الاثنين، 22 أكتوبر 2018

حرائق

انتهيتُ للتوّ من فيلم Deap Poets Society الذي أوقظ كل شعور كنت أسعى حثيثًا في الأيام الماضية إلى إخماده. كانت مشاهدته فعل تمرّد؛ إذ أطلقت عهدًا على نفسي بصوت عالٍ أن أنتهي من المهمة المملّة التي كان ينبغي عليّ فعلها قبل أن ينتهي اليوم، ولكنني بحركة تسلل، فتحت الفيلم بدلًا من ذلك. ولأن هذه المدونة هي فعل تمرّد، أتيتُ. الساعة الآن ١ صباحًا، بعد الموعد الذي ينبغي أن أذهب فيه إلى النوم بساعة؛ الموعد الذي وضعته في جدولي الشخصي، الجدول الذي ما التزمت بما أكتبه فيه يومًا، ولا أدري متى سأفعل، ولا أدري إن كان ينبغي أن أفعل. الانضباط، ووضع الأهداف، والالتزام بها، أمر يجب حدوثه لعبور هذه الحياة، أليس كذلك؟

دعوني أحدثكم عن البكاء. هذه الأيام هي أيام البكاء.. هي الأيام التي من أجلها خلق البكاء. ما عادت الدموع شيئًا يندر حصوله حتّى تختصّ به المناسبات التعيسة، إلا إن كانت أيامنا هذه كلها تعيسة، وهي كذلك؛ إذ ما تكون أيامنا التعيسة إن لم تكن اليوم، وكل يوم؟ لنعترف. نحن نعيش أسوأ أيام التاريخ. هذه الأيام هي الأشد سوادًا وحلكة وظلامًا ودمارًا، وأكثرها كبتًا وغمًا وهمًا، وصرخات لا تخرج، وأحزان لا يعبّر عنها، ولا يجوز التعبير عنها، ولا يمكن التعبير عنها، ولا يمكن الصراخ بها، فكل ما يمكن هو البكاء، والصمت، وقتل الصوت الصغير الذي يصرخ: هذا ليس صحيحًا!؛ إذ لا يمكن أن يسمح له بالحياة، فنحن نعيش.. أسوأ أيام التاريخ، والصراخ يا سادة، الصراخ العاديّ، هذا الفعل البشري، في أيامنا هذه، لجريمة.

أشعر أنني أعيش داخل كهف، داخله كهف، داخله كهف أكثر ضيقًا، داخله كهف يمتلئ بحجارة حادة تحيط بي من كل جانب، حتى إذا ما حاولت تحريك رأسي للنظر، أو صدري لأتنفس بشكل أفضل، سأموت. ستخترق الحجارة جسدي كسكّين، وسأموت. ينبغي أن أبقى جامدة هكذا، أن أنسى أنني إنسان، كائن، حيّ، يفكّر، ويشعر، ويحبّ، ويتوق، ويتمنّى، ويحلم، وتضيق به الأماكن الضيّقة، وتحفل به الأماكن الواسعة، ويودّ لو يجري فيها، أو يطير، أو أن يمدّ يديه وهو يجري كما لو أنه يطير، ويرى، ويسمع، ويتحدّث، ويصرخ، ويقول ما عنده دونما خجل، ولا خوف، لأنّ عنده رأي، وموقف، ولأنه؛ إذ يملك رأيًا وموقفًا، فإن ما عنده يستحقّ أن يقال. أن يكون. أن أكون. أريد أن أكون. كل ما أريده هو أن أكون. أن لا أكتفي بتلك الفتحة الضيقة في الكهف داخل الكهف داخل الكهف، أن لا أكتفي بمشاهدة الحياة عبرها، حيث أرى الناس.. يمشون، ويجرون، ويقفون، ويعيشون، ويتكلمون، ويخوضون ما يخوضون، وأنا، مع كل ما أشعر، وكل الحركة الصاخبة داخلي، أرى، وأسكن، لا أتحدّث، ولا أكون، ولا أتنفّس، ولا أحاكي، ولا أكون. أن يكون الكون ولا أكون. أن أكون في الكون دون أن أكون. أهناك ما يقتل الكائن أكثر من أن يكون كائنًا دون أن.. يكون؟ أن تجري الحياة في دمه، والمشاعر في قلبه، والأفكار في رأسه، والهواء في رئتيه، ثم يقف ساكنًا، دون أن يدع هذه المحركات تعمل، أو تحدث أثرًا، أو صخبًا، أو حركة في الحياة خارج الجسد؟ أن يجعلها تدور كالمجنونة داخله، حتّى إذا لم يمثّلها شيء في العالم الخارجي، احترقت، وأحرقت، وأكلت نيرانها كل ما كان، ثم بعد موت تعود الحياة تحرّك داخله ما احترق، ليعود، فيحترق. دورات سيزيفية لا تكفّ. تدور وتدور وتدور، تظنّ أحيانًا، هذه الأشياء التي تتحرك داخله، أن وجودها عبث، إذ لا يتحرك مع حركتها شيء، وهي.. متحفّزة، ومشرقة، وحيّة جدًا، تتوالد فكرة بعد فكرة، شعورًا بعد شعور، أملًا بعد أمل وحلمًا بعد حلم، ورغبة عارمة لفعل الكثير، وإحساسًا شفيفًا بكل ما يقطن هناك.. في الحياة الواسعة، وتوقًا للمحاكاة، والخلق، والتكوين، والكون، والبعث.. بعث الحياة في الأشياء، والأقوال، والناس، كل الناس؛ أولئك الذين لم تتحرك في داخلهم ذات الأشياء، لأنهم، ما امتلكوا ذات الثقب، أو فرصة للنظر من ثقب، والحياة، هذي الحياة، ملأى بمن هو بحاجة إلى أشياء تتحرك، وتُخلق، وتتكون، وتُبعث فيها الحياة، لتُصلح ما ينبغي إصلاحه، وتفعل ما ينبغي فعله، وتهدهد القلوب الحزينة، وتشجب الظلم، وتمسح على الآلام، وتجعل من غير الممكن ممكنًا، ومن المعطوب شيئًا متقوّمًا، وتفعل ما تفعل، مهما كلفها ذلك من عناء؛ لتعطي، وتعطي، وتمنح كل ما يمكنها أن تمنحه، لأنه ما من شيء يجعل تلك الأشياء تسكن، وتستحيل إلى زهور بدلًا من اشتعالها حرائق، إلا العطاء، والخلق والتشكيل والتكوين والبعث و...

أعيش أيامًا صعبة، من قبل أن تزداد الحياة صعوبة بعد الثاني من أكتوبر ٢٠١٨؛ فأن أوضع في مواجهة الحياة، وأن تكون المعادلة: أنا وحدي، في مقابل الحياة، دون أن أمتلك الأدوات، ولا الورقة البيضاء التي تسع اختراع إجابة من عدم، ولا قلم، وأنا مطلوب مني أن أحسم المسألة، وأن أوجد النتيجة، ثم تكون النتيجة هي النتيجة، وأنني، إن لم أرضَ بها، فربما لا أكون. 
من يدري من أكون، إن لم أكن، وإن كانت تلك الطريقة المجحفة هي الطريقة الوحيدة لأن أكون؟

من أكون؟

أكنت سأكون شيئًا إن كان الفضاء أكثر رحابة؟ أوَ كنت سأكون شيئًا إن كان هناك صوت يهمس، يد تلتقفني، مفتاح كونيّ ما يرشّح لي طريقًا؟ أوَ أستطيع أن أجد شيئًا كهذا في عالم لا فضاء له؟ أو أحتاج شيئًا سوى فضاء واسع أتنقل فيه كيفما أشاء، وأجد فيه ما أحتاج أن أجده؟ 

لا أريد مساعدة، ولا مفاتيح، ولا أصوات تهمس. أريد فضاءً حرًا كبيرًا، ولا وصايات. 

عشتُ صراعًا محتدمًا، ولا زلت، أشك بفعله كل ساعة بوجودي، وحقيقة أنني كائنة، وأنني إنسان، وأنني بحاجة إلى أن أكون، ورغم كل الفوضى التي يضعني كل ذلك فيها، فأنا أخلص في كلّ مرة، بعد انطفاء يشبه الموت، أنني هنا، وأنه ينبغي أن أتواجد أكثر؛ أن أمد ما أعطانيه الله إلى مداه الأقصى حتّى أكون، وأنني، لذلك، لا أطيق أن أوضع في مواجهة مع هذا العتاب: ألم نجعل له عينين؟ ولسانًا وشفتين؟ وهديناه النجدين؟ فلا اقتحم العقبة! إذ لا إجابة. أمتلك كل ذلك يا رب، وأمتلك محرّكاته، فداخلي نيران تشتعل وتلتهب وتشبّ وتتلظّى، تنهش فيّ بدلًا من أن تحرق وقودي، ولكنّني ما استعطت بها أن أتحرك. أنا ساكنة، وحزينة، بدواخل تحترق.

ما أضافته أحداث ما بعد ٢ أكتوبر هو الغضب. صرت أحترق فوق حرائقي. الغضب هو كل ما أشعر به. الغضب والكراهية والقرف. نيراني صارت تتضاعف، ودخانها يخرج مني على هيئة دموع. دموع، حياتي كلها دموع. أحزن، وأغضب، وأكره، وأحقد، وأقرأ كثيرًا عن كل شيء، كمجنونة، كأن عيوني مسمّرة على الشاشات، أقرأ وأبكي، وأشتم، وأزداد غضبًا، وغضبي يرتدّ من بوابة فمي إلى قلبي، فينهش فيه أكثر، وأنطفئ أنا. أحيانًا أفكر: إن لم أكن أعيش كما ينبغي للحياة أن تعاش، وإن كنت لا أقدّم للحياة ما ينبغي تقديمه، فإن وجودي لا طائل له، وربما كان الموت أجدى، لدواخلي المحترقة، والعالم.
ولكن.. ما أريده فعلًا هو أن أفرّ، أن أهرب، حيث الصراخ ممكن، والغضب، وأن يتم توظيفه والطاقة المشتعلة داخلي في أشياء ذات فائدة؛ إذ مهما حاولتُ أن أقتل ذلك فيّ، بكل الجداول ورسائل التقديم على وظائف لا أؤمن بجدواها، ولا أصر للحصول عليها، أجد مقاومة تلقائية، ورفضًا عنيفًا للموت حينما يمكن الوجود؛ ففي البال أحلام، وفي الروح آمال، وفي القلب أمانٍ، وأفكار لمشروعات، أكون فيها حرّة، وأنفذ بها ما أريد، وأكون فيها كما ينبغي أن أكون، وأطوّع العالم فيها تحت إمرتي، وأقدّم ما أودّ تقديمه، حتّى أسكن.. ليس بفعل الحرائق بل لأن دوري انتهى.

يأتي أستاذ Keaning في الفيلم إلى مدرسة لأبناء النخبة ليدرّس مادة الأدب الإنجليزي فيها بطريقة استثنائية، يحفز فيها الطلبة على امتلاك أصواتهم الخاصة، ويسرّ في آذانهم بأن السير وفقًا لما يمليه الجميع يحتمل الخطأ، وأن الفنّ هو ما يجعلنا بشرًا، ويحيي فينا ذاك الشيء الذي له القدرة على الخلق والإبداع، وأن الوظائف التي يسعى كل واحد إلى امتلاكها بعد تخرجه من المدرسة فجامعة مرموقة، ليست تغطي إلا أساسيات الحياة، وأنها ليست الحياة، وأن قياس أصواتنا المنفردة بالمسطرة لغباء، وتخلّف، وشذوذ، وأن الأصل هو أن يعيش الواحد فينا كما تملي عليه نفسه، وأن النفوس، أنفسنا، فيها من الكفاءة ما يجعلها تقرر كيف تشقّ طريقها الخاص، دون الحاجة إلى النظر إلى الطرق المرسومة سلفًا، وأن المشي في الطرق المرسومة ليس بطولة، بل انصياع أعمى إن لم نفهم الجدوى من المضي فيها، وأن الخير الذي نتركه في الناس لا يمكن أن ينسى، وإن تعاضد العالم لقتله وإبعاده. 

قال Keaning الكثير من الأشياء التي أؤمن بها وأتجنبها مخافة عدم القدرة على الحصول عليها، ورغبةً في الشعور بالانتماء إلى هذا العالم بالاستجابة إلى الصوت الذي ينقاد خلفه الجميع.

أنا خائفة، ورغم خوفي أحاول، ومع كلّ محاولة تتعسّر الحياة أكثر، وكأنها تريد اختبار الحد الأقصى الذي يمكن لي أن أصل إليه، ويبدو أنها لا تعرف أن كل هذا صار يضيق بي، حد الاختناق، وأنه ما عاد بي نفس لمزيد مقاومة، وأنني أتوق لمساعدة واحدة في الطريق، وتسهيل واحد يقودني إلى حيث ينبغي أن أكون، وأن أرى تقدمًا في خطواتي خطوة واحدة.. واحدة فقط، وقدرة أكبر على تجاهل هذه الظلمات التي تزداد حلكة في كل مرة أحاول أن أُقدم فيها، ومع كل مرة أقوم فيها بعد سقوط، وأن تعطيني بابًا واحدًا أطرقه فيفتح، دون كثير نزاع وإحباط وانتكاسات نفسية أنتشل نفسي منها بصعوبة لأعود فأطرق المزيد من الأبواب.

أن تكون الحياة البسيطة أمرًا ليس ممكنًا، كالحركة والتجربة والتعبير واتخاذ القرارات الصغيرة، كالكلام، والحركة،، وأن تكون الكلمة العادية التي يتم بها التعبير عن شعور إنساني محض فعلًا مجرّمًا ومريبًا، وأن تكون الأفكار مصدر رعب، والحديث مصدر قلق، والتفكير خارج الأطر المفروضة محرّمًا، هو موت قبل الموت، وأنا لا أرضى أن أكون ميتة وأنا موجودة؛ إذ الوجود حقي الذي منحه الله إليّ، وإن وجدت، فيجدر بي أن أكون موجودة، وأن أعطى الفرصة لأمارس وجودي، بكل ما أوتيت من وسائل أعبر بها عن ذلك،

أن لا أكون منطفئة، ولا خائفة، ولا ميتة، ولا جنديّة عمياء مأمورة، ولا أي شيء مسخ آخر.

الثلاثاء، 18 سبتمبر 2018

عصفور

لا أريد. كل ما أعرفه هو أنني لا أريد. لا أريد! أتسمعون؟

ذهبت إلى الجامعة اليوم، في أول زيارة لي بعد التخرج، راجية من خلف ذلك أن يتأكّد هذا الصوت الذي يصرخ بداخلي كعصفور يحتضر.
هف هففف (هواء)
 تنفس يا حبيبي، يا صوتي، يا صوت قلبي، تنفس واشرب الماء، وعِش، وانتعش، واعذرني عن.. القسوة والإلجام والتشذيب والتهذيب والتكذيب والتهرّب و..

اليوم جئتك يا فؤادي أعترِفْ، 
أنا من سقتك [الخوف] ألوانًا وقالت لا تخفْ، 
حبستْ [صراخك] يوم غار النّصل
أوغلَ
غصّتِ العبَراتُ،
جفّ الحلقُ جفّ.
وأقولُ جئتُ لأعترفْ..

ذهبت لأسعف هذا العصفور الحزين.

دخلتُ، وكنتُ أرجو أن لا أكون مرئية. ارتديتُ نظارتي الشمسية -كما كل بنات جامعتي- داخل المبنى، حيثُ لا شمس، بل أسقف، ووجوه. كنت أحتمي من الوجوه وأحتمي من المعرفة. شعرت أنني ذاك الماء الذي طفح من الإناء، أو ذاك الغصن الزائد الذي ينبت فوق رصيف حجري. كنتُ زائدة، وأشعر بشيء من توجّس؛ توجّس من هذا العود رغم التجاوز، وهذا الانحناء رغم الوقوف. كنت أخشى أن يتلو أحدٌ  في نفسه  عند رؤيتي شيئًا من قبيل: ما بالها تزور الجامعة؟ أهي تفشل خوض الحياة دون الجامعة إلى هذا الحد؟ ولأن موقفي كان متطرفًا من الدراسة، إنها لجريمة أن أفكر بالشوق.
كنتُ أخشى أن أبدو كذلك الشاب الثلاثيني الذي يحنّ لحياة الجامعة التي ضاقت عليه في liberal art، وأن أبدو مثله، أحاولُ ارتداء رداء قديم ضاق عليّ، وعديمة حيلة. لم يكن الأمر كذلك، ولكنني كنت أخاف. فقدت ثقتي بالوقوف وحيدة في هذه الحياة حدّ أنني صرت أحسبُ كل صيحة عليّ، وأنني أستحق هذه التهم.

أنا لا أكره الجامعة، ولكن المشاعر ملعو**. أعني، كبرتُ على هذا الكبرياء غير المبرر تجاه كل ما أتركه خلفي. ليس عيبًا أن يتفحّص الواحد فينا ماضيه، ويستقي منه ما يدفع به نحو الحياة القادمة. في الجامعة، هناك من أحبهم وأثق بهم، هم من كانوا ثروتي فيها، وسلاحي، وملاذي، وهم وحدهم من استثمرتُ في علاقتي بهم أيام دراستي، ولجأتُ لهم في أحلك الأوقات، وكببتُ على طاولاتهم همّي، واقتنصتُ لزيارتهم أوقات فراغي، ولا عيب.. لا عيب أن يتزوّد الإنسان من زوّاداته القديمة، ولا أن يعود خطوة تدفع به للمضيّ خطوات وخطوات، أليس كذلك؟

حسنًا، ذهبتُ..
ولأن المقهى الذي كنتُ أودّ الإفطار فيه كان مزدحمًا ويغصّ بطالبات الجامعة، حيث لا نفس (ياللهول!)، توجهت إلى الجامعة، ووصلت باكرًا. اشتريتُ الكرواسان الذي اعتدتُ شراءه، وشاي أحمر بالنعناع. ازداد سعر الشاي ريالًا. شربته دون سكر للمرة الأولى في الجامعة بعد إقلاعي عن شرب الشاي بالسكر. طعم الشاي رديء، وطعم النعناع رديء. كان السكر يخفي رداءتهما. حاولتُ أن أستغلّ ربع ساعة الانتظار في الرسم. أحضرتُ، مع ما أحضرتُ، ألواني الحبيبة وكراستي، حتّى لا يمرّ وقت ضائع دون فعل شيء؛ فالتلوين هو الملاذ حينما يكون رأسي صاخبًا بشكل لا يسمح بالقراءة. التلوين هو أقراصي المهدئة، حيث تنساب أفكاري مع كل ضربة ريشة، وتتلوّى مع التوائها، وتنسجم بانسجام الألوان التي تمزجها معًا، وتنحني بانحنائها، وتتلاشى فيما يتلاشى من الألوان عند إضافة ماء. بالتلوين، أصهر أفكاري كما أصهر الألوان، أذيبها، وأجعلها تنساب حرة عبره، دون آلام بطن، دون حركة أرجل قلقة، دون ذهاب وعودة في خطّ مستقيم واحد. عيوني في الكراسة، يمناي مع الفرشاة، وأفكاري تتسلل، وتنسلّ، وتذوب.

انتهى وقت الانتظار سريعًا. كان الكرواسان لذيذًا، "سادة" كما أحببته دائمًا، وأبيض، وغضّ باللب، ودافئ كأيدي الجدّات. ألمّ أغراضي على عجل، وأحمل كوبي، وحقيبتاي، وأرتدي نظارة الاختفاء من..؟ وأمضي. أذهب إلى فوق. أنتظرها لأن عندها فتاة أخرى. تخرج وتستأذنني لإحضار كوب قهوة فأذهب لإحضار كوب ماء. أرى في طريقي من إحدى الشبابيك أستاذة مادة الدراما، ألوح لها بيداي وأذهب إلى مكتبها وأسلم. كانت منسجمة في كمبيوترها تكتب وتمحو، والقلق بادٍ من عينيها. تخبرني: لم أجد محررة لكتابي حتّى الآن. نتحدث حول كتابها، والقلق، ودور النشر، وأفكر: كم أحب هذه الأستاذة اليافعة، اليانعة، التي لا يطفئ البريق في عيونها شيء. أتذكر موعدي فأمضي سريعًا. أدخل. أكبّ قصتي على عجل، باستطرادات كثيرة وسرد لا موزون. تخبرني ما لا أود سماعه، ولا أبحث عنه، كالعادة، ولكنها، رغم كل شيء، تثير في ذهني أشياء. أودّ لو أعرف كيف تفكّر حيالي، وما الذي تظنّه حولي، وما الانطابعات التي تشكلها عني، ولكنّي أعرف -إن سألتها عن رأيها فيّ كبشريّة لا كمرشدة تقوم بعملها-  أن الأمر لن يعجبها. عندما دخلتِ الغرفة وهي تحمل كوبها الذي لم تشربه بعد، متعجلة وقلقة، أخبرتها: أشعر أن حصول الأمر بهذه الطريقة ليس إنسانيًا. أنتِ إنسان، وبحاجة لوقت راحة، ولشرب كوب القهوة في هدوء، ولأن يحظى ذهنك ببعض المساحة. أليس مضجرًا ومزعجًا أن تستمعي إلى قصتيْ حياة كاملتين في جلستين متتاليتين دون راحة؟ الإنسان كلّ لا ينفصل، وأنتِ هنا، وفي كل مكان، إنسان. يزعجها الحديث، فأسكت، وأتظاهر بأن الأمر هكذا، وأنها محقّة، وأجنّب فضولي حول انطباعاتها مع كل رفعة حاجب، وكل مقاطعة من قبلها لحديث لا تكتمل فيه أفكاري، وللآراء الشخصية التي تلقي بها، والنصائح  الخاطئة التي توجهها دون تقصٍّ، والتي.. لا تزعجني. أعني، أنا واعية كفاية حتّى أفرق بين ما هو بشريّ وما مهنيّ، فلا تتظاهري بانفصالك عن ذاتك الحقيقية وأنت معي، رجاءً.

أخرج بخفّي حنين، كالعادة، دون ندم؛ لأنها خطوة لا بدّ منها قبل الإقدام على القرار، القرار الكبير. كلانا حاول. المهم أن نحاول. أذهب إلى قسم القانون، بنظارة شمسية ووجه منكفئ نحو الأرض. أدخل غرفة أستاذتي الأثيرة، وأجدها، لحسن حظي، في المكتب. نتحدث، وأحكي كل شيء. تخبرني: معك حق، نعم، صحيح. الحياة واسعة، وأنت تستحقين الأفضل. يبرُد قلبي. تخبرني أن الكتاب الذي أهديتها إياه في آخر لقاء لنا أعجبها، وأُسَرّ. نتبادل أسماء الكتب، وأسماء أشياء كثيرة. تؤكد على سعة الحياة، وأن هناك الكثير مما يمكن فعله. نمشي، ثم نجلس فوق طاولة. أستأذنها أن أتربّع فوقها، ثم أستأنف: أوه! أصلًا ما عدت طالبة. ونضحك. حميمية هي تلك العلاقة مع الأساتذة الذين نحبهم عندما تنتهي علاقة الأستاذية وتستحيل إلى صداقة نقيّة، دون درجات، دون حرمان من تبادل الهدايا، دون شكوك وريب ممن يرانا نتحدث بانسجام وانسياب. نتبادل ماهو شخصي وما ليس بشخصي. ونضحك.. نضحك كثيرًا. أختم حديثنا بقول: أنتِ أحسن وحدة. أحتضنها، وأودّعها، وأمضي بوجه راضٍ، وسعيد بهذه العودة التي شحنت ذخيرته للمضي بابتسامة واثقة وعزم على اتخاذ ال ق ر ا ر. ليست كلُّ عودةٍ عودةً، وليست الحياة خطًا مستقيمًا نمضي فيه أو نتراجع، بل هي شيء أكثر صعوبة وتعقيدًا من القدرة على التخلي عن أركاننا الثابتة، مهما كانت عتيقة.

أشاهد على الغداء المزيد من المقاطع التي يتحدث المتحدثون فيها عن تجاربهم الوظيفية، وحياة ما بعد الجامعة، عن ندمهم، ومخاوفهم الكاذبة، والأصوات الضئيلة التي كانت ينبغي أن تعلو، والعصافير المخنوقة التي كانت ينبغي أن تنطلق، ونظرتهم عن الحياة بعد عقود وعقود من اتخاذ قراراتهم الوظيفية الأولى، وأتنوّر، وأزداد تنوّرًا، وأحب معجزة تكوّم الخبرات فينا أكثر وأكثر، وأحب أن التيه يقودني إلى هكذا أشياء؛ إلى تتبع قصص الناس، وفحص تجاربهم، والتنوّر بكل ذلك..
أحبّ كل من قادني التيه إليه لسؤاله عن تجاربه الدراسية والمهنية والشعورية عندما كان في موقفي أنا، وكل من سألتهم بخجل أن أقابلهم/أتصل بهم للسؤال عن.. وعن.. وكيف..، فقابلوني بالترحيب، وسمحوا لي بالولوج في حياتهم بمنظار متفحّص وأسئلة لا تنتهي.

هذا التيه ليس مقلقًا، بقدر ما هو مدهش.
 أن أمتلك القدرة على التجوّل، والسؤال، والتتبع،
 ثم أمتلك القدرة على الفحص، والتحليل، والاختيار،
ثم أمتلك القدرة على الرسم، والخط، والبناء؛
أن تكون الحياة في يدي،
 أن أكون، بما أريده أن يكون فيّ، وما أريد أن أكونه،
 أن أمحو وأضيف، أن أقبل وأرفض، أن أقرر وأحجم عن القرار، أن أقضي وقتي في عمل ما، أو لا أقضي وقتي فيه، أن أكون إنسانًا يختار، أو لا أكون.
أن أصنع نظرتي ونظارتي تجاه نفسي والكون والأشياء والأعمال، وأمضي.. وفقًا لها؛
أن أجرب، لأنه ما من مناص. أن أسأل، لأنه ما من دليل.
هذه الرحلة الاستكشافية البنائية الخلّاقة، ساحرة بقدر ما هي مربكة، ومدهشة حد خطف الأنفاس وجفاف الريق واستحالة النوم، وكل شيء فيها محتمل، والإيمان فيها حبل وأمان.

أدرك اليوم أكثر من أي وقت مضى أنني أحب حريتي، وأخاف أن أفقدها، وأحب أن أكون، وأن أرى بعيوني، وأن أسمع بأذنيّ.. وأحب أن رأيي يمكن أن يكون صحيحًا بقدر ما تكون الآراء الأخرى، واختياراتي في الحياة يمكن أن تكون حكيمة جدًا، وصحيحة جدًا، بعد كل هذه التحرّيات، مهما قال القائلون، المهم، أن أتقصّى، وأختار جيدًا، وأستشير، ثم أمضي. لا كراسة تقييم، ولا شهادة، ولا درجات.

 أحب هذا، والله أحب كل هذا، ولطالما انتظرت اللحظة التي لا يكون ينبغي فيها علي أن أفعل شيئًا ما؛ أن أنهي مرحلة ما، أن أعلف معلومة ما، حتى أختار. ياااه، كم من العمر انتظرتُ هذه اللحظة، حيث لا قيود، ولا التزامات؛ حتّى أفكر بعقلي وقلبي الخالصين؟ أيُعقل أن ألجم فيها هذا العصفور، وأجرّعه فيها العلقم، وأنا التي ما فتئت تصيح وتنوح وتزأر بحقة في الحياة والمضيّ حيثما يريد، وكيفما يرى هو..
أن يطير في الأفق،
أن يفرد جناحيه،
أن يتحرك صعودًا ونزولًا،
ودورانًا إن أراد،
أن يحلّق،
أن يغرّد كيفما اتفق،
أن يطير،
لأنه خلق من أجل أن يغرّد، ويطير،
أن يقوم بدوره، ويساهم في هذه الحياة، دون زيف ولا تنكّر،
أن يكون،
بأقصى ما يمكن له أن يكون.






يا أيّها الرّهَقُ المسافر في دمايَ
ويا نزيف الجرح
قفْ.





الأحد، 25 مارس 2018

عن مرحلة التدريب، وأشياء أخرى

زمان..
منذ ٥ أشهر لم أوثق شيئًا من حياتي، هنا أو في أي مكان آخر، إلا فتات كلام. فقدتُ إيماني بهذه المساحة، أو ما عاد لي نفَس للسرد الطويل فيها. صارت حياتي تشبه حياة أولئك الكبار المشغولين بدوّامة الحياة التي لا تتوقف، بشكل آليّ، غريب ومسخ.

لستُ واثقة إن كنتُ لا زلت أستطيع أن أوثّق المرحلة الشعورية التي أقف منها، أو أن أنظر إلى ما يحصل داخلي وخارجي من فوق، بمنظار بعيد محايد يصف كل شيء وكأن كل شيء يحيط به ولا يمسّه.

كان من ضمن ما حصل في الفترة الماضية من حياتي هو ذهابي لدوامين في اليوم: أذهب إلى الجامعة صباحًا، ثم أذهب بعدها مباشرة إلى المكان الذي أتدرّب فيه، ثم أعود لأذاكر ما يتسنّى لي، وأنام. هكذا يمرّ يومي دون إضافات، دون التعرض لمصادر معرفية أو بشرية أخرى تفتق في بالي أشياء أحبها، تشعل حماسي أو غضبي.. لا شيء من ذلك كله. حياة مفرطة في الجدية متكدسة بتفاصيل لا أملك اختيارها. انقطعتُ عن القهوة مذ بدأتُ هذا الروتين، منذ أول يوم فيه وحتى اليوم لم أشرب إلا كوب قهوة واحدًا. صرتُ أنام مبكرًا وأستيقظ مبكرًا لأول مرة في حياتي منذ كان عمري ١٤ سنة، ولا آخذ قيلولة في منتصف اليوم لأنه ما من وقت، أقابل أساتذتي ثم رؤسائي في العمل، وزميلات الفصول ثم زميلات غرفة المكتب، وهؤلاء وحدهم هم من يحيطون بي، وهم وحدهم من امتلأت ذاكرتي بأحاديثهم، ولم يكن ذلك يعجبني تمامًا، لأنّه ما من شيء يشبهني، أو حتى يعجبني من الأحاديث التي تتلى في كلا المكانين، ولم أكن في كليهما أشعر بانتماء تام لشخص ما، ولا أتبادل أفكاري التي تهمني ومشاعري التي تعنيني مع أحد منهم. دائمًا محترزة، أرتدي ابتسامات صفراء وأتفوّه بكلمات مجاملة، ويبدو كلامي غريبًا بالنسبة لهم لأنني أتلفظ بكلمات مضحكة، كما تقول زميلتي في العمل.

لم يكن الأمر سيئًا إلى ذلك الحدّ، أعني، في مكان عملي. دعوني أصف لكم شيئًا مما كنت أمرّ به. أخرج من سيارتي التي أقلتني من جامعتي إلى مكتبي وأنا أحمل ٣ حقائب ثقيلة يكاد معها كتفاي أن ينخلعا: حقيبتي اليدوية، وحقيبة اللابتوب، وحقيبة طعام الفطور والغداء مع حليب محفوظ في كرتون، ولبن إن أبت معدتي أن تستقبل شيئًا من كلّ ذاك الطعام. أذهب إلى الشاشة لأضغط زر المصعد فتشير إلى أحد المصاعد من جهة اليمين أو جهة الشمال. أدخل مصعدًا اختارته الشاشة لي، مع الكثير من الأناس المشغولين الذين يرتدون سماعات موصولة بهواتفهم، أو يتبادلون الحديث عن صفقة ما، أو أي شيء متعلق بالعمل، بالإنجليزية أو العربية، بلهجة جداوية، أو مصرية، أو لبنانية، ويرتدي معظمهم بطاقة معلقة بشريط أحمر على رقابهم لتشير إلى هوياتهم. تحدثت في المصعد ٤ مرات فقط؛ مرة مع رجل عجوز سألني دون مقدمات عن مكان عملي، وعندما أخبرته بالمكان، حكى لي بأنه يعرف رئيسي وأنهم كانوا يعملون معًا في... ثم انقطع خط الحديث لوصولنا، وفاجأتني مرّة إحداهنّ بسؤالي عن حاجة شركتنا لموظفة تمويل، دون أن تعرف من أكون، وأين أعمل، ومرة ثالثة عندما دخل معي في المصعد السكرتير الهندي الذي يعمل في مكتبنا وسألني عن رضاي عن العمل، ورددت بنعم، إلا أنني لست متأكدة أنني سأكمل حياتي بعد التخرج على ذات المنوال، فرد عليّ بأنّ المهم هو أن تضاف هذه الخبرة إلى سيرتي الذاتية، ووددت لو امتدّ الوقت أكثر لأخبره بأنني لا أكترث بالسيرة الذاتية ولا بترهات من يطمح للعمل في منشأة تدار بطريقة هرميّة.

أصل إلى دور شركتنا، أقترب من الباب لأضع بصمتي، فيسلّم عامل النظافة الواقف خارجًا لأنتبه لوجوده وأردّ السلام، أبصم، أبتسم للكاميرا التي تلتقط وجهي عند وضع بصمتي، أدخل، أسلم على موظف الاستقبال، تدخل جزيئات رائحة معطّر المكتب -بعدما أتجاوز غرفة الاستقبال- إلى رئتي دفعة واحدة بشكل غريب ومفاجئ كل مرّة حتى أنّني أغمض عينيّ،  وأبتسم، وأفكر: أحب هذه الرائحة لأنها ترتبط بهذا المكان، وأنا أحب هذا المكان. أمشي ممرّ المكتب الطويل، أتفحص الآتين بالنظر بأطراف عيوني إلى مكاتبهم المرتصّة على طول الممرّ يمنة ويسرة، أسلم على من أجد في طريقي وأبتسم له، أدخل غرفة مكتبنا الموجودة في آخر الطريق، أدق الباب، وأفتحه وأسلم وأسأل عن الحال دون أن يجيبني أحد، أذهب إلى مكتبي بجانب الجدار الزجاجي الكبير المطلّ على مبانٍ ممتدّة شاسعة وشارع تمرّ فيه السيارات كنمل، أضع حقائبي فوق المكتب، ثم أتكّئ على الجدار الزجاجي برأسي وأتأمل، وأتذكر آميلي نوثمب والجدار الزجاجي الذي كانت تتأمل من خلاله العالم في شركتها في اليابان. أحب مكتبي اللصيق بالجدار الزجاجي هذا، وأحب أن بجانبي دائمًا نافذة للأزرق والممتدّ والمتحرك عندما يضيق بي العمل، وتتجمّد معه دواخلي. مكتبي تعلوه كتب، وتحيط به، وتختبئ من تحته، لأن عملي في قضية كبرى ما، لنسمّها (القضية الكبرى) كان ينصب على البحث، ولا أعرف لم يحب أن يوكّلني الجميع بمهامّ بحثية في هذا المكتب، ولذلك، هناك تحت الكتب المتراكمة، يوجد فهرس المكتبة الذي لم يسألني عنه أحد، منذ أول يوم وحتى آخر يوم.

استلمتُ فهرس المكتبة من محامٍ سوريّ كبير في السنّ يعمل عندنا في فهرسة الأوراق والكتب، يمشي بهدوء وصمت حاملًا كتبًا وأوراقًا من مكان إلى آخر على كرسي ذي عجلات، يتكئ عليه ليمشي، وليحمل عليه الكتب. سألتُ زميلاتي في الغرفة عمن يكون ولم تكن أي منهنّ تعرف اسمه أو وظيفته. كنتُ أبحث مرّة عن مصدر تعذّر عليّ الحصول عليه، فأخبرني أحد المحامين أن أسأله، سألته وأنا لا أظن أنه سيفهم ما أقصد، ظننته ينظّف، أو يرتّب، إلا أنه بعد تكرار الجملة لأكثر من مرة، أحضر لي الفهرس، وأشار لي إلى الكتاب الذي أجد فيه ضالّتي، ووجدته فعلًا، ودهشت لذلك. وبينما أنا أتصفّح الورق، مدّ لي كرسيّه، هو محنيّ الظهر، لأجلس عليه وأنا أقرأ، ونبهني كثيرًا إلى عدم حني ظهري حين القراءة أو الجلوس. كان كريمًا جدًا معي. بعدما أخذتُ الكتاب، وضع بقية الكتب المطبوعة تحت ذات السلسلة وأحضرها فوق كرسيّ ذي عجلات إلى مكتبي، وأخبرني أن أتصفحهم في أوقات الفراغ لأن ذلك سيكون مفيدًا لي. شكرته وشكرني. عندما أردتُ سؤاله عن اسمه قلتُ: دكتور، أستاذ؟ فضحك وقال: انتِ الدكتورة، الله يخليكِ، ولم أعرف اسمه إلا عندما فتشت في سجلّ الموظفين. وبعد هذا الموقف، كنتُ أسلم عليه حينما أجده في طريقي ولا يردّ علي، فأشعر بالحرج. بعدما فهمتُ أن سمعه ضعيف، سلّمتُ عليه مرة بصوتٍ عالٍ، فسمعني، وسألني عن اسمي وأجبته، وتبادلنا السؤال عن الحال. في نهاية اليوم، أرسل لي عن طريق (دادة) المكتب كيسًا يحوي ٣ قراطيس بسكوت. ضحكت من قلبي، وتورّدت الدنيا في عيوني، وشعرت أن الحياة تحمل على متنها أناسًا تذوب الدنيا لعذوبتهم، وفهمتُ بأن هذا الجدّ الطيّب الذي لا يبالي بوجوده أحد، ولا يعرف اسمه أحد، يسعده السؤال، وأنه لا ينبغي أن أبخل بشيء هكذا أبدًا. بعدها بعدّة أيام، كنت أمشي في الممر الطويل مستعجلة، أحمل ملفات تعبت في تصنيفها، فوقعت من يدي وتبعثرت في الأرض. ولأن ترتيبها كان يتطلب وقتًا، جلستُ على الأرض، وشرعت في التصنيف بسرعة وقلق لألحق ما سيفوتني. رآني على تلك الحال، فلملم أوراقي هو معقوف الظهر، ووضعها على مكتبه الذي سقطت أوراقي على مقربة منه، وأمرني: رتبيها من على مكتبي ريثما أذهب لأصلي، لا يجوز أن تجلسي على الأرض هكذا، وأنا بدوري كنت أذوب رغمًا عن بقية تفاصيل يومي التي تجعل كل شيء في يتحجّر.

شخص آخر كان يصنع يومي ويجعلني أضحك من قلبي هو :سولة، الدادة التي تعمل في المكتب. امرأة خمسينية أندونيسية خفيفة الظل طيبة القلب، تحب الجميع ويحبها الجميع، وتعرف أخبارهم وتفاصيل حياتهم، ولا تتوانى عن إخباري بكل شيء يخصهم، وأنا أضحك طبعًا، وأحبّ ذلك. تساعدني سولة كل يوم لإيجاد مكان آكل فيه، وكان ذلك أول المواقف التي خلقت الثقة بيننا. عندما أحضر حقيبة الأكل بجانب الميكرويف وأخرج منها غدائي تسألني بصوت يسمعه أبعد مكتب: إيش طبخت أمك اليوم؟ وأخبرها، فتعلّق بأي جملة تخطر على بالها. أحمّيه، ثم أشرع في دوامة الحيرة التي تتكرر كل يوم: أين آكل. ولأنني جربت أن آكل في مكتبي ووجدت انتشار الرائحة محرجًا، أنا التي تكره روائح الطعام التي تخرج من غير طعامي، كنت آكل بإشارة منها في أماكن ليست معدّة للأكل، وعندما أرفض أن أذهب هناك خوفًا أو حرجًا، تقول: على مسؤوليتي. اذهبي هناك وأنا سأحضر الأكل. أذهب هناك وأنا أرجو أن لا تتلقفني الأعين حتى تأتي هي بأطباقي. آكل وأنتهي، وأحضر الأطباق مستعجلة إلى المطبخ، فترمقني بنظرة انتصار ورضى لأنني أكلت مرتاحة في مكان منعزل كما كنت أريد، وأن المهمّة نجحت دون أن يكتشف ذلك أحد. أبادلها النظرة وأنا أضحك، وأظن أن من يلحظ نظراتنا المتبادلة تلك يظن أننا قمنا بجريمة ما. تقوم سولة كل يوم بتحضير شاهي بالنعناع لي. أذهب بشكل آليّ إلى المطبخ لصنع كوبي كما أفعل في المنزل، فتخبرني بأن أعود إلى مكتبي لأنها هي ستحضّره لي. ثم تنسى، وتحضره بعد نصف ساعة، أو ساعة. عندما أنتظر شيئًا أو شخصًا، أذهب هناك وأجلس معها لنتكلم. تحكي لي وأحكي لها. تسألُ وأجيب، وأنا أعرف أن هذه المعلومة سيدري بها كل شخص يعمل في هذا المكتب. تحكي عن أطفالها والعائلة الحضرمية التي كانت تعمل عندها، وتتلفظ بألفاظ مضحكة على لهجتهم، وأحكي لها عن الجامعة ومخاوفي عندما يكون بانتظاري شيء ما.. مخيف. عندما تراني مهومة تقول: أنا زي أمك، فضفضيلي. فأفضفض لها، لأجد الاستفهامات تحوم حول عينيها وأنا أشرح تفاصيل معقّدة، فأختصر ذلك بأن أسألها أن تدعو لي أن يمضي الأمر على خير، فتدعو وهي مقطّبة الجبين، مهمومة بهمّي. عندما أنتظر محاميًا طال حديثه مع آخر، وتراني من حيث هي وأنا أنتظرهما حتى الملل، تذهب وتدقّ عليهما الباب، وتخبرهما بأن يختصرا، لأن هناك من تنتظر، وأنا أشير لها بيدي أن لا داعٍ لذلك، ولكنها تستمرّ، فينهون حديثهم لأجلي. أدخلُ إلى المحامي وقلبي يفيض امتنانًا إلى هذه المرأة التي تيسّر أموري وتعتني بتفاصيل صغيرة تهمني كما لو أنها أمي. ودعتها قبل الأمس بحضن سريع، بعدما ناولتها الفهرس لتعطيه للعمّ السوريّ الذي مشى مبكرًا قبل أن أسلّم عليه. لها وحدها سأشتاق، هذه الجنديّة الخفيّة العظيمة التي كان أيامي تحلو بكلامها وحبها.

أما البقية، رؤسائي الثلاثة في العمل، فكانوا رائعين جدًا، وكرماء جدًا بأوقاتهم ومعلوماتهم معي، حملوني مهام حقيقية جدًا، وألقوا بعبء ثقتهم وإيمانهم عليّ، وكنت أحاول أن لا أخذلهم. أشعر بالانتماء لكل واحد فيهم، وأحب الفرصة التي سنحت لي بالتعامل معهم. كانت فرصة ذهبية ومثالية في حياة كهذه أن أحظى بأمثال هؤلاء في أوّل منصب جادٍّ جدًا أشغله في حياتي. أعني، الناس عادةً لا يحظون بمدراء رائعين إلى هذا الحدّ بهذه السرعة، ولكن الله كان، كما هو دائمًا، جوادًا معي بخصوص هذا المسألة. كنتُ أسأل عن كل شيء، داخل العمل وخارجه، وكانوا يجيبونيي ويستقبلون كل ذلك بحفاوة أحرج منها. فهمت فصلًا كبيرًا من الحياة بفضلهم، ورأيته بعيونهم، ورغم انزعاجي أحيانًا من ثقل الثقة التي ألقوا بها عليّ، كنت أشعر في ذات الوقت بالامتنان لأنهم دفعوني للخطو إلى تلك المرحلة. غادرتهم قبل الأمس فيزيائيًا، أي أنني سلمتُ مكتبي وحاجيّات العمل، وودعني المدير الكبير بوقفة وكلمات جيّشت مشاعري مثل: "غيرتِ نظرتنا للمتدربات"، "لكِ مستقبل واعد في المهنة"، "قمتِ بعملك على أكمل وجه"، "تحمّلتِ أشياء تفوق طاقتك"، أنا التي كنت دائمًا أشعر معه بالغباء والتقصير، ها هو ذا يقف لأجلي ويغمرني بلطف ما توقعته أن يصدر منه تجاهي. تعقّد لساني، وشكرت بخجل، وخرجت. رفض مديري الثاني أن أغادر قبل إتمام المهمة التي وكلها لي، ورغم انزعاجي ومحاولات سولة، أصرّ على موقفه، وبرّره بأنّه لن يحسن أداء ذلك غيري (أشكّ)، فذهبتُ محمّلة بكتب تعينني على أداء تلك المهمّة عن بعد فيما سيتقدم من أيام، وودعني بكلمة "بدّعْتِ" أسعدتني، هذا الذي ما شكر عملي إلّا مرة أو مرتين في حياته بكلمة (شكرًا) وحيدة، مرفقة بجملة تحوي أمرًا لتعديل ما فعلت.

غادرتهم قبل الأمس بقرار سريع اتخدته خلال يومين، فأنا قبل أن أفكر في هكذا قرار كنتُ أنوي أن أكمل كل الفصل الدراسيّ معهم؛ لأنني أحببتهم وأحبوني، ولأن هذا المنصب صعب المنال، ولأن الفرصة متاحة، ولأنّني انخرطتُ في أشياء يصعب معها أن أخرج يدي منها فجأة،، ولكن لأهداف أكبر وضعتها قبلًا، وراجعتها مع نفسي الأسبوع الماضي، تتعلق بالمستقبل والطريق الذي أودّ أن أشقّه فيه، ولأنني صرت خرقة بالية منهكة من اتحاد الدراسة والعمل على وعيي وتركيزي وصحّتي، ولأن قلقي صار يكبر قدرتي على استيعاب ما يصير حولي في هذي الحياة، قررتُ أن أتوقف، وكان القرارُ صعبًا، ولكنّي أظن أنه صائب. غادرتهم وأنا لا زلت أحبّ أن أكون هناك، وأنا ما زال فيّ نفس، وما زال فيهم سعة، لم يضق أحدنا بالآخر.. كان وداعًا حلوًا وعذبًا، سريعًا ومفاجئًا نعم، ولكنه جاء في وقته. ودعتهم لهدف يسمو على نفوري منهم أو نفورهم مني، هدف يخصني، ويخص السبب من وراء وجودي، وكيفية وجودي، مما جعل الأمر يمر هونًا على كلينا.

أنا الآن في إجازة، من عملي وجامعتي، لأعيد التفكير في كل شيء، ولأقوم بعمل ما تراكم عليّ من تكاليف الجامعة التي أدرتُ لها ظهري مع فترة التدريب. متحمّسة للتخرّج بقدر ما أنا قلقة، كل خطّة أرسمها يبدو أنها لا تتسق مع مزاج الحياة، ورغم أنني أخطط منذ أول يوم في هذا العام، إلا أنه يبدو أن القدر سوف يُعمل خطته التي أجهلها في نهاية المطاف. وأنا.. أتعلمون؟ لستُ أبالي. المهم أن تشبه خطة القدر إحدى خططي الخمسة، أو الستة، أو العشرة؛ أن لا أضيع في دوامة الحياة الرتيبة وداخلي يشعر بالعبث، أن لا أعلق بالعمل في مهام لا أؤمن بجدواها حدّ أن قلبي يتوقّف عن التفكير في مايظنّه مهمًّا، أن أتعلم دائمًا، وأعطي دائمًا، وأؤمن بجدوى ما أفعل.