الاثنين، 25 مايو 2020

الخط الزمني لصلابتي الداخلية - A timeline for my atmabala

قرأتُ مرة عبارة أظنها لنيتشة، يقول فيها ما يدور حول المعنى: إنّها لمصيبة أن يستيقظ المرء فيقرأ بدلًا من أن يكتب، لأنه بذلك يبدّد أفكاره الخاصة ويقتلها بحشو رأسه بالمزيد من أفكار الآخرين في وقت الصباح الذهبي. وبالرغم من أن الصباح ليس الوقت الذهبي للكتابة بالنسبة لي، بل على العكس، لا تغمرني المشاعر الدافعة للتعبير ولا أكون أهيم في عالم الأفكار إلا في الليل، وتحديدًا بعد منتصفه، ودائمًا ما يجيء التدوين كتضحية عن نوم مستقرّ، ويتطلب مني في ذلك الوقت المتأخر جلسة واحدة طويلة أستفرغ فيها ما عندي وأذهب، ثم أجاهد نفسي في الأيام التي تلي لتنظيم جدول نومي من جديد..
وبالرغم من ذلك، قررتُ أن أكتب يوميّاتي، أو أي شيء، في الصباح هذه المرة من باب التجربة. سعيدة بقدرتي على النوم في الليل والاستيقاظ التاسعة صباحًا في ثاني أيام العيد، بعد شهر كامل من السهر حتى ٧ صباحًا.

لم يكن العيد أفضل عيد مرّ عليّ. كنت أنجح كل عيد في تشتيت فكري عن كل سبب تافه يفتعل مشكلة، بـ"هجولة" الزيارات المتتابعة وضوضاء الأصوات حولي وافتعال الفرح مع الآخرين، والحصول عليه، كل ذلك وأنا أعي تمامًا ما يحصل حولي، وأملك تحليلًا جاهزًا لكل حادثة، وكان ذلك ينجح، ثم كان هذا العيد الذي نفدت فيه حيل التشتيت، وحصلت المواجهة.
لم نأبه أنا وأختي، اختلقنا الفرح، وعشناه، وحاولنا استجلابه بكل وسيلة، ومضى اليوم. حاولنا، وهذا ما يهمّ. لا أشعر بالحنق ولا بالغضب.. أعني، أنا أفهم أن الحياة مزعجة في المجمل، وأن دور البشر فيها هو شقّ طرقهم فيها بالجهد الواعي، وأن كل من يدعّي غير ذلك هو.. مدّعٍ، يصدح بنصف الحقيقة. لكلٍّ منغّصاته، وأنا -رغم كل شيء- أشعر بمنّة الله عليّ في كلّ شيء.. في الرغبة بالمحاولة، في القدرة على المحاولة، في التفاصيل الصغيرة المبهجة، في وجود أختي بجانبي، في بلوغ رمضان حتى آخره، في النظارة النظيفة التي أمتلكها بعد رمضان، والقلب المرتوي المتحفّز للعمل، والذهن الأصفى..
في الأحباب الذين ذكرتهم وذكروني، وفي جلسة السرير المريحة آخر اليوم حيث استطعت أن أفرّ إلى حيث أريد.. بعد المحاولات. أن نحاول، هذا كل ما ينبغي، وهذا ما فعلت، وما سأفعله في الأيام القليلة القادمة.

أنا هكذا أكون صلبة.

(هنا تتوقف الكاتبة لمغالبة رغبة عارمة في البكاء)

لننعد بالزمن قليلًا.
بدأ رمضان وأنا في أكثر حالات ذهني تشوشًا. كان العام عام الفوضى الداخلية. لم يمر يوم لم أسائل فيه موقعي من كل شيء، وتحديدًا، من حيث المهنة والدراسة. هل ما أفعله هو ما أريد فعله، هل أكمل، هل أتوقف الآن، وهل أقطع عملي بدراستي؟ وإن كنت سأدرس، ماذا وكيف وأين ولمِ، وما البحث الذي ينبغي أن أركز عليه إن كنت سأدرس، وكيف أهندس حياتي بعد الدراسة إن كنت سأدرس، وما الفارق الذي ستضيفه دراستي إلى حياتي المهنية، وهل الدراسة بأي حال ضرورية أصلًا؟ وكيف أقيس وزن الحياة المهنية في مقابل جوانب الحياة الأخرى، وماذا أفعل بالمشاريع التي بين يدي، وماذا أفعل ببنائي الفكري، هل أخطط له؟ هل أترك الأمر يمضي وفق اختياراتي القرائية العشوائية؟ وإن كان ينبغي أن أخطط لذلك، ما الذي ينبغي أن أبدأ به؟ هل ينبغي أن أخطط لكل شيء؟
إلى أي حد أستطيع التحكم بحياتي؟ ما قدر السلطة الذي أمتلكه في القدر؟

ما دوري كابنة، كأخت، كصديقة، كصاحبة مشروع، كمتخصصة في مجالي، كعضوة في مجتمع، كبشريّة في هذه العالم؟
هل المسؤولية التي تقتلني تجاه الضعاف من البشر ينبغي أن تحدد طريقي الآن؟ هل فكرة الموت ينبغي أن تحدد مسار حياتي الآن؟ هذا ما فعلته؛ أكان ذلك صحيحًا؟ هل كل موقف مهنيّ هو موقف أخلاقي؟ هل كل خطوة أتخذها في حياتي الخاصة موقفٌ أخلاقيّ؟ هل هناك فصل ما؟

كيف ينبغي أن أرى الأشياء؟ كيف أكون؟ هل ينبغي أن أكون؟ وعندما أشعر أنني أغرق في وحل الأسئلة، يكون السؤال: هل يمكن أن لا أكون؟
كيف لا أكون؟
هل الوجود أشرف من العدم؟ ويجيب المناطِقة أن نعم.

كل سؤال كنت أجيب عليه وأعاود الإجابة عليه، وأدخل في نقاشات مطوّلة حتّى ملّ مني الآخرون، ثم أعاود تشكيل إجاباتي، وهكذا دواليك، دون حد أقف عنده. كنت سأجنّ.

استقطعتْ ذلك كله رحلتي المفاجئة لأمريكا. تركتُ عملي، وفي ٥ ساعات حزمتُ أغراضي، وفي غضون يومين من القرار كنت قد ركبتُ الطائرة. أنا، والطائرة، ورواية ظريفة صفراء، ودفتري الذي ابتعته من أزقة إسطنبول في إحدى رحلات العمل، وحقائبي الزرقاء، والسماء بغيومها التي تجتمع وتتبدّد، وأنا.. أجلس بجانب النافذة بقلب مخطوف بجمال الغيوم، سعيد لفراره من الدوامة التي كاد أن يغرق فيها، منتعش للبداية الجديدة، مهمومٌ.. لا يزال، ولكنّه فرّ! فرّ من جغرافيا لأخرى مغايرة، بعيدة كل البعد، وهو يمنّي نفسه أن تحمل البداية الجديدة إجابات لسؤالاته..

أتذكر المرة الأولى التي ركبت فيها سيارة تشق شوارع لوس أنجلوس والدهشة التي عمرت قلبي. كان الأمر مختلفًا، لا يشبه أيًا من رحلات عملي الكثيرة. كانت هناك دهشة، ونشوة، وإكليل لامع متناثر في قلبي وعيناي.. ورئتاي..
نشوة الجديد، والحرية، والاحتمالات الباهية التي تحملها البدايات..
نشوة فكرة العيش وحدي، بعيدًا عن كل ما اعتدت عليه.

أتذكر إحدى المرات الأوائل التي ركبت فيها سيارة مسافة ساعتين لتقلني من حيث كنت أسكن إلى مكان "الدوام" اليومي. كان العجوز الذي يسوق السيارة مهذبًا، ولم يشغل أي موسيقى بخلاف سائقي (أوبر) الآخرين، وسمح لي بفتح نافذة السيارة كما أُفضّل طيلة الطريق. في ذلك المشوار شعرتُ أنني فعلت الشيء الصحيح بأن أتيت، وحسمتُ شكّي. كانت لحظة صلابة أولى. كنت أسائل نفسي تعجبًا: هل كنت سأدع نفسي في دوامة المنزل والمكتب، وسط الأفكار التي كانت ستقتلني، بعيدًا عن رحلة يومية هادئة كهذه، وعن.. كل شيء جديد باهٍ؟ عن هذا الخضار، وهؤلاء البشر المختلفون، ونمط الحياة الجديد هذا، وخوض مغامرة يومية مثيرة؟ يا الله!
هواء الحرية ملأ رئتاي، ومنظر أشجار الغابات الممتد على طول الطريق كان يسكرني. كان عندي ٤ ساعات يوميًا طوال الشهر الأول للتفكير بكل شيء في صمت، بدموع تتساقط، ورغبة عارمة في الاستسلام لِلَّحظة، وترك الأفكار تنساب من رأسي كدخان.. كان ذهني يتنفس، ويلقي شيئًا من ركامه البالي خارجًا؛ خارجي.

توالت الأحداث سريعًا، في الأشهر الثلاثة التالية، ورغم أنني عشتُ وحدي، وكنتُ أتنقّل بدراجتي، كان الوقت أكثر ازدحامًا من القدرة على التفكير والتعامل مع قلقي الذي أجّلت التعامل معه إلى حين أستقرّ، هناك، في أمريكا البعيدة. كان قلقي يتجدد مع مواجهة أسئلة الطريق؛ طريقي في الحياة، والمصير المهنيّ حين التقديم على الجامعات وأثناء إجابة أسئلة استبانات التقديم الكثيرة الشبقة الفضوليّة. لم أستطع أن أحسم أمورًا كثيرة ظننت أن هذه الأشهر ستكون كفيلة بحسمها لأنه ما كان هناك وقت. ولكنني في المقابل، قابلت أناسًا رائعين، جربت الإجابة على بعض هذه الأسئلة وكان ذلك مفيدًا، أو أظنّه كذلك، وخضت نقاشات كثيرة ساعدتني بشكل ما على حل بعض المعضلات الآنية، وجربت أشياء جديدة خلسة. كان التنقل بالدراجة يساعد على تجديد هواء ذهني، وكان إعداد الوجبات ممارسة مريحة تستقطع الأفكار والعمل الجادّ وتعطيني إجازة صغيرة من همّ الحياة ومسؤولياتها. كانت الرحلة متنفسًا مهمًا انتشلني من الجنون، ولكنه لم يكن كافيًا لحسم الأمور التي تقبع داخلي وتطنّ كذباب شارف على الموت، لكنه لا يموت. كان إجازة قصيرة من القلق.

عندما عدتُ من أمريكا عادت الحياة وكأنني ما ذهبتُ. كان الكلّ يسألني عن الرحلة، ولم أكن أستطيع الإجابة لأنني عندما ذهبت فجأة، وعدت فجأة، شكّل الأمر شيئًا يشبه الفجوة السوداء في ذاكرتي. كان دائمًا يحصل أن أتساءل أن لمَ لمْ أفعل الشيء الفلاني في وقت أبكر؟ أو: متى فاتني هذا الأمر؟ ثم أتذكّر أنني.. آه، صحيح، كنتُ في أمريكا. في رمضان، مع صفاء الذهن، كانت تعود بي الذاكرة لبعض الذكريات هناك. تراودني لقطات من منزلي هناك فجأة (Flashbacks) فأخرج من لحظتي ثم أعود..
ولأنني منذ بداية الحجر المنزلي صرت أطبخ، لأن الطبخ صار المهرب الوحيد من العمل عن بعد- أشعر في كل مرة أضع فيها القدر على الفرن أنني في أمريكا، لأن مطبخي هناك كان المطبخ الأوّل الذي أطبخ فيه فعلًا، ولوهلة، كنت أشتاق تفاصيل حياتي هناك. أنا أشتاقها فعلًا، وأحب الذكرى، وأودّ لو أستعيد كل تفصيل بالحديث عنه، ولكن ليس الآن.

عندما عدتُ، عادت الأسئلة من جديد، وكأنني ما اقتطعت عمرًا من عمري لحسم الأمر وتهدئة الفوران. شككتُ بذاتي وقدراتي ورغباتي كما لم أفعل قبلًا، وتمنّيتُ أن أنسحب من الوجود أكثر من أي وقت مضى. كُنت محاصرة بأسئلة أبحث لها عن جواب خالص في صدقه تجنبًا لخداع نفسي، وعندما أفعل، كنتُ كما لو أطعنُ نفسي بسكّين. أيُعقل أنني رديئة إلى هذا الحدّ؟
صار الأمر هستيريّ، ولساني صار يزلّ بما يحمله ذهني من أسئلة وإجابات محتملة عندما أريد وعندما لا أريد.. صرت أستعرض بعضها على من أعرف وأثق بهم لعلّ شيئًا مختبئًا لم أتفطّن له ويراه غيري- يمكن له أن يغيّر شيئًا في المعادلة التي لستُ أرى سواها: أنني أفنيتُ عمري هباءً، وأنني في حقيقة الأمر.. صفر. كان ينقذني حديث البعض الطّيب الواثق عنّي، وكان يمدّني بحبل ينتشلني من جحيم أفكاري، ولكنّه ما كان كافيًا. أريد كلامًا أقبض عليه، وأفهم كيف جاء، ولم، وكيف قامت أركانه، وما المعادلة الناتجة إن غاب أحد عواملها، وهكذا. كل كلام لا أستطيع تقليبه والقبض عليه، لا أعوّل عليه.

سأنام قليلًا، ثم أعود.

نمتُ، وكلمت عمي وعمتي، وابنة عمي، و(تقهويت) مع ماما مهجة قلبي، والآن، بعد ساعة من التمرجح في مرجيحة الـ(حُوشْ: فناء المنزل)، أريد أن أكمل. ربما لهذا السبب أنا أتجنب أن أفعل أي شيء يتطلب تركيزًا واستمرارية قبل منتصف الليل، لأن الاستمرار دون مقاطعة مستحيل.

نكمل،

في ثالث سنة من سنوات الجامعة، كنت مع مجموعة في ما يشبه الدورة التدريبية نقوم فيها ببعض النشاطات والحوارات الفلسفية، في تجربة من إحدى أجمل تجارب حياتي. ورغم ازدحام جدولي، وعراكات كثيرة كانت تحصل مع مجموعة الجامعة التي كنت فيها للمشاركة في مسابقة دولية ما، كنت أحافظ على سكون نفسيٍّ عالٍ. كنتُ لا أُقهر.
 كانت إحدى التمارين في هذه الدورة أن ينظر كل شخصين في عيني بعضهما مدة ٥ دقائق مستمرة دون فواصل، بصمت، ودون أن يلتفت أحدهم عن عيني الآخر سوى بالرمش الضروري لترطيب العينين. ولأنني حضرت متأخرة، كانت شريكتي في التمرين هي المدربة نفسها، وهي امرأة عاقلة مدركة للمداخل والمخارج في عالم التمرينات الفلسفية هذه، وتكبرني بكثير. سمّرت عيناها في عينيّ، وكذلك فعلتُ، وكان أن تساقطت الدموع من عينيها، وكنت أهدهدها بعيناي. جرى حوار بالعيون، وكان ذلك هو المقصود من التمرين. عندما انتهينا، سألتها: لماذا بكيتِ؟ وأخبرتني أنها رأت في عينيّ سكونًا غريبًا.. شيئًا راسخًا لا يتزعزع، شيئًا صلبًا، قوة داخلية ما، وأنها تفتقد كل ذلك. أخبرتها: أنا فعلًا قوية من الداخل.

في سنوات الجامعة كنت أمتلك صلابة نفسيّة رهيبة، واستقلالية فكرية عظيمة. لم يكن شيء يستطيع إزعاجي أو هزّ أفكاري، أفكاري التي كانت نتاج تفكير مطوّل وخلوات وقراءات..
كنت واثقة من نفسي بالمعنى الإيجابي، أمشي بزهو، ولا أكترث، بحوائط زجاجية تحيط بي، فرِحة بعزلتي الاختيارية وسط كثبان من البشر. في سنتيّ الجامعة الأخيرتين كنت أجيء وقتما أشاء، أغادر وقتما أشاء، أتغيب إن أردت، وأدخل الفصل الدراسيّ آخر ٥ دقائق، ولا أبالي.. وحتى أساتذتي كانوا يفهمون، ولا يكترثون، في حالتي أنا فقط، لأنني في كل مرة كنت الوحيدة التي تشارك في حوارات الفصول الدراسية، وتعرف الإجابات، وتحفظ كل شيء تقريبًا، وتحرز أعلى العلامات. كنت أفعل المهم، ولا أزعج نفسي بما لا أراه مهمًّا. أتذكر اليوم كل ذلك وأضحك على جرأتي الغريبة آنذاك، وأشتاق هذه الصلابة.

ثورتي في مجملها كانت داخلية، كانت أكثر نضجًا من فوراتي وثوراتي أيام المدرسة.. كانت ترتكز على المقاومة في أن أكون أنا بطريقتي أنا؛ في أن لا أصير واحدة منهنّ.. أن أفكر بطريقتي، وأقضي وقتي بطريقتي، وأتجنّب الضغوط الاجتماعية، ولا أستجيب لطريقة تعريفهنّ للأشياء، وأحلّق في عوالمي التي أجدها ذات معنى. بين رفوف المكتبة أجلس، متكئة على الجدار خلفي في أوقات فراغي، آكل رغيف الكرسون الذي أحب وشاي النعناع، وأحلّق بعيدًا. لم يكن الأمر سهلًا، ولكنني كنت صلبة كفاية. أخبرتني إحداهنّ مرة أنها عندما سألت عني (لا أعرف لم سألت عني!) أجابتها الفتيات اللاتي تعرفنني أنني غريبة، أتكلم بطريقة غريبة، أفلسف الأشياء، وأستعمل مصطلحات لا يفهمها أحد، وكأنني من عالم آخر، وأضحكني الأمر، ولم أبالي. أخبرتني أخرى أنها "تدافع عني" عندما يتحدث الفتيات عني، وأنه ينبغي عليّ أن لا أحزن إن تحدث عني أحد بشكل يبعث على الحزن. أضحكني ما قالت هي الأخرى لأنني لم أكن أدري أصلًا ما يحصل خلفي ومن حولي، ولم أكترث يومًا. في الجامعة، كنت أقطن داخلي، أحرس صلابتي وأؤثث عالمي الخاص، وأحضر فقط بصوتي ومواقفي الواضحة عندما تستدعي الحاجة؛ كأن أقف في الواجهة وأضع الخطط في مواجهة الإدارة.. وهكذا.

دائمًا ما كنت كذلك، صلبة، قبل هذا العام.

أخبرتُ مشرفي في التدريب المرتبط بالجامعة الذي سبق وظيفتي الأولى فورًا، أنني يستحيل عليّ أن أعمل في مكان فيه ترتيب هرميّ للمسؤوليات، لأنني لا أطيق أن أكون تبعًا. أريد أن أعمل بطريقة تعطيني مجالًا واسعًا للإبداع، وقول ما أريد، والتحكم في شكل المنتج الذي يخرج مني.. أخبرتهم أن الشهادة التي سيعطونني إياها لن تهمني على أية حل، لأنني سأبدأ عملًا خاصًا إن كنتُ سأعمل، وأن عملي الأول بعد التدريب مباشرة سيكون رعاية ابنة أختي. ضحكوا..
كنتُ جادّة. ولم أكترث.


تذكرتُ اليوم الأشهر الأولى من وظيفتي؛ والتي كانت الأصعب على الإطلاق، وعِظَم ما واجهت، وأنني لا أصدّق أنني واجهته كلّه! وتجاوزته بقوّة، وصلابتي الداخلية العجيبة آنذاك، وكيف تداعى كل ذلك.. منذها.

منذها، وأنا ما عدتُ آوي إلى وقتي الخاص، أشذّب أفكاري، ألتزم بوعودي مع ذاتي، وأؤمن بالخطوات الصغيرة. منذها وأنا ما عدت طلقة المسدس التي لا تخيب. أنا ثاقبة، هكذا اعتدت أن أكون. وعندما لا أكون ثاقبة: متذبذبة، ولستُ متأكدة من كل شيء، هذا يعني أن شيئًا في قد اهتزّ، وأن أمرًا ينبغي إصلاحه. في الأشهر الأولى من وظيفتي الأولى، عندما كنت لا أزال صلبة، كنت أتعامل مع شخص في مرتبة إدارية عليا في بعض المهام، وفي لحظة تجمعنا أنا وهو وزميل آخر كان منخرطًا في المهمة التي جلبتني لقسمهم، توقّف هذا الإداريّ، وأخبر زميلي فجأة: هذه الفتاة إن وقفت في صفّ معركة فسينتصر الصفّ الذي تقف فيه. أتذكر كم خجلت. كان الوقت الذي ذكر فيه هذه العبارة صعبًا، كنت أحارب بكل قوتي لأكتشف كيف أتصرف بحكمة ودهاء في المهمة المسندة إليّ، وحيث كنتُ، كنت أقف في مفترقات طرق، ومحكّات أخلاقيّة عدّة، أستعين بالجميع للفهم، وفعل ما يلزم، وتفنيد الموقف الأخلاقي من كافة جوانبه المحتملة لمعرفة التصرف السليم، وكان هناك، هو وآخرين، يساعدونني ويرشدونني ويشجعّونني. أنا لولا من حولي ما خطوتُ خطوة سديدة.

رغم أنني فتاة، ككل الفتيات، وكل البشر، أقف في مفترقات طرق، إلا أنني أشعر أن نصيبي الأكبر من البلاء في هذه الدنيا هو الوقوف في مفترقات طرق كبرى ومحيّرة، في كل الأصعدة: الاجتماعية بأنواعها، العائلي منها، والعاطفي، والصداقي، ثم على صعيد الدراسة، والتخصص، والاهتمامات، والمشاريع، والمهنة.. ولذلك، أنا بحاجة لصلابة داخلية بحجم عائلي.
ولأن هذا نصيبي من البلاء، فعندما تتزعزع صلابتي الداخلية- أتهاوى، ويصبح كل مفترق شوكًا حادًا يتغلغل في كل عرق فيّ. هذه الدنيا تلقي علينا أسئلة دبقة دون إجابات، وإن كان نصيبي من هذه الأسئلة كبيرًا، فأنا آمنتُ.. بعد كل الذي رأيت.. أن السلاح الوحيد لمجابهتها هو الإيمان. الإيمان يعادل الصلابة الداخلية. أنا لولا الإيمان ما كنت. لولاه لوجدت طريقة أشفط بها ذاتي من هذا الوجود. فوجودي دون الإيمان؛ دون ذات صلبة تميّز وتحكُم وتترك البالي و ل ا ت ك ت ر ث، وتتشبث بما ينفع، وتعرفه، وتميّزه، وتنطلق به، وتعول في جهلها الأعظم بالغيب على قوة عظمى عليمة ورحيمة- ليس أشرف من العدم، بل أحقر بكثير.

أشعر الآن، بعد عام ونصف، من التذبذب والحيرة والوهن، أنني أقوى، وأنني أكثر صلابة بكثير. لرمضان هذا العام أثر السحر على قلبي. لم أجتهد فيه بشكل استثنائي، كنت مقصرة، ولكن الله برحمته وجوده وكرمه مسح على قلبي، وبتكرار قراءة القرآن شعرت أن نورًا يتسلل إلى داخلي، وأن كل اعوجاج استقام، وكل هش تقوّى وجلد، وكل متزعزع ثبت أو اقتُلِع من جذوره بلا عودة. أشعر بقوة، حتى يكاد ضوء ليزر يخرج من عيناي يقطع الأشياء ويهدد الأعداء.. هه! أشعر بحب الله يغمرني، بنوره يحفّني. أشعر بحب الأحباب، بنعمه الصغيرة كلها.. بجوده وفضله الذي فاض والذي سوف يفيض، بالاحتمالات الجميلة مشرِّعةً أبوابها، بكل فأل طيب.. بزوال الدنيا، بحقارتها، بأهمية المهم ودنو الدنيّ. أشعر أنني أعرف مكاني من الوجود، وأن المعنى في قلبي أرسخ وجودًا من المادّة، وأن نظارة الحياة خاصّتي أصفى، وبها صرت أنظر من فوق، من زاوية بعيدة، كما اعتدت قبل الغوص في وحل عالم الوظيفة وأسئلته القبيحة والحيرة التي جرتني من أذني في كل صوب. تجردت من أسباب الضعف، من غواية الأشياء التي كانت تجرّني إلى الأرض. أشعر أن كل صغير قيّم، وكل فعل له وزن، وأنني سأعتني بذلك كله، وهذه الكتابة هي فعل الإيمان الأول.

أخذت قبل قليل موقفين صعبين من أمرين مربكين، ببساطة، ورحابة صدر، ومرونة عالية، ولا اكتراث بالخسائر في مقابل ما أؤمن أنه صواب، عجبت فيهما من نفسي، وأدركت صلابتي الجديدة، أو أحسست بصلابتي القديمة تٌظهر بروزها على السطح، واحتفيت بذلك. شكرًا يا الله، يا حبيبي، يا سبب وجودي الأول الأزليّ. يا إجابة كل الأسئلة. يامن إذا استشعرت وجوده استقامت حياتي، وإذا قرأت كلامه استنار قلبي، وإذا وقفت بين يديه صلح كل شيء، ارضَ عني، فأنا راضية عنك. أنا، في استحضار معيتك يا ربي، أترك الأشياء، وأهوي من علّ، وأنا متأكدة أنك ستتلقفني برحمتك، كما عوّدتني. لن أنسى هذه الحقيقة ما حييت، وبها أستقيم، وبها يصلح حالي، بها وحدها والله يصلح حالي!

في خطي الزمني من صلابتي النفسية، بإيماني بكل شيء صغير هو سبب كل شيء كبير، باستحضار الحقائق الكبرى، برؤية الأشياء من زاوية بعيدة وشاملة كفاية- أنا أجرّ مؤشر صلابتي نحو الأعلى من جديد، وهذا المنشور هو طقس احتفالي.