الاثنين، 22 أكتوبر 2018

حرائق

انتهيتُ للتوّ من فيلم Deap Poets Society الذي أوقظ كل شعور كنت أسعى حثيثًا في الأيام الماضية إلى إخماده. كانت مشاهدته فعل تمرّد؛ إذ أطلقت عهدًا على نفسي بصوت عالٍ أن أنتهي من المهمة المملّة التي كان ينبغي عليّ فعلها قبل أن ينتهي اليوم، ولكنني بحركة تسلل، فتحت الفيلم بدلًا من ذلك. ولأن هذه المدونة هي فعل تمرّد، أتيتُ. الساعة الآن ١ صباحًا، بعد الموعد الذي ينبغي أن أذهب فيه إلى النوم بساعة؛ الموعد الذي وضعته في جدولي الشخصي، الجدول الذي ما التزمت بما أكتبه فيه يومًا، ولا أدري متى سأفعل، ولا أدري إن كان ينبغي أن أفعل. الانضباط، ووضع الأهداف، والالتزام بها، أمر يجب حدوثه لعبور هذه الحياة، أليس كذلك؟

دعوني أحدثكم عن البكاء. هذه الأيام هي أيام البكاء.. هي الأيام التي من أجلها خلق البكاء. ما عادت الدموع شيئًا يندر حصوله حتّى تختصّ به المناسبات التعيسة، إلا إن كانت أيامنا هذه كلها تعيسة، وهي كذلك؛ إذ ما تكون أيامنا التعيسة إن لم تكن اليوم، وكل يوم؟ لنعترف. نحن نعيش أسوأ أيام التاريخ. هذه الأيام هي الأشد سوادًا وحلكة وظلامًا ودمارًا، وأكثرها كبتًا وغمًا وهمًا، وصرخات لا تخرج، وأحزان لا يعبّر عنها، ولا يجوز التعبير عنها، ولا يمكن التعبير عنها، ولا يمكن الصراخ بها، فكل ما يمكن هو البكاء، والصمت، وقتل الصوت الصغير الذي يصرخ: هذا ليس صحيحًا!؛ إذ لا يمكن أن يسمح له بالحياة، فنحن نعيش.. أسوأ أيام التاريخ، والصراخ يا سادة، الصراخ العاديّ، هذا الفعل البشري، في أيامنا هذه، لجريمة.

أشعر أنني أعيش داخل كهف، داخله كهف، داخله كهف أكثر ضيقًا، داخله كهف يمتلئ بحجارة حادة تحيط بي من كل جانب، حتى إذا ما حاولت تحريك رأسي للنظر، أو صدري لأتنفس بشكل أفضل، سأموت. ستخترق الحجارة جسدي كسكّين، وسأموت. ينبغي أن أبقى جامدة هكذا، أن أنسى أنني إنسان، كائن، حيّ، يفكّر، ويشعر، ويحبّ، ويتوق، ويتمنّى، ويحلم، وتضيق به الأماكن الضيّقة، وتحفل به الأماكن الواسعة، ويودّ لو يجري فيها، أو يطير، أو أن يمدّ يديه وهو يجري كما لو أنه يطير، ويرى، ويسمع، ويتحدّث، ويصرخ، ويقول ما عنده دونما خجل، ولا خوف، لأنّ عنده رأي، وموقف، ولأنه؛ إذ يملك رأيًا وموقفًا، فإن ما عنده يستحقّ أن يقال. أن يكون. أن أكون. أريد أن أكون. كل ما أريده هو أن أكون. أن لا أكتفي بتلك الفتحة الضيقة في الكهف داخل الكهف داخل الكهف، أن لا أكتفي بمشاهدة الحياة عبرها، حيث أرى الناس.. يمشون، ويجرون، ويقفون، ويعيشون، ويتكلمون، ويخوضون ما يخوضون، وأنا، مع كل ما أشعر، وكل الحركة الصاخبة داخلي، أرى، وأسكن، لا أتحدّث، ولا أكون، ولا أتنفّس، ولا أحاكي، ولا أكون. أن يكون الكون ولا أكون. أن أكون في الكون دون أن أكون. أهناك ما يقتل الكائن أكثر من أن يكون كائنًا دون أن.. يكون؟ أن تجري الحياة في دمه، والمشاعر في قلبه، والأفكار في رأسه، والهواء في رئتيه، ثم يقف ساكنًا، دون أن يدع هذه المحركات تعمل، أو تحدث أثرًا، أو صخبًا، أو حركة في الحياة خارج الجسد؟ أن يجعلها تدور كالمجنونة داخله، حتّى إذا لم يمثّلها شيء في العالم الخارجي، احترقت، وأحرقت، وأكلت نيرانها كل ما كان، ثم بعد موت تعود الحياة تحرّك داخله ما احترق، ليعود، فيحترق. دورات سيزيفية لا تكفّ. تدور وتدور وتدور، تظنّ أحيانًا، هذه الأشياء التي تتحرك داخله، أن وجودها عبث، إذ لا يتحرك مع حركتها شيء، وهي.. متحفّزة، ومشرقة، وحيّة جدًا، تتوالد فكرة بعد فكرة، شعورًا بعد شعور، أملًا بعد أمل وحلمًا بعد حلم، ورغبة عارمة لفعل الكثير، وإحساسًا شفيفًا بكل ما يقطن هناك.. في الحياة الواسعة، وتوقًا للمحاكاة، والخلق، والتكوين، والكون، والبعث.. بعث الحياة في الأشياء، والأقوال، والناس، كل الناس؛ أولئك الذين لم تتحرك في داخلهم ذات الأشياء، لأنهم، ما امتلكوا ذات الثقب، أو فرصة للنظر من ثقب، والحياة، هذي الحياة، ملأى بمن هو بحاجة إلى أشياء تتحرك، وتُخلق، وتتكون، وتُبعث فيها الحياة، لتُصلح ما ينبغي إصلاحه، وتفعل ما ينبغي فعله، وتهدهد القلوب الحزينة، وتشجب الظلم، وتمسح على الآلام، وتجعل من غير الممكن ممكنًا، ومن المعطوب شيئًا متقوّمًا، وتفعل ما تفعل، مهما كلفها ذلك من عناء؛ لتعطي، وتعطي، وتمنح كل ما يمكنها أن تمنحه، لأنه ما من شيء يجعل تلك الأشياء تسكن، وتستحيل إلى زهور بدلًا من اشتعالها حرائق، إلا العطاء، والخلق والتشكيل والتكوين والبعث و...

أعيش أيامًا صعبة، من قبل أن تزداد الحياة صعوبة بعد الثاني من أكتوبر ٢٠١٨؛ فأن أوضع في مواجهة الحياة، وأن تكون المعادلة: أنا وحدي، في مقابل الحياة، دون أن أمتلك الأدوات، ولا الورقة البيضاء التي تسع اختراع إجابة من عدم، ولا قلم، وأنا مطلوب مني أن أحسم المسألة، وأن أوجد النتيجة، ثم تكون النتيجة هي النتيجة، وأنني، إن لم أرضَ بها، فربما لا أكون. 
من يدري من أكون، إن لم أكن، وإن كانت تلك الطريقة المجحفة هي الطريقة الوحيدة لأن أكون؟

من أكون؟

أكنت سأكون شيئًا إن كان الفضاء أكثر رحابة؟ أوَ كنت سأكون شيئًا إن كان هناك صوت يهمس، يد تلتقفني، مفتاح كونيّ ما يرشّح لي طريقًا؟ أوَ أستطيع أن أجد شيئًا كهذا في عالم لا فضاء له؟ أو أحتاج شيئًا سوى فضاء واسع أتنقل فيه كيفما أشاء، وأجد فيه ما أحتاج أن أجده؟ 

لا أريد مساعدة، ولا مفاتيح، ولا أصوات تهمس. أريد فضاءً حرًا كبيرًا، ولا وصايات. 

عشتُ صراعًا محتدمًا، ولا زلت، أشك بفعله كل ساعة بوجودي، وحقيقة أنني كائنة، وأنني إنسان، وأنني بحاجة إلى أن أكون، ورغم كل الفوضى التي يضعني كل ذلك فيها، فأنا أخلص في كلّ مرة، بعد انطفاء يشبه الموت، أنني هنا، وأنه ينبغي أن أتواجد أكثر؛ أن أمد ما أعطانيه الله إلى مداه الأقصى حتّى أكون، وأنني، لذلك، لا أطيق أن أوضع في مواجهة مع هذا العتاب: ألم نجعل له عينين؟ ولسانًا وشفتين؟ وهديناه النجدين؟ فلا اقتحم العقبة! إذ لا إجابة. أمتلك كل ذلك يا رب، وأمتلك محرّكاته، فداخلي نيران تشتعل وتلتهب وتشبّ وتتلظّى، تنهش فيّ بدلًا من أن تحرق وقودي، ولكنّني ما استعطت بها أن أتحرك. أنا ساكنة، وحزينة، بدواخل تحترق.

ما أضافته أحداث ما بعد ٢ أكتوبر هو الغضب. صرت أحترق فوق حرائقي. الغضب هو كل ما أشعر به. الغضب والكراهية والقرف. نيراني صارت تتضاعف، ودخانها يخرج مني على هيئة دموع. دموع، حياتي كلها دموع. أحزن، وأغضب، وأكره، وأحقد، وأقرأ كثيرًا عن كل شيء، كمجنونة، كأن عيوني مسمّرة على الشاشات، أقرأ وأبكي، وأشتم، وأزداد غضبًا، وغضبي يرتدّ من بوابة فمي إلى قلبي، فينهش فيه أكثر، وأنطفئ أنا. أحيانًا أفكر: إن لم أكن أعيش كما ينبغي للحياة أن تعاش، وإن كنت لا أقدّم للحياة ما ينبغي تقديمه، فإن وجودي لا طائل له، وربما كان الموت أجدى، لدواخلي المحترقة، والعالم.
ولكن.. ما أريده فعلًا هو أن أفرّ، أن أهرب، حيث الصراخ ممكن، والغضب، وأن يتم توظيفه والطاقة المشتعلة داخلي في أشياء ذات فائدة؛ إذ مهما حاولتُ أن أقتل ذلك فيّ، بكل الجداول ورسائل التقديم على وظائف لا أؤمن بجدواها، ولا أصر للحصول عليها، أجد مقاومة تلقائية، ورفضًا عنيفًا للموت حينما يمكن الوجود؛ ففي البال أحلام، وفي الروح آمال، وفي القلب أمانٍ، وأفكار لمشروعات، أكون فيها حرّة، وأنفذ بها ما أريد، وأكون فيها كما ينبغي أن أكون، وأطوّع العالم فيها تحت إمرتي، وأقدّم ما أودّ تقديمه، حتّى أسكن.. ليس بفعل الحرائق بل لأن دوري انتهى.

يأتي أستاذ Keaning في الفيلم إلى مدرسة لأبناء النخبة ليدرّس مادة الأدب الإنجليزي فيها بطريقة استثنائية، يحفز فيها الطلبة على امتلاك أصواتهم الخاصة، ويسرّ في آذانهم بأن السير وفقًا لما يمليه الجميع يحتمل الخطأ، وأن الفنّ هو ما يجعلنا بشرًا، ويحيي فينا ذاك الشيء الذي له القدرة على الخلق والإبداع، وأن الوظائف التي يسعى كل واحد إلى امتلاكها بعد تخرجه من المدرسة فجامعة مرموقة، ليست تغطي إلا أساسيات الحياة، وأنها ليست الحياة، وأن قياس أصواتنا المنفردة بالمسطرة لغباء، وتخلّف، وشذوذ، وأن الأصل هو أن يعيش الواحد فينا كما تملي عليه نفسه، وأن النفوس، أنفسنا، فيها من الكفاءة ما يجعلها تقرر كيف تشقّ طريقها الخاص، دون الحاجة إلى النظر إلى الطرق المرسومة سلفًا، وأن المشي في الطرق المرسومة ليس بطولة، بل انصياع أعمى إن لم نفهم الجدوى من المضي فيها، وأن الخير الذي نتركه في الناس لا يمكن أن ينسى، وإن تعاضد العالم لقتله وإبعاده. 

قال Keaning الكثير من الأشياء التي أؤمن بها وأتجنبها مخافة عدم القدرة على الحصول عليها، ورغبةً في الشعور بالانتماء إلى هذا العالم بالاستجابة إلى الصوت الذي ينقاد خلفه الجميع.

أنا خائفة، ورغم خوفي أحاول، ومع كلّ محاولة تتعسّر الحياة أكثر، وكأنها تريد اختبار الحد الأقصى الذي يمكن لي أن أصل إليه، ويبدو أنها لا تعرف أن كل هذا صار يضيق بي، حد الاختناق، وأنه ما عاد بي نفس لمزيد مقاومة، وأنني أتوق لمساعدة واحدة في الطريق، وتسهيل واحد يقودني إلى حيث ينبغي أن أكون، وأن أرى تقدمًا في خطواتي خطوة واحدة.. واحدة فقط، وقدرة أكبر على تجاهل هذه الظلمات التي تزداد حلكة في كل مرة أحاول أن أُقدم فيها، ومع كل مرة أقوم فيها بعد سقوط، وأن تعطيني بابًا واحدًا أطرقه فيفتح، دون كثير نزاع وإحباط وانتكاسات نفسية أنتشل نفسي منها بصعوبة لأعود فأطرق المزيد من الأبواب.

أن تكون الحياة البسيطة أمرًا ليس ممكنًا، كالحركة والتجربة والتعبير واتخاذ القرارات الصغيرة، كالكلام، والحركة،، وأن تكون الكلمة العادية التي يتم بها التعبير عن شعور إنساني محض فعلًا مجرّمًا ومريبًا، وأن تكون الأفكار مصدر رعب، والحديث مصدر قلق، والتفكير خارج الأطر المفروضة محرّمًا، هو موت قبل الموت، وأنا لا أرضى أن أكون ميتة وأنا موجودة؛ إذ الوجود حقي الذي منحه الله إليّ، وإن وجدت، فيجدر بي أن أكون موجودة، وأن أعطى الفرصة لأمارس وجودي، بكل ما أوتيت من وسائل أعبر بها عن ذلك،

أن لا أكون منطفئة، ولا خائفة، ولا ميتة، ولا جنديّة عمياء مأمورة، ولا أي شيء مسخ آخر.

هناك تعليق واحد: