغم أنّ أولئك البشريّون الحمقى يمسكون زمامه حسبما يتبيّن للنّاظر، ثمّ حصل أن كانت النتيجة مرضية جدًا. كنت أتوقّع أنّ الفرج سيكون بأن يفتح الـsection المقفل، كنت أنتظره وأحدّث الصفحة كلّ نصف ثانية، ولكنّه حصل بطريقة مختلفة تمامًا. انتبهت في اللحظة الأخيرة إلى خلل يمكن إصلاحه، بالفصول المتاحة، وأصلحت ما ينبغي، وصار كلّ شيء مرضيًا ومفصّلًا على ما أريد. لم أتوقّع أبدًا أن يتشكّل الفرج على هيئة وحي أو انتباه يدلّني على طريق جديد، بدلًا من حلّ للمشكلة التي لم أكن أرى سواها.
-----
صرت عشرين، ورغم أنّ العالم لم ينقلب رأسًا على عقب، والزمان يمشي بذات الرّتم، إلّا أن الأمر ثقيل على قلبي. كلّما تذكّرت أنني (عشرين سنة) دون رجعة، دون القدرة على اللّجوء إلى تاريخ مختلف يجعلني أصغر من تاريخ ميلادي بالأشهر الميلاديّة، أشعر بـ.. شعور مختلف. مزيج من خوف و،، غربة؟ لا أعلم. هذا العمر الكبير غريب على طفلة مثلي. خائفة أنا، أحتاج المزيد من الوقت حتى أصير متّسقة مع هذا العمر المسؤوليّة. لا زلت أجهل الكثير، لا زلت لا أفهم، لا زلت.. غير مستقرّة، لا زال كلّ شيء ضبابيًّا، لا زلت لا أجرؤ على فعل الـ.. كثير. لا زلت أقلّ من عشرين.
-----
صرت لا أطيق من لا يريد أن يغيّر شيئًا غبيًّا فيه رغم علمه بسذاجة ما يفعل، ثمّ يفخر ببلادته! وكأنّها محطّ استعراض، وكأنّ الحياة سترحّب به كما هو، وتفسح له أن يعبر تعقيداتها رغم السذاجات الّتي يتشبّث بها ويفخر. 
-----
أنا "مطيورة" أكثر ممّا ينبغي وعلى ذلك أن يتوقّف. ذُكرت هذه الكلمة على لسان رضوى عاشور في سيرتها الذّاتية، وهي تعني بذلك أنّها "تنسى أغراضها" و"تتكعبل"، ووجدت الوصف من بعدها يصفني بدقّة. لا يمرّ يوم دون أن أصطدم بكلّ شيء مئة مرّة، حتّى مرفقي المصاب.. المسكين، يصطدم كلّ يوم في مكان الإصابة أكثر من مرّة. هذا الجنون لا يعقل! كيف لي أن أصبح امرأة دبلوماسيّة مع هذا "الطّيران" غير المسؤول؟ هف! بالأمس، خرجت ونسيت كيسًا مهمًا في المنزل، عدت وأخذته، ثم خرجت من السّيارة إلى الجامعة ونسيت جوّالي في السّيارة، كلّمت بابا الذي كان بصحبة السّائق في السّيارة وهما متّجهين إلى مشوار مهمّ لا ينتظر بعد أن أوصلاني إلى الجامعة، فعادا من أجلي واستعدته. وضعت الكيس في اللّوكر، وعدت إلى المنزل ومفتاح اللّوكر ضائع، نسيت تمامًا أين وضعته.. هذا لا شيء يذكر أمام المرّات التي كنت أنسى فيها حقيبة المدرسة في المدرسة وأعود للبيت، وحقيبة المدرسة في البيت وأذهب للمدرسة. نسيت مرّة حقيبة المدرسة في المدرسة وكان عندي اختبار مهمّ أذاكر لأجله، ولا أكتشف ذلك إلّا يوم السبت مساءً، وكنت قد تركت الحقيبة في المدرسة طوال الويكند.. كان يحصل كذلك أن كنت أنسى حقيبة المدرسة في المنزل وأذهب إلى المدرسة دونها. كان يومها ينبغي عليّ أن أسلّم واجبًا مهمًا لمعلّمة صارمة جدًا، إلّا أنني دخلت الحصّة، وشرعت في البحث عن الحقيبة، ثمّ تذكرت أننّي نسيتها، فضحكت المعلّمة على هذه الفكاهة العجيبة ولم تطالبني بالتّسليم. كلّ ذلك فضلًا عن قصص التّعكبل العجيبة التي يطول الحديث عنها. كانت إحدى المعلّمات تجزم أنّني يجب أن أصطدم بشيء أو أسقط في المسافة ما بين مقعدي والسّبورة عندما أقوم من مقعدي لأحلّ سؤالًا مكتوبًا في السّبورة بحماس بااالغ، وكنت أسقط كلّ مرة! كلّ مرّة. التّركيز يا ربّ. آمين.

الجمعة، 23 سبتمبر 2016

هذيان، وحب، وشعور لا يتمثّل كما أريد

أنا علياء، أبلغ من العمر ١٩ عامًا و٣٦٤ يومًا، وأحاول أن أهدهد فزع قلبي من مجيء يوم غد بالكتابة عن أشياء عابرة تعلّق شيء منها بقلبي. كان يومي حافلًا وسعيدًا وعامرًا بالعائلة والضحك والصياح واللّعب، والغشّ في اللّعب، والرقص، والغناء، والأحاديث الصادقة. كنّا في البداية أربعة: أنا وأمّي وخالتي وابنة خالي التي تصغرني بعامين. لم يحصل أن كان الأمر بهذه الطريقة من قبل.. لم تكن ماما يومًا ما شريكتي في جلسة يوم طويل مضحك. كانت دائمًا في صفّ الجدّة والخالات وكلّ الكبار. لأنّ فريقنا نحن الفتيات صار يقلّ يومًا بعد يوم، لأنّ أختي رحلت، وابنة خالتي، وابنة خالتي الأخرى، وتزوّج من تزوّج، صرنا نجلس مع الكبار. لم نكتفِ اليوم بهذه الرّباعيّة عندما جاءت جدّتي وزوجة خالي التي في عمري. جدّتي وأمّي وخالتي وأنا وابنة خالي وزوجة خالي.. تتلاشى الأعمار، ويغلب الضّحك، وكلّ ما نشعر به هو الحبّ، الحبّ فقط. قد يبدو الأمر عاديًا، هو عاديّ حتّى بالنسّبة لي، ولكنني أرى ما لا تروْن. كنّا نضحك سويّة، بذات النّبرة، وكأنّ جدتي هي ابنة خالي، وأمّي هي زوجة خالي -التي في عمري-. كنّا فريقًا واحدًا اليوم، لم يكن الأمر كذلك في السّابق. أحبّ ذلك، أحبّه جدًا. يسرق العمر أناسًا نحبّهم ليعوّضنا بأن يوثّق العلاقة بين من تبقّى منهم.

جدّتي.. جدّتي حكاية أخرى. بعد أن.. حصلت تلك الحادثة الفاجعة، صرنا نذهب إلى بيت جدّتي كل يومين تقريبًا، صرت أفتقد "حسّها" وصوتها حينما أتغيّب عن زيارات منتصف الأسبوع لاختبار أو عمل، وهي لا تفتأ تكرر: وين النّاس! ينقبض قلبي، أشعر بالذّنب، وأحبّها أكثر.. جدتي افتقدتني ولم أكن هناك، جدّتي التي لا أعلم كم تبقّى من العمر حتى أسمع صوتها الرّنان الحنون، وحكاياتها الحلوة، وأفكارها الحرّة، وروحها الشابّة، وهمّتها العاااالية.. جدّتي قصّة مطوّلة لا يسعني أن أتحدّث عنها ضمن الأشياء العابرة التي أحبّ، لأنها عالقة بقوّة، حد البكاء، حدّ الحبّ الذي لا يمكن الفصح عنه لا بقول ولا بفعل.

أمّي حكاية مطوّلة أخرى.. منذ أن ذهبت أختي وعصر الفراق قلبينا، وتتالت سلسلة البكاء على سريرها، صارت كلتينا -دون وعي منّا- تحاول أن تعبّئ شيئًا من الفراغ الذي تركه الفراق.. بوجود الأخرى. أمّي قريبة أكثر من أي وقت مضى، نشرب شاي العصر سويّة، هذه العادة التي ابتدعناها بعد السّفرة الأخيرة الّتي تبضّعنا منها أنواع الشّاي وإضافات الشّاي. صارت قريبة بالطّريقة التي صرت أخبرها بها ما لا أخبره أحد سوى أختي، في السّابق، ونستمرّ أنا وهي في نقاشات وتأمّلات حتّى تنشغل إحدانا بأمر آخر.. صرنا نتشارك ذات الاهتمام، الشّأن النّسويّ مثلًا، نتبادل المقالات والاستنتاجات، ونسبح بعيدًا، نحلّق عاليًا. قبل يومين، أرادت أمي أن تزور جارتنا المريضة، وبعد أن قامت بإرسالي لشراء بعض الزهور، عرضت عليّ أن آتي معها. شعرت بالحرج في البداية، ليس من عادتي أن أفعل ذلك، إلّا أنّني تحمّست لذلك عندما أخبرتني أنّها حضّرت رسالة الدكتوراه في النّسويّة مستعينة بأفكار المسيري التي أحبّها كثيرًا في هذا الشّأن.. ذهبنا، وكانت الجلسة حلوة، حلوة جدًا، كنت صديقة ثالثة، وتركتا لي مجال الكلام الكثير والتّفاعل وطرح التساؤلات دون خشية، كانتا تؤيّدانني، وتحبّان ما أقول، وتضيفان عليه، وتبْنيان عليه. أحببت تلك الجلسة كثيرًا، وودت لو أنّها ليست أمرًا شاذّ الحصول في هذا الوقت من الزّمان. 

حصلت، أيضًا، الكثير من الأشياء التي أحبّ بخصوص بعض المشاكل الّتي تتعلّق بالجامعة، وأخشى أن أتحدّث عن شيء منها بالتفصيل الذي أرغب لأنّ جامعتي تطاردني وتستدعيني بسبب كلّ كلمة لا تعجبها، وأنا قد علّمني الزّمان أنّ الرّوح الثائرة لا ينبغي أن تعلن ثورتها في كلّ وقت وكلّ حين، وأنّه ينبغي عليّ أن.. أكون أكثر حذقًا وذكاءً هذه المرّة. فعلت الأفاعيل فيما مضى، كنت لا أخشى شيئًا، وأحمد الله أنّني كنت صغيرة، أعني، أصغر من ٢٠ عامًا. 

فعلت شيئًا جريئًا، أكثر جرأة مما تحتمل مثاليّتي ويحتمل منطقي، ولكنّني أحببت أنّني فعلت. ماما شجعّتني على ذلك رغم أنّه في منطق الأمّهات ينبغي أن لا تفعل. أعُدّ ما فعلت هديّة بمناسبة عيد ميلادي، لم يكتمل حصولها، ولكنّني فعلت ما ينبغي فعله من جهتي. نشوة تخطّي حدود المعتاد لذيذة جدًا.. وهذا القرار الّذي اتّخذته جعلني أشعر أنّني ما عدت صغيرة، وأنّني مستعدة لاستقبال الإثنين في عمري في الـ١٠ سنوات قادمة. 

لا أعلم لم قلت ما قلت، كنت أشعر أنّني أريد توثيق شيء ممّا حصل لي، ولكنّ اللغة عذراء، والبيان يتمنّع.. هذا الكلام الذي يحتبس في حلقي ولا أستطيع أن أبوح به لأختي كما كنت أفعل، لا يعجبني مكوثه داخلي. لا أعود أتصرّف بطبيعتي وكأنّ شيئًا ما يثقل كاهلي، أصير أصمت بطريقة غبيّة لا يفهمها أحد ولا أحبّها منّي.

أنا متعبة جدًا، لم آكل لقمة من الكورن فليكس الّذي أعددته، وكلّ شيء يؤلمني، ورأسي يكاد ينفجر، إلّا أنّني.. أشعر بالرّضى، وأحبّ المجهول القادم بقدر ما أخافه وأرغب بالهرب منه، وأكره أنّ أختي ليست معي، ولكنّ، أحب أنّ الله لا يترك الفراغ الذي يجتاحني دون تعويض. 

هناك شيء ما بداخلي يشتعل، أشعر به، ولكنّي أجد ما أشغله به كلّ يوم حتّى يهدأ.. لن أدعه ينفجر على كلّ حال، أخذت وعدًا على نفسي بأن أفتح معها الملفّات متى ما استقرّ كلّ شيء وانتهت الفوضى، وصار حبل الإيمان المنقذ متينًا كفاية، فحتّى إن كان الاشتعال حارقًا، لن يستطيع أن يصيبني بضرر بالغ ما دام الحبل هناك ينتشلني من أيّ حريق.

لا أدري إن كان هنالك أحد في العالم سيمرّ على هذه الصفحة ويقرأ، ويتفاعل معها بصمت أو بفعل، لا أدري من سيجد هذا الهذيان الّذي أكتب، لا أدري إن كان هنالك من سيشاركني هذه الأشياء التي أشعر بها بقوّة ولا أجد ما يمثّلها لقلّة الأحرف، وللتعب الذي يستجديني حتّى أنتهي بسرعة وأرفض أنا أن أستجيب له لأنّني ما وثّقت شيئًا هنا منذ مدّة. يجب أن أوثّق، يجب أن أفعل دائمًا. علّمني الإيمان الذي أريد أن أجده كلّه.. أن أؤمن بأهميّة الأشياء غير ذات القيمة في الوقت الحاضر، وأن لا أكرّر خطأ أن أترك الزّخم الذي بداخلي يمضي كما تمضي الأيام بأن أجد له فتحة سخيفة يعبر من خلالها حتّى أتخلّص منه. سوف أموت يومًا ما قريبًا لا محالة، وأريد أن أجد القيمة في كلّ شيء أفعله، حتّى الشعور التّافه الذي يحيطني.. كما أفعل الآن مثلًا.

سأموت يومًا، لن أدع فكرة الموت تفارقني أبدًا. 


الثلاثاء، 6 سبتمبر 2016

كنت ألوّن



هرعتُ للتلوين -كما اعتدتُ أن أفعل في السنة الأخيرة- بعدما صارت الأفكار والأحاديث داخلي لا تكتفي بالكلام والحوار والإزعاج، بل صارت تفعل أكثر.. صارت تتشابك بوحشيّة وتتجاوز الحدود. صرت عاجزة عن التصرّف، أتفرّج وحسب، أتفرّج وأنام، فتتدخّل في أحلامي. نمت ٣ مرات -تعبًا لا كسلًا- خلال اليوم وما نامت تلك الأفكار المجنونة. لو أنني أستطيع أن أتنصّل من رأسي لبعض الوقت! لو أنّ هذا الكائن الذي وضع نفسه أمام كل هذه المتاهات يستطيع أن يقبع بعيدًا عني الآن فقط، اليوم فقط.. فأنا، بحقّ الله، أحتاج أن أتنفّس وأنظر للحياة بصفاء من جديد بعيون مجردة.  قررت أن أحسم الأمر بالألوان، بشيء محسوس لا يمتّ لرأسي بصلة ولا يستدعي حضوره، شيء أهرب به ولا يشارك هو فيه، فهذا الخناق ما عاد يحتمل. 

كُنّا في الزمن الماضي، ما قبل رحيل أختي (الزمان عندي ينقسم إلى: ما قبل رحيل أختي، وما بعد رحيلها) عندما تضيق بنا الحياة، نفرش الألوان، نفتح الأغاني التي نحبّ، ونغوص في عالم الألوان الجميل، ونخترعُ سويّة لوحة، مثاليّة من جانبي حد عدم اختلاط الألوان وتداخل الأشكال، وبديعة حرّة من جانبها. أختي حرّة حينما يتعلّق الأمر بالألوان، أما أنا فأغبطها وأحاول أن أكون. إحدى المرّات التي نحبها كانت حينما خرجتُ وجمعت أوارق شجر مختلفة، في يوم من أيّام الاختبارات النهائيّة الثقيلة، وفرشنا الألوان الزيتيّة التي ما استعملناها في التلوين مرّة، وقمنا برسم الأوراق التي جمعتها، وانتهينا بلوحة مثقلة بالذكريات السعيدة والأحاديث العلياء-إيمانيّة. تلك اللوحة الغالية على قلبي كدت أن أستأثر بها لنفسي وأعلّقها مع مجموعة اللوحات التي أجمعها منذ ٤ سنوات أو أكثر، إلّا أنني تذكّرت أن وحشتها أعظم، وأنها بتذكّر أيامنا الحلوة أحْوج، فأرسلتها إليها. 

كانت هذه المرّة هي الوحيدة التي ألوّن فيها بدون أختي.. كم هو مؤلم أن الأشياء التي ما كانت تفارقني في فعلها أختي وصرت أفعلها وحدي- صارت أكثر من أن أعدّها. يعتادُ الكلّ على رحيلها ولا أعتادُ أنا، ربما لن أفعل أبدًا. هي بالنسبة لهم ابنة من أبناء، أو صديقة من صديقات، أو طالبة من طالبات، أو..  هي بالنسبة لي: أختي، أختي هي هي، غير قابلة للاستبدال، فراغها غير قابل للتعبئة. هي أختي وحسب، أختي التي رحلت. 

كما كنت أصنع اللوحة من الصفر، كنت أفعل ذات الشيء في رأسي: أبني صورة جديدة من الصفر.

- أبدأ بدائرة زرقاء متقنة، في المنتصف. هيه، ألم نتفق أن تتحرّري من دوائرك المتقنة؟ أوه صحيح. أترك الدائرة وآخذ الريشة الغليظة وأرسم خطًا أحمر كبيرًا. أكرّر: يجب ألًا يكون متسقًا. أجعل أطرافه عريضة حتى يصبح أكثر نحولة من المنتصف. نعم هكذا، بداية مرضية، ليست مثالية، فيها أجزاء غير متسقة، والأهم أنني تركت تلك الزرقاء وحيدة في المنتصف باستدارتها المملّة.

- مزجت اللون بالماء، حتى يتكاثر، الكثرة تشعر بالطمأنينة، فالألون على وشك أن تنفذ.. كيف أتصرّف إن نفذت؟ لن أترك اللوحة غير مكتملة.

- اللون يبهت، ويصبّح الخط الأحمر مزيجًا من بقع فاتحة غامقة. البخل لا ينفع.. صرت أكرّر على الخط من ذات اللون دون مزجه بالماء. ستنتهي الألوان هكذا عند منتصف اللوحة! لا يهمّ.

- أستخدم الأصفر وأجده باهتًا، أجرب أن أخلطه مع الأبيض. واو، الأبيض أعطى اللون قوامًا وجعله سميكًا فاقعًا. يبدو أن هذا الأبيض ذو فائدة.. ثم تذكرت الجنود المجهولين الذين تستند عليهم الأشياء الكبرى الظاهرة ولا يراهم أحد. وأفكّر: بالإيمان وحده يكون لأولئك المجهولين قيمة ووزن. هذا سبب مهم لكي تتمسّكي بالإيمان. تخيّلي لو أن عمل المنزل الذي قمتِ به اليوم لأن العامِلة قررت أن تفرنقع وتتركنا فجأة،، تخيّلي لو أنّ جهدك ذاك سوف يذهب هباء؟ تخيّلي لو أنّ الألم الذي أصاب مرفقكِ الذي سقطتِ عليه حتى شككتِ أنه انكسر ذات رحلة بالدراجة في ليل بهيم لم يسمع فيه صياحك أحد، تخيّلي لو أن هذا الألم لا يعود عليكِ بشيء، بمقابل، بشيء يثقل في ميزانٍ ما. تخيّلي لو أن كلّ الأشياء الخفيّة،، كل الصبر الخفيّ، والألم الخفيّ، والسّند الخفيّ، والمحاولات الفاشلة، والخطط غير المنفّذة، لو كلّها كانت تروح هباءً، هل يجعل ذلك حياتكِ أكثر معنى؟ 

- استخدمت الألوان الأربعة الأساسية الموجودة، أريد لونًا جديدًا، والبنيّ لا يعجبني، أدمج لونين: الأحمر والأصفر، وأخلصُ بلون عجيب يشبه لون الـ..قيء. كنت أريده أن يكون برتقاليًا. لا يهم، هكذا تكون المحاولات الأولى. المغزى في المحاولات الأولى أنها محاولات أولى، بداية لشيء ما جديد، يكفيها أنها تمرّد على الأوّلِيّ وخوض لتجربة جديدة، شقّ لمساحة جديدة، يحفّها المجهول وتكسوها أنواع الاحتمالات. كان لون القيء محتملًا في النهاية. 

- أستخدم البنيّ لأنني كنتّ مخيّرة بين أكيد لا يعجبني، ومجهول يحتمل ما هو أسوأ. أجده ليس سيئًا.. ولكن، أوه! وصلت إلى الدائرة، تكاد تقطع الطريق، طريق الخطوط التي رسمتها. لِمَ لمْ أنتبه، سيتغيّر الآن شكل اللوحة التي كنتُ أتخيّل لأنني بسذاجة لم أنتبه أن الدائرة الساذجة تقبع في المنتصف. أجبر الخطّ البنيّ على أن يحفّ الدائرة ويميل من فوقها وأسفلها حتى أحلّ المشكلة. ماذا أفعل الآن؟ خرّبتها! ثم أتذكر أنني يجب أن لا أكون مثاليّة، وأنها مجرد لوحة سخيفة، وأنه لا يهم.

- أحب هذا المأزق الذي وضعتني فيه اللوحة لأنني سأصير حرّة من أي شكل مسبق الآن، ومن كل لون. أنا الآن سأتحرك وفقًا لحركات يدي العفوية فقط. يعجبني ذلك ويجعلني أشعر بالخفّة.

- أختلق ألوانًا جديدة من الألوان الموجودة، أدمج ثلاثة ألوان أو أكثر في كل مرّة، لا أعبأ بالنتيجة، المهمّ أنني ألوّن. أضيف الأبيض لكلّ شيء لأنه لا يكتفي بأن يعطي قوامًا، بل ويجعل اللون زاهيًا. أجد الأشكال التي أرسمها صارت عشوائيّة بسبب الدائرة في المنتصف والخط البنيّ الذي خرب مسيرة الخطوط المحتملة الأخرى، وأفرح أكثر. ياه، هذا ما كنت أريده! وتمنّيت لوهلة لو أنني كنت أستطيع أن أبدأ بهذه الطريقة الحرّة منذ البداية. ربّما تبدأ اللذّة عند المنتصف، وتحقق الأشياء مبتغاها في المنتصف، وتبدأ الرحلة الحقيقية من منتصفها. وأنا، ياللمصادفة، أقف في منتصف كلّ الأشياء، كلللل الأشياء. هممم

- ألاحظ: كلما أوشكت الألوان على النفاذ صرت أخرج بألوان أفضل. كلّما قلّت الموارد صار الإنتاج أزهى وأجمل. ربما لأن الأمر صار غير متعلق بالموارد ذاتها.. انتقل إلى مرتبة أخرى أسمى وأهم: فن المزج. 

- الدائرة ما كانت بذاك السوء، صارت مركزًا يتيح لي أن أبدأ من جهات مختلفة وخطوط متفرقة دون أن ألتزم بترتيب رتيب. المركز لا يعيق، المركز يعين، ويعطي منظورًا أكثر اتساعًا ونتيجة أكثر اتّساقًا.

- الريشة كلّما اختلطت بألوان أكثر، صارت تترك بقعًا أكثر تلوّنًا وجمالًا على المنديل الذي أنظفها به. كثرة التجارب تزيد صاحبها تلوّنًا وتنوّعًا وجمالًا. هذه البقع تحكي مجموع الألوان الذي تلطّخت به الريشة، حتى اللون الذي يشبه القيء صار في مجموع الألوان في البقعة التي تركتها الريشة- جزء من بقعة ملوّنة بديعة.

- أنظر إلى المناكير الأبيض التي تصطبغ به أظافري-والذي كان انطباع أمّي حينما رأته أنه أشبه بـ"اللّكْوِد"- وقد تلوّن بالألوان التي استعملتها، وأقول في نفسي: لا بدّ أن تترك التجربة، أيّ تجربة، أثرًا. لا يمكن أن أشارك في شيء دون أن يترك فيّ شيئًا، حتى لو كان الجهد منصبًّا على شيء آخر. ولكن، أتعلمين؟ صار يبدو أجمل عندما تلوّن! كان يراد له أن يكون أبيض فقط، ولكن الألوان التي لطخته كانت إضافة جميلة غير مقصودة. 

- أنهيت اللوحة برضى، كنت حرّة في أغلب الوقت كما كنت أريد. رأسي صار أكثر هدوءًا، صحيح لم تكن هناك أختي لتشاركني هذه الأفكار بصوت عال، والتي لا أجرؤ أن أشارك بها أحدًا سواها دون أن يسخر منّي وأنا أستنتج من كل شيء استنتاجات أزعم أنها تعلمّني شيئًا بشكل أو بآخر- ولكن ما كان الأمر سيئًا. لم أدع الألوان تتداخل في بعضها كما كنت أتمنى أن أفعل، لا تزال الحدود متحفظة ومستقيمة بطريقة ما، ولكن -على الأقل- لم أرسم ورودًا ولا أوراق شجر هذه المرّة. هذه نقطة تُحسب لي.

 أنظر إلى النتيجة النهائية للّوحة وأفكر: بقدر جهلي بما ستنتهي إليه اللوحة كنت أؤمن بأنها ستنتهي. بقدر جهلي بالطريق الذي سأسلكه حتى أنهيها، بالسبب الذي دفعني إلى البدء فيها، كنت أعلم أنها ستنتهي وهي مصبوغة بالألوان، وأنها ستكون لوحة كاملة مهما حصل. دون الإيمان بالنتيجة، رغم الجهل بما يحفّ كل شيء يخصّها، ما كنت لأقرر أن أرسم لوحة، ما كنت لأبدأ فعلًا عبثيًا. الإيمان.. هذا الإيمان، به أدخل المجهول وأنا أعلم أنني سأخرج بشيء ما ذي قيمة. به تستطيعين أن تدخلي غمار الحياة المجهولة جدًا، المخيفة، التي ستنتهي فيها الموارد مرّة، وتواجهك فيها العوائق مرّات أخر، وستنهيها في النهاية بنتيجة ترتضينها إن أنتِ آمنتِ. دون الإيمان كل شيء عبث. هلّا تشبّثتِ بما تبقّى من إيمان؟ سأفعل.