الأحد، 5 يوليو 2015

أحنّ






كل شيء فيها كان مثاليًا.. كنت سعيدة وحرة، وقلبي دافئ رغم البرد القارس. كان قلبي دافئًا، ومنتعشًا وجديييدًا. كنت جديدة! كل الوجوه كانت جديدة، والمكان.. السماء والبحر والأجواء والطيور وأنا.. كل شيء كان جميلًا هناك، كل شيء. جميل وجديد وبارد ودافئ وباهت وأزرق وباسم. أتذكر كل الصباحات هناك، لم تكن حقيقية صدقوني! وأنا جالسة على بحر مرمرة بشرشف الصلاة أقرأ أذكار الصباح.. قدماي الحافيتان على رمال الشاطئ، عيناي على البحر والسماء والطيور والأفق، وأنفي أحمر ومتجمد، أتأمل وأبتسم وأدعو..




في نهاية كل يوم كنت أعود مثقلة بالمعلومات والهمّ، متفاجئة من الغياب الذي كنت فيه.. لمَ لمْ أكن أعرف كل هذا، وأشعر بكل هذا؟ أين كنت؟ ويكأنني ما كنت جزءًا من العالم، ولا كنت أسكن ذات الأرض! ولأن الهم عندما أعود وأفكر يتضخم ويكبر فيفيض، أذهب إلى البحر. يعود الجميع إلى أسرّتهم وأفرّ أنا إلى البحر.. بحر حالك السواد، لا تميز ماءه عن ترابه إلا بالصوت. رمال باردة وماء متجمد ورجل حافية لا تكاد تشعر بأي شيء لفرط البرودة. كانا باردين وكنت أحبهما. أمشي حافية، أذهب وأعود.. أصطدم بصخرة مرة، وبطوبة مرة أخرى، أتحسس الجرح بيداي. لايهم.. أكمل السير. أجلس على الرمال تارة، وعلى الدكة تارة وأصابع قدماي على الماء، وأمشي على المياة تارة حتى تتجمد قدماي فلا أعود أستطيع أمشي. أتحسسها وأضحك! قدماي صخرتان، رفاء تعالي شوفي! تأتي من بعيد.. جاءت لتطمئن كعادتها. نجلس سوية في الظلام الدامس على الدكة ونتحدث كثيرًا.. نمشي ونعود فنجلس. كم أحبها هذه التي عرفتها بالأمس! تأتي أختها لتطمئن هي الأخرى فتستحيل الخلوة من بعدهما ويحلو كل شيء ويغدو مضحكًا. 

نعود إلى غرفتنا في وقت متأخر جدًا لننام.. تفشل محاولاتنا في النوم من كثرة الكلام والضحك. نجهز ملابسنا لليوم التالي، تنامان وأنام بعدهما.. ولا ألبث أن أنام لأستيقظ على أذان الفجر. نمت ساعتين أو أقل، أصلي وأسبق الجميع وأذهب هناك.. إلى البحر. كم هو فاتن والشمس لما تشرق. ينادونني لأشاركهم المشي، أهز رأسي موافقة وأكمل خلوتي.. ينادونني للإفطار.. أهز رأسي ثم ألحقهم على مضض. كل شيء جميل؛ أعني كل شيء. الوجوه والمناظر و.. القلوب. كان يشغلنا هم، نتحدث ونضحك ونسمر حوله. الجميل في الموضوع أن كل ما حصل هنالك لم يكن عبثًا ولا ترفًا ولا متعة فارغة.. كنا منشغلين بشيء حقيقي في مكان ساحر. هكذا هي تركيا، تجمع كل شيء. تجمع البحار والقارات والجنسيات والأديان، والدنيا والآخرة!

أفتقد كل شيء هناك، بكل تفاصيله.. كل الناس، كل العيون، كل الكلام، كل الضحك، كل البكاء، كل الأماكن والأجواء.. والهمّ.. 

ما أصعب أن تشتاق لحظة.. شيئًا من الماضي ولا يكون إلا في الماضي.. أن تشتاق جوًا كاملًا، بأناسه وأماكنه وذكرياته والتفاصيل التي كانت فيه، وشعورك الذي كنت تشعر به وقتها. اللحظات لا تعود، هي تمضي وتنقضي إلى يوم القيامة. أنت لا تستطيع أن تبعث لها برسالة شوق ولا حتى أن تستعيد بعضًا منها. فورما تنقضي كل شيء يتغير ولا يعود. كل الناس فيها يذهبون ويتفرقون، والأماكن يسكنها أناس جدد، والشعور فيها لن تستعيده إن ذهبت هناك ولا إن رأيت أصحابها المتفرقين وإن حاولت.. شعرت به وانتهى. أحببتَ اللحظة ولكنها لن تعود.. لا يكفيها حبك أن تعود!

عندما تشتاق لحظة مضت وانقضت، ليس كما تشتاق شخصًا راحلًا تحت الأرض، فمكونات هذه اللحظة لا تزال موجودة ولكنها تفرقت، موجودة فيزيائيًا ولكن المعنى.. ذاك المعنى الذي جمع كل مافيها معًا غاب وانقضى ومات. أنت تعلم أن كل شيء فيها موجود في مكان ما، ولكنك تعلم أن اجتماعه مرة ثانية بذات الروح مستحيل، بذات الجدّة والدهشة والجمال والبريق! بذات البريق. تتمنى لو ينسى الكلّ كل ما حصل حتى تعود فتجمعهم في لحظة شبيهة من جديد، أو أنها ما حصلت وما كانت حتى تحصل وتكون.. أن تترقبّها، لا أن تنعتها وتبكيها وتشتاقها وتحنّ وتأنّ ولن يبالي بهلوساتك أحد، فمن تشارك شكواك وما عاش تلك اللحظة سواك؟

التعامل مع الوقت قاسٍ هكذا دائمًا. ما مضى منه يذهب بغير رجعة، وما هو آت يخبئ خلفه ألف سر ولغز، واللحظة الآنية لا تنتظر! تصرف معها الآن وإلا رحلَت. ماذا لو كنت متعبًا في الوقت الذي ينبغي أن تكون فيه نشيطًا؟ ماذا لو كان مزاجك سيئًا في الليلة اللي تسبق اختبارك؟ لا يهمه، هذا الوقت، هو يمضي فقط.
لو أن اللحظات تتجسد، تتوقف، يعود الزمن فنستعيد طعمها وشعورها حتى نملّ منها فننتقل إلى غيرها مما نشتاقه.. لو أن لنا الخيار في أن نختار لحظة تحتوينا ونعيش فيها. لم أطلب أن أصمم لحظتي بالطريقة التي أريد، أريد أن أستعيد واحدة كانت موجودة مَرة، وحية وحقيقية.. هل هذا مستحيل؟ هي كانت موجودة، موجودة جدًا! 

ولكن اللحظات تمضي ولا تعود.. والناس يتفرقون، ويتغيرون، ويكبرون، وتبقى الأماكن ثابتة في مكانها، مفرغة من المعنى الذي نحب، ممتلئة برائحة الماضي وذكرياته.. 

تحاول أن تتحسس جدرانها وبلاطاتها وأسقفها، تستجدي كل شيء فيها أن يأتي بما كان آنذاك.. تتمنى لو أن لك عصا ساحر تلبس كل شيء رداءه القديم، الرداء الذي تحب. تتلون الجدران، يعود الناس، تعود الروح، تعود أنت الذي كنت وقتها، ويعود قلبك الذي كان، ليشعر بذات المشاعر التي كانت.. بدون الهموم الجديدة والأفكار الجديدة والأثقال الإضافية و.. أنت أنت وقتها، وهم هم، والمكان هو المكان.

 لو أن الأجواء تستعاد.. لو أن الزمن يعود، واللحظة تتجمد.. لو..




١٥ رمضان ١٤٣٦هـ

٢ يوليو ٢٠١٥