السبت، 21 أكتوبر 2017

عن عيوني، وأشياء أخرى

أخيرًا صرت أرى بوضوح يكفي أن أميّز حروف الكلمات عن بعضها، وإن كنت لست أراها بوضوح تام، بعضها يدخل في بعض، أزيد حرفًا من خيالي وأنقص آخر.. لا زلت لم أتعافى بشكل كامل، إلّا أنني -يا الله!- صرت أبصر مرة أخرى. هذه مناسبة تستحقّ الاحتفال. لم أكن أعلم أن غياب الرؤية الواضحة مدة أسبوعين من الممكن أن يتسبب بكآبة وشعور بالعجز إلى هذا الحد، فقد أرتني الأيام أن كل شيء قيّم أفعله لعيوني فيه دور جوهري. كيف يعيش العميان ومن فقدوا أبصارهم؟ لا أستطيع تخيل ذلك. الحياة دون عيون أصعب/أشقى مما ظننت. هذا العضو العظيم المهيب، صاحب الفضل في كلّ فكرة وذكرى وصداقة وتصوّر ونشاط. ذاكرتي كلها صور، والذاكرة هويّة. العيون نافذة للعالم الخارجيّ، بها نجرّب العالم، نبصر بها المناظر الجديدة الجميلة، ندرك بها سعة العالم وضيقنا، امتداد الأفق ومحدوديّتنا، تلوّن الأشياء، أبعادها، أحجامها، مداها.. بها نقرأ عيون من نحب دون أن نكلّفهم عناء تشكيل المعنى في كلام، بها نرى شعاع أعينهم/قلوبهم أو خفوتها، دورانها عندما تجول في بالهم فكرة، أغوارها العميقة عندما تسلبهم من اللحظة ذكرى. يا حبيبتي يا عيوني!

قمت أخيرًا بعمل عملية (ليزر سطحي) لعيوني للاستغناء عن نظارتي الحبيبة الأثيرة الزرقاء الجميلة؛ وهي العمليّة البديلة عن (الليزك) لمن لا تسمح لهم تضاريس أعينهم بإجرائها، وقد كانت أمرًا شاقًا لجسدي ونفسي، مررت بأشياء أكرهها ولا أودّ استعادتها في ذاكرتي ما حييت؛ رغم أنّ تلك الأوقات الصعبة فتقت في بالي أشياء، وحثتني على التساؤل، وإيجاد إجابات، وتفكيك بعض الألغاز في حياتي وحياة آخرين. كل موقف صعب غربلة، وكلّ غربلة إعادة ترتيب، سد للفجوات، تفكيك للأشياء الملتصقة عبثًا، تنظيف وتنقية. صعبة هي الغربلة، جذرية هي نتائجها، ولا تعود الأشياء بعدها كما كانت، ورغم كل شيء لست أندم حصولها، وما حصل وأن ندمت حصول غربلة ما؛ ما دامت الأشياء بعدها تصير حقيقية أكثر، والغبار المتكدّس بينها ينفضّ، ويترك المكان من بعده خاليًا أي نعم، ولكن لامعًا، يعكس الأشياء كمرآة، ومستعدًّا لاستقبال جديد.

هناك الكثير ليقال..

هناك شعور ما يراودني بجنون، أكرهه أو أحبه، لا أعرف، ما أعرفه هو أنّني أكره أنه يحبسني، أو أنني أحبس نفسي داخله، ولا أظنّ أن ما أفعله يصحّ بأيّ شكل، ولست أظنّ أن لكل خبراء علم النفس عذرًا يستطيعون إيجاده لي؛ فاجترار الموقف بهذه الطريقة، وتقمّص الشعور المصاحب له كما لو أن الموقف يحصل للمرة الأولى- جنون كامل، رغم أن قدرتي على استعادة فترة زمنية قصيرة -حصل بعدها ما يكفي لتشويهها في ذهني-؛ تدهشني وتجعلني أعجب من نفسي.
أنا من أولئك الذين يؤمنون بأنّه للتخلص من حالة ما، أو شعور ما، أو فكرة مزعجة ما، ينبغي على الواحد فينا أن يجعلها تمر، أن لا تصطدم، بل تعبر، لأن عبور شيء لا يتمّ إلّا من خلاله.. أسمح للأمور تجول عقلي دون أن أدفنها، وأنا أكرر على نفسي أن المسألة مسألة وقت، وأنّ مصير الوقت العبور، وأن كل ما يصاحبه سيعبر وينتهي به المطاف خارجي، وصرت بهذه الطريقة لا أخاف من أحد، لا المشاعر الكريهة ولا المواقف السّيئة، ولا أمنع الذكرى التي أود نسيانها من تكرار عرضها في خيالي قبل النوم وبعد الاستيقاظ وبداية أوقات الخلوات، وذلك ينجح دائمًا، ويجعلني صلبة لا أهاب، إلا أنني صرت أظنّ أن في الأمر خلل..

بين الحبس داخل وهم الماضي، وترك الذكرى تجيء حتّى تعبر وتنتهي: شعرة دقيقة لم أفطن لها إلّا متأخّرًا.صرت أشعر أنني أسيرة للفكرة، حتّى أنني أجترّها إن لم تأتِ في موعدها، أو لم تجِئ بذات الكثافة المعهودة، رغم أنّني أكرهها وأمقتها وأصلّي لنسيانها،، كعبد تعوّد على عبوديّته حتّى أنه لا يطيق من بعدها الحريّة. أشعر أنّني ألِفتُها حتّى أن اليوم الذي ينتهي دون استعادتها يمرّ غريبًا، وإلف الشيء الذي ينبغي أن تنفِر منه خطير.
صحيح أن كثيرًا من المشاعر التي تراودنا تأتي دون إذن أو استعداد، إلّا أنّ الإرادة تتدخّل على حين غفلة وتمسك بالرّاية، وما دمت لا تراجع نفسك كلّ يوم، ستأخذ بيدك إلى حيث تكره، وستكون صاحب القرار في ذلك. كل شيء قرار. حتّى الشعور السّيئ في مرحلة منه يصبح قرارًا، والوعي به يجعلك تتركه حينما يتركك، لا أن تكمل مسيرته من بعده وهو الراحل الراحل.

 أحيانًا، يكون اجترار المشاعر وعلكها على أمل أن تفقد طعمها وتموت، يجعلها -بدلًا من ذلك- تكتسي ألوانها وتتبهرج في حماسة بالغة لعيش الدّور مرّة أخرى. أحيانًا، الاجترار المتكرر/المفتعل للشعور يجعله ينتقل من تأقيته إلى ديمومته.. تلتصق المشاعر الّتي تدعوها دون مقاومة بغراء، ظانّةً بأن إتاحتك لها بالجلوس مرات ومرات هي دعوة مكوث أبديّ. تفرد شباكها وتأخذ مكانها، تلتحم بجدار القلب وخلايا الذاكرة، وتصير جزءًا لا يبرح خيالاتك وأحلامك وحكاياك. ربما تكون إتاحة الشعور للمجيء مخاطرة بقدر ما هو كبته.

مرّ بي موقف سيئ نتيجة العمليّة التي حصلت، أمر لا دخل له بصلب العملية ولا الألم الجسديّ الّذي خلفته، إلّا أنه كان نتيجة ممتدّة ما حصلت إلّا بحصولها، تألمت بسببه بطريقة حاولت إخفاءها حتّى عن نفسي؛ لأنّه خلّف فيّ ضعفًا أستحي/أخاف الاعتراف به، ترك فيّ جروحه وآثاره التي لم تجعل الأمر يمرّ هونًا ولا عبورًا، إلّا أنّها، لثِقِلها الذي لا يُحتمل، فتقت في ذهني ووعيي أشياء. اتّبعت  هذه المرة استراتيجية لم أفقه كنهها إلا بعدما انتهت ونظرت إليها من فوق. ما فعلته هو أنني حينما شعرتُ بما شعرت، قمت بتجريد الموقف، واستخراج الفكرة، والبحث فيمن حولي عمّن يمرّ بذات الحالة، ثم البحث عن حلول ممكنة لتفاديها. كنت أحاول أن أراها من زاوية أبعد، أكثر حياديّة وموضوعية، لأعرف حجمها الحقيقي وأسبابها الحقيقية، وأجيب عن الأسئلة: هل أنا المتسببة في حصوله أم هو أمر عام وطبيعي؟ هل هي مرحلة أم حالة؟ كيف يمكن لها أن لا تتكرر مرة أخرى؟ ما الممكن والمتاح لصنع واقع أفضل؟ حاولت أن أُسكت الصرّاخ داخلي بالبحث عن إجابات، لأنّ المعرفة دائمًا حل. المعرفة ماء بارد شافٍ، والألم اشتعال، وإدراك كنه هذا وذاك يتطلب وعيًا، وحيادًا، وموضوعية، وجرأة للإقدام على الاكتشاف، وهمّة تخرجك من صلب الألم إلى اتساع الأسئلة. اطّلعت على مواد علمية متعلّقة بالأمر في الإنترنت، قرأت عن حالات، شاركني البعض مشاعرهم وشاركتهم، فتحوّلت المشكلة من موقف مؤلم إلى فضول متّقد، يبحث عن مشكلة حقيقية ويودّ معالجتها، مشكلة مجتمعية لا فردية، عامّة لا خاصّة، تتدخل فيها عوامل خارجية وعوامل داخلية، عوامل تاريخية وعوامل اجتماعية.. صارت المبادرات لحل المشكلة في ذهني تتداعى، أشارك الأفكار من أعرف ويهتمّ، حتّى لا تطير، حتّى لا يتلاشى الحماس دون صنع حل، وانتهى بي الأمر من شعور سيئ إلى رغبة عارمة في تحسين الواقع، وأعجبني ذلك. التجريد، والنظر بعيون بعيدة، والمعرفة.. هذه الأشياء الثلاثة هي أسلحتي الجديدة لتجاوز المشاعر السّيئة، ولستُ أظنّ أن هنالك من بعدها ما له القدرة على إسقاطي.

لطالما آمنت بلا جدوى المنافسة، وزيفها الّذي يجعل الفوز أهم من كل شيء. يقول Peter Thiel صاحب شركة PayPal في محاضرة له على يوتيوب اسمها Competition is for loser، أن خطورة المنافسة تكمن في أننا ننسى في خضمّها الأسئلة المهمة الّتي ينبغي أن نجد حلًّا لها، ويبقى سؤال الفوز هو المتصدّر الوحيد. الفوز، أيًّا كان نوعه، هو انتصار للذات، وطرح السؤال الحقيقيّ هو انتصار للحقيقة، وسعي صادق لجعل العالم مكانًا أفضل، وترك أثر، والمساهمة في تحريك عجلة الحياة نحو الأمام. في العام الماضي، شاركتُ في مسابقة دوليّة اسمها رنّان في الجامعة، وشكلُ المشارِكات فيها كلّ عام مبهر ولامع من الخارج ويُسيّل اللعاب للوقوف في موقفهم. شاركتُ، دون قصد أو خطّة. اختاروني فشاركت، هكذا ببساطة، وكان الأمر.. كارثة. ما كان يقرصني ويأكلني من الداخل في كل مرحلة من مراحل المسابقة تلك هو الشعور بالعبثية. كل التضحيات، كل الأذى النفسي والجسديّ والاحتكاكات الكريهة مع بعض البشر، لأجل ماذا يا ربّي؟ لحلّ سؤال وهميّ وضع لغرض التنافس؟ للحصول على اسم ما،، لقب ما؟ ما من هدف عالٍ كبير نبيل يجعل الصعوبات الّتي تواجهني في طريقي تهون لتحقيقه. يقولون أن هناك "مهارات" و"خبرات" من نوع مميّز يتعلمها من يشارك في مسابقات كهذه، ولكنّني لم أتعلم أيًّا منها، أو لنقل، ما كان الأمر يستحقّ خوض كل ذلك لتعلم بعض الأشياء التي يتعلّمها كل ساعٍ إلى شيء ما. ما تعلمتُه هو كيف أشعر بالعبثية في كل خطوة، وأن أحاول أن أقنع نفسي بأن الوقت والجهد الضائعين ليسا ضائعين تمامًا، لأنّه لا بدّ أن تكون هناك جدوى.. أعني، لا بدّ أنّني أتعلم شيئًا من خلف كل هذه المعاناة! ثم عندما أذهب لأنام، تشع الحقيقة أمام عيني ساطعة فاضحة، ولا مفرّ: أنا لستُ أفعل شيئًا ذو معنى. أقرر الانسحاب في الصباح، لأصحو متأخرة وأذهب إلى الجامعة جريًا، دون أن أمتلك الوقت الكافي لاتخاذ القرار، وتستمرّ حلقة العبثية حتّى ننتهي،، نحصل الجائزة، يشيد بنا الكل: الجرائد وحسابات مواقع التواصل.. تصلني اتصالات ومباركات لا تنتهي، أذهب إلى الجامعة فيحتفون بنا بكعكة كبيرة مكتوبة فيها أسامينا، وشهادات، وباقات ورد كبيرة.. كبيرة جدًا، و؟ ثم ماذا؟ هل هذا هو المجد الّذي يجري الكلّ خلفه؟ شكرًا، لا أريده. وقتي ضاع، عمري ضاع في دوّامة خالية من المعنى، تنتهي فتخفت، ويخبو كلّ شيء. المنافسة هي الشيطان الّذي يغوي بني البشر للسعي خلفه على حساب أداء مهامهم الأساسية. اجرِ وراء لقب ذو قيمة اجتماعية عالية، واترك فعل المهم. اسعِ خلف انتصارات ذاتك، افرح بسقوط الآخرين لتكسب أنت، زاحمهم لحلّ مشكلة واحدة صغيرة يتسابق عليها الكل، واترك ملايين المشكلات التي لا يدير لها أحد وجهه، لأنه ما منافسة عليها تجعل الحصول عليها لذيذًا.. ما من أحد ستتسلق فوق ظهره حتّى تصل. ما من لقب لامع ستحوز عليه، ما من جرائد ستحتفي بك، ما من جماهير تترقّب فوزك. هذا العالم مجنون! رجاءً، تفرّجوا محاضرة Peter Thiel لتفهموا ما أقول.

كتبتُ ما كتبتُ على جلستين منفصلتين على غير العادة. استعمال الكلام المكتوب لتفريغ الأفكار دون استعمال ذات الوسيلة للحصول عليها، يجعل الأمر شاقًا بعض الشيء. أشتاق القراءة، أكره هذا الغبش الذي يجعلها غير مريحة. آه يا عيوني عودي!

الاثنين، 11 سبتمبر 2017

عن الحج، وفقدان الذات واكتسابها.

صباح الخير أيّها العالم البديع. السّاعة ٨:٣٠ صباحًا، وأنا مستيقظة، أتناول فطوري وأقبل على صفحة إلكترونيّة بيضاء لتفريغ رأسي، أليس ذلك رائعًا؟ أشتاق هذا المكان، وكنتُ أنتظر اللحظة الّتي أقبض فيها على المعنى كاملًا من كلّ ما كان يحصل حتّى آتي.. كنت أنتظر كرة الطّين حتّى تجفّ وتتماسك، ثمّ آتي لأرميها في الهواء هنا دون خوف من تفتتها.

كان العام الماضي عصيبًا بالنسبة إليّ، خضتُ في محنه وحيدة، سقطتُ وحيدة وقمتُ وحيدة، ولأجل ذلك فقط، امتلكت صلابة لا سبق لها وثقة مكّنتني من خوض المزيد. وصلت إلى مرحلة عالية من الاعتداد بالنّفس -بشكلّ إيجابي-، كنتُ أحبّ نفسي ومن حولي، أحبّ حياتي وكلّ الأقدار، لا أشواق تبعثر روحي ولا آمال توقعني في هاوية اليأس، وصلتُ إلى مرحلة متّزنة وناضجة بفضل ما مررت، وكنتُ أحبّ كل ذلك، وأظنّني كنتُ بحاجة إلى تجاوزها حتّى أعلو وأكبر.

في هذا الصيف، حصلت مواقف متتابعة عجيبة وجديدة عليّ، تتابع حصولها كالقذائف المصوّبة على وجهي، واحدة تتلو الآخرة، كلمة تتلو الكلمة، موقفًا يتلو الموقف، اندفعت بقوة تجاهي وأنا ما كنت قوية كفاية حتّى أصمد أمامها.. تلقّيتُ كلامًا ما حصل وأن سمعتُهُ في حياتي، ومواقف ما حصل وأن كنتُ مشوّشة أكثر منها في حياتي، وسوء تصرّف ما حصل وأن صدر مني مثيله في حياتي. تفتّتُ. كنتُ فتاتًا وكانت الريح قويّة كفاية حتّى يتوزّع فتاتي في أرض الله فلا أعود بعدها أعرف من أنا. فقدتُ ذاتي، وأنا أعني كلّ حرف عندما أقول ذلك، وكان الشعور غريبًا جدًا، وأستطيع أن أقول بأنّها المرة الأولى الّتي أفقد فيها ذاتي وأنساها بهذه الطريقة. ما عدتُ أعرف من أكون، ما أحب وما أكره، من أحبّ ومن أكره، لما أفعل ما أفعل، ما أودّ فعله، مالا أودّ فعله.. ما عدتُ أتذكّر حتّى آمالي وطموحاتي وخططي القريبة. نسيتُ كل شيء. لا كيان. جلستُ أيامًا وأنا على حالة البله هذه لا أملك تفسيرًا. عندما امتلكت القدرة على الكلام، هرعتُ إلى الشخص الكبير الوحيد الّذي أثق به، وحجزتُ معها موعدًا للكلام، وكانت لسوء حظّي مشغولة. من لطف الله وعجائبه الّتي لا تتناهى أن ساق لي شخصين من حيث لم أحتسب، جاءاني ولم أطلبهما، وبإصرار منهما حكيتُ، حكيتُ ما لم أتوقّع أن أحكيه لأحد، كنتُ ضعيفة وفارغة، وكانا متّكئين. غمرني حبهما وصدقهما في الرغبة بمساعدتي حتّى فتحتُ قلبي. كلامهما الّذي قالاه لي من قبيل "أنتِ تستحقّين" ما فتأ يطنّ في أذني. تذكّرتُ بسببهما أنّني إنسان، وأنّني لا أستحقّ ما حصل، وأنّني أستحقّ الأفضل، وأنّني لستُ الملامة في كلّ شيء، وأنّني طيّبة، وأنّ الطّيبة ليست عيبًا، وأنّه فليذهب العالم إلى الجحيم، وأنّ الماضي فات، وأنّني قيّمة، وأنّ الحياة لا تتوقّف على بعض النّاس، وأنّ الكلام المؤذي يمكن التّخلصُ منه، وأنّ النّاس ليسوا صادقين كفاية حتّى يعنون كل كلمة تخرج من أفواههم، وأنّه طز، وأنّ الحياة لا تزال طويلة وممتدّة وتحمل المفاجآت، وأنّ رفقتهم هي الكنز والسكن والمأوى، وأنّهم ما داموا موجودين في حياتي فلا شيء يهم، فهمها سقطتُ، بسندهم ذاك سوف أقف وأعلو، وجروح قلبي كلها ستستطيب. كانا مرآتين. رأيتُ من خلالهما المعاني كلّها، والحياة بأبعادها الحقيقّة، ونفسي الّتي نسيتُ. أعاراني ذاكرتيهما، فاستعدتُ بفضلهما مخزونًا معرفيًا يكفيني حتّى أُمضي به الحياة ريثما تتشكّل نفسي من جديد. أراجع كلامهما كتمائم.. في كلّ مرّة يتلو عقلي ما يزعجني، أتلو عليه ما قالا، فأسكُن. كان كلامهما سلاحي الّذي واجهتُ به تلك الأزمة، وسلاح الحبّ لا يصدأ، ولا يخذل.

منّ الله عليّ بالحجّ هذا العام، وكانت تجربة الحج من أروع التّجارب رغم غرابتها. كلّ شيء في تجربتي كان غريبًا، حصلت الكثير من الأشياء النّشاز، إلّا أنّه في آخر المطاف كان حجًّا، والحج رائع مهما حصل. الحج؛ هذا المهرجان العالميّ العظيم الّذي يتجرّد فيه الكلّ ويتساوى: الوجهة واحدة، والتلبية واحدة، والقلب متوجّه إلى ربّ واحد. الشعائر واحدة، وطرق تأديتها واحدة، والطرق الّتي يسلكها الحاجّ في الذهاب إليها واحدة، والعدوّ واحد، والحصى تأخذ من مكان واحد، وتجمع بطريقة واحدة، وكل قلب يلهج بالدّعاء منفردًا؛ فرغم الكلّ الّذي يذوب فيه الفرد، إلّا أنّه ينبغي أن يتفرّد بفلكه الخاص، يدعو، ويطلب، ويناجي، ويذكُر، في خطّ فريد ممتدّ من قلبه إلى السّماء. أحببتُ كلّ الشّعائر، واستمتعتُ بكلّ شيء، وكنتُ لا أفتأ أردّد على مسامع ماما "فعاليات الحج هذه تعجبني!". الحجّ كلّه فعاليّات، مهرجان عظيم غزير بالفعاليّات الجسديّة الّتي يحضر القلب فيها غصبًا ويخشع. قرأتُ قبل الحج الفصل الأخير من كتاب "الطريق إلى مكة" لمحمد أسد، وكتاب صفّة حجّة النبيّ -عليه الصلاة والسلام- "كأنّك معه"، وصرتُ أرى ما كان يقوله الكتابات في ما كنّا نفعل، وأستشعر، وكان ذلك.. رائعًا، وتجديديًا. استطعتُ بالحج أن أنقطع عن كل شيء، عن أفكاري القديمة وعاداتي السّيئة والدنيا بكلّ ما فيها، خصوصًا في أيّام الإحرام، حينما تجرّدتُ حتّى من المكياج والتزيّن والانشغال بشكلي، كنتُ بيضاء، مجرّدة سوى من بياض ردائي، متمنّية بذلك أن يعكس لونه على قلبي، أتأمّل تنوّع النّاس واختلاف اللهجات، صامتة، لا أعبأ بشيء، ولا أكفّ أدعو. أعجبني أكثر ما أعجبني في الأمر كلّه أن الحجّ عبادة جسديّة، فيها تحرّكات رمزيّة، وتوحّدٌ في كلّ شيء، وأنّه وإن كان كلّ ذلك لا يعطي معناه في آنه، إلّا أن انعكاساته على القلب عظيمة وراسخة. كان الحجّ آخر أركان الإسلام ومكمّلها؛ لأنّ به يحجّ المرء -والحجّ معناه القصد- إلى الله بجوارحه كلّها، والمعنى لا يتمّ في القلب ولا يتمكّن منه إلّا حينما يعيه المرء ويتحرّك إليه ببدنه. في حركة البدن تمكين للمعنى وتأكيد عليه، فالأفكار طائرة، والعقل إن نسي الفكرة مرّة، فهو لا ينسى الفكرة المصاحبة للفعل، والشعور المصاحب للفعل، وأفعالُ الحج كلها تحمل قيمة عظيمة من خلفها، تأسّيًّا بأفعال الخليل الحنيف: وقفة عرفة الشبيهة بوقفة يوم الحشر، الذهاب إلى مزدلفة وجمع حصى بحجم الحمّصة، وكلّ له في جمعه طريقة رغم أنّ الوصف واحد، المهمّ أن لا يغلو، ومن ثمّ التوجّه إلى منى لرمي عدوّنا الأكبر عند الجمرات باليد والحصى الّتي جمعناها، وتجربة رمي الشيطان باليد فريدة، وتمدّ صاحبها بالقدرة على التمكّن من وسواسه الخاص بذات الطريقة التي تمكن بها سيدنا إبراهيم على التغلب على إبليس حينما همّ بذبح ابنه، وإن اختلفت الطّريقة الّتي نرميه بها. عندما يتجسّد المعنى الّذي لا تفتأ تفكّر به وتتحدّث به أمامك، ثم تتّخذ موقفًا منه في عالم المادّة، فلن يبرح المشهد قلبك من بعدها، وستتذكر في كلّ مرّة تنسى فيها التعامل مع المعاني في عالم المعاني كيف تتصرّف باستعادة تلك الصّورة الّتي تصرّفت فيها في عالم المادّة. كان ونستون في رواية ١٩٨٤ يقول -فيما معناه- أنّه حينما ينسى أين يكون وماذا يفعل لصخب الأصوات الّتي تحيط به وتشوّشه بفعلها، فهو يتحسّس يده والأرض الّتي يقف عليها، ثم يتذكّر بعدها من يكون. كان لطالما اتّبعت منهجه في تذّكر نفسي والعالم من حولي بتحسّس المواد الدّالة على الأشياء والمعاني والأفكار، وهذا هو سبب هوسي بالاحتفاط بشيء من كلّ شيء، ومحاولة تخزين كلّ ذلك عبر التوثيق الكلاميّ، ومنهج الحج العظيم لترسيخ المعنى يفعل -ربما- الشيء ذاته.

بفضل ما أوحى لي به الحجّ من أهميّة للتحرّك البدنيّ، وعلاقة ذلك بما هو داخليّ وقلبيّ، هرعتُ بعد تجربة التّنقية هذه لترتيب الفوضى داخلي، وبدأ ذلك بأن حزمتُ عزيمتي لتصفية أغراضي وتغيير الغرفة وتبديل الأثاث، تلك العمليّة المؤجّلة منذ مدّة طويييلة. عكفتُ في المنزل ٣ أيّام دون خروج أرتّب فيها ما ينبغي. بدأتُ بدولابي، تناولت ملابسي قطعة قطعة، وأخرجتُ منها كلّ رداء لستُ أرتديه، أو ارتديته مدّة كافية حتّى يتمّ التّخلص منه. دائمًا أنا مترددة بشأن ما يخرج من دولابي، إلّا أنّني لم أفعل هذه المرّة، وتخلصت من الملابس الّتي لا أريد كما لم أتخلّص قبلًا. توجّهتُ بعدها إلى الرفوف، أخرجتُ كلّ ما فيها، نظفتها بسائل تمسيح وخرقة، وأعدتُ ما أردتُ إعادته فيها وأنا أدرك ما تحوي رفوفي الآن قطعة قطعة. انتقلتُ بعدها إلى مكتبتي ومكتبي، أخرجتُ كتبي كتابًا كتابًا، ودفاتري دفترًا دفترًا، وأغراضي غرضًا غرضًا، وخلال كلّ ذلك، كنتُ أصفّي أموري برمي الأغراض البالية الّتي تفيض عن حاجتي، ومسح الأشياء المغبرّة بسائل التنظيف، ومن ثمّ وضعها في حقائب الحزم، ووجدتُ خلالها أشياء ضائعة كثيرة، وأشياء كنتُ أظنّ أنها ليست عندي، وأدوية منتهية الصلاحية، بعضها سائح فوق بعض، مختبئة تحت الرّكام، وذكريات، ورسائل من صديقات، وبطاقات مشاركاتي في نشاطات مختلفة، ودفاتر قديمة جدًا كنت أوثّق فيها كل حرفه أسمعه في كل محاضرة أحضرها بشكل عجيب وسرعة عجيبة، ورسومات تنتظر أن تعلّق على الجدران.. هززتُ لها رأسي هذه المرّة وأنا أعدها بأنّها ستجد مكانها لأنني حسمت أمري للتغيير، وفورما يتجدّد الأثاث سأجد لها براويز حلوة تليق بها. استمعتُ خلال مهمّة الترتيب هذه إلى تلاوات قرآن عذبة وأغانٍ بتوصيات الأصدقاء، ولم أحبّ أيّ شيء منها كما أحبّ اختياراتي القديمة، وتعرّفت بسبب تتالي المقاطع بعضها تلو بعض -وأنا أرتّب- على أغانٍ أخرى حلوة أتوقّف عن الترتيب بسببها لأدرك ماذا تقول. أحببت كل شيء يتعلّق بالتّرتيب والتّفريغ، وأشعر أنّ داخلي ترتّب، ولا زلتُ أنتظر تشكيل الغرفة الجديد الّذي سأسرق منه فكرة عن كيفيّة تشكيل ذاتي.

فعل التّفتّت ذاك لم يكن شرًّا محضًا. أعطتني هذه التجربة المريرة فرصة لبدء صنع ذاتي من جديد؛ تحسّس الركام المتواجد فيها، تنظيفه، وتصفيته من كل ما لا أريد، ولولا تلك الغربلة ما كنتُ استطعتُ إدراك جوانب ذاتي كلّها. أشعرُ هذه اليومين بقوّة عجيبة، وتصالح ذاتي، وسلام، وجرأة كبيرة لمواجهة كلّ ما هو آت. انكسرت نظّارتي في أوائل أيّام الحج، وأظنّ تلك كانت علامة للإقبال على العالم دون نظارة ولا حواجز. ارتديتُ عدسات طيلة رحلة الحج، وعزمتُ بعدها على التخلّص من ذاك الحجاب الّذي أحتمي به من كلّ شيء خشية أن يظهر وجهي كاملًا على الملأ. كنتُ أحبّ النظّارة، وأعدّها قناعًا، ودونها أشعر أنّ الضّوء يخترق وجهي أكثر مما يجب، وأن الناس ترى من وجهي أكثر مما يجب، إلّا أنّني لستُ أشعر بذلك الآن، بل على العكس، أودّ لو أقابل النّاس بوجهي كاملًا، ولا أمانع أن تنساب دموعي صريحة على خدّيّ دون نظارة، ولا أن يرى أحدهم ما تتكلّم به عيناي دون نظّارة. أريد أن أرى العالم، ولا أكترث إن رآني هو، أو حاول اقتحامي، أو تجرأ على وجهي كلّه، فأنا حقيقةً، لا أبالي. أريد أن أتخلّص من كل الحجب وكل القيود الّتي لا أصْل لها، أريد أن أكون. أريد أن أترك شعري مفتوحًا دائمًا، أن أرتدي ملابس فاتحة، وعباءات فاتحة، أن أرتدي أشياء تحمل معنى، أن أرتدي حقائب جميلة مصنوعة يدويًّا، أن أرتدي فساتين أكثر، وتنانير أكثر، أن أبتسم أكثر، وأُقبل على الحياة أكثر، وأكون كما أريد أكثر.

هذه ستكون سنتي الأخيرة في الجامعة، ورغم تجاربي السّيئة معها، وكراهيتي لها، ولنظام التعليم فيها، إلّا أنّني أودّ أن أقضي آخر أيّامي فيها أنشر الحب والابتسامات، وأترك فيها أثرًا طيّبًا، فمهما يكن، فيها أناس طيّبون أحبهم وأخشى فراقهم. أريد أن أقضي وقتي الأخير محفوفة بهم، بعيدة عن غيرهم. أريد أن أسامح كلّ من آذاني وأبتسم في وجهه، أن أخبر المدرّسات المقصّرات أنهنّ مقصّرات كما كنت أفعل ذلك خفية، أن "أطنّش" الفصول الدراسية المملّة أكثر، أن أقصّر دراسيًا أكثر لأنّ معدّلي مرتفع كفاية، أن أجرّب النّوادي القليلة الّتي كنت أشعر دائمًا أنها بغيضة، ومحاولاتي للاستمرار فيها باءت بالفشل، أن أتذوّق أشياء جديدة من الكافتيريا، أن أمشي داخل الجامعة دون عباءة، أن أقول كلمة الحق بالفم المليان، لأنّه لا داعي للدبلوماسيّة ما دمتُ سوف أتخرّج وأرحل إلى الأبد، أن لا أشعر بالرغبة بالمشاركة في المنافسات الّتي تشارك فيها وفود الجامعة، أن أمكث فيها أكثر، ولا أهرب كفأر، فجدولي كخرّيجة سيمتلئ بأوقات الفراغ على أيّة حال. أريد أن أجرّب فرصة حبّها، فرصة حبّ كوني تلميذة في مؤسسة تعليميّة سعوديّة، والأهم من كل ذلك، أن لا أجعلها تزعجني.

الحياة يمكن أن تكون طيّبة، والسقطات فيها تتلوها قوّة ويتلوها علوّ، ولطائف الله تحفّ المؤمنين من كلّ جانب، "فكلي واشربي وقرّي عينًا" حتّى وقت المصيبة، ولا يضيرك أن تصومي عن الكلام وإلقاء الأحكام ريثما تستعيدين القوّة، ففعل ذلك حين السقطة شقاء وتكلّف، وهزّي إليكِ بجذع من يتناولك بحبه وحنانه، ويكون متكّأً وسندًا وعونًا للنهوض، فكما أننا نسقط ببعض، فإننا ننهض بآخرين.



الجمعة، 4 أغسطس 2017

عن الرّغبة في الشّتم، وشعري، وأشياء أخرى

أكتب عندما أكون ممتلئة.. ممتلئة بالمعنى، أو الفراغ، أو الأسئلة، أو الأفكار الّتي تكاد تجعلني أجنّ من فرط دورانها وتردّدها وتداعيها. الكتابة فيضان. عندما أكتب أفيض، أفيض بما يأبى أن يخرج على هيئة كلام. أنا أتكلّم كثيرًا، ولا ألجأ إلى هذا المكان إلّا عندما يحتبس الكلام الّذي لا يصلح للكلام، أو عندما لست أشعر بمزاج للكلام، أو عندما أودّ أن أتكلّم وما من أحد ينصت، فيستقرّ الكلام في رأسي حتّى يملّ، وأملّ، وأودّ لو أتخلّص منه حتّى أسمح لغيره بالدّخول. الكتابة تهوية، الكتابة كنْس، كنْس للكلام. الكلام فضلات.
 أنا عندما أكتب أستفرغ رأسي. الكتابة استفراغ. الكلام قيء. أنا أتقيّأ.

حصلت أشياء جيّدة كثيرة منذ آخر ما كتبتُ وحتّى اليوم، إلّا أنّني في مزاج سيئ، ولست أرغبُ بشيء الآن سوى تعلّم كلّ شتائم العالم، والصّراخ بها.

عندما يتدخّل أحدهم في شؤوني الخاصّة، وأنا ما أخبرته عمّا سأفعل إلّا احترامًا وتقديرًا لمكانته في قلبي وحياتي، وإجابةً لأسئلته الملحّة الّتي لا تنفكّ، فلستُ أتمنّى سوى أن.. أشتم شيئًا، ثمّ أقفل الباب في أوجه الكلّ، أيًّا كانوا، وأمارس الكذب، أو التّحفظ الزّائد، لأنّ الشّفافيّة الزّائدة هذه تجعل (أحدهم) يمتلك الجرأة لدرجة الصّراخ في وجهي لتغيير شيء ليس ذو قيمة في أمر يخصّني أنا، وأنا يا ربّي لا أحتمل التّطفّل، ولا أحتمل الصّراخ. فليذهب كلّ متطفّل إلى الجحيم، حتّى وإن كان دافعه الخوف، أو الحبّ. ارحمني يا ربّ! أتمنّى لو يعاملني العالم كامرأة كبيرة بالغة عاقلة عمرها ٢٠ سنة. أنا كبيرة كفاية، وأتحمّل مسؤوليّة أفعالي، أو أظنّ أنّني أفعل، المهم، ابتعدوا عن طريقي وإلّا.. شتمتكم.

أكره العبث، ولست أتجنّبه إلا لأنّني أكرهه، وأكرهه لأنّني لا أستطيع أن أقبض على المعنى فيه، ولا التنبّؤ بالّذي سوف يؤُول إليه. عندما تُرسل إليّ الرّسائل، وأصدّها، وأؤوّلها بكلّ ما لا يتناسب معها خشية أن أمضي في أمر عبثيّ، إلّا أنّها تنهال عليّ مرّة تلو مرّة حتّى يُتفَوّه بها صراحة، فتتوغّل فيّ دون إرادة منّي، تقتحمني دون مقدّمات، تمطرني، تحمّمني، حتّى يكون ليس من الأمر بدّ؛ فأتقبّل الأمر، وأعطيه فرصة، وأبتسم في وجهه، وأحسن الظّنّ،، ليختفي كلّ شيء، يرحل مع الرّيح، يتبخّر، يتلاشى، وأنا المخدوعة بفكرة الرّسائل ألعن حظّي وحيدة في الفراغ. هذا العالم لا يكفّ يدهشني. أريد أن أشتم أحدًا.

غبيّة أنا، لا أكفّ أتعجّل، لا أكفّ أكرر أخطائي، لا أكفّ أصطدم بذات الجدران، لا تكفّ رجلاي تنزلقان من ذات الأسباب، في ذات الطّرق، لا أكفّ أسقط في ذات الحفر. أكرّر أخطائي كبّبغاء.. ببّغاء أخطاء! هه. لا ألبث أطير حتّى أقع، لا ألبث أتكلّم حتّى أتفوّه بكلّ ما لم أودّ قوله، وعندما أصمت، أصمت عن كلّ ما ينبغي أن يُقال. صرت أخطئ الأهداف كلّها، أخطئ اختيار الكلمات، أخطئ التّعبير عن شعوري، وعندما أصيب مرّة، أتّخذ من إصابتي شعلة نفّاثة تجعلني أنطلق كصاروخ، أدفع بنفسي في كلّ الاتّجاهات كمجنونة، ألقي بها من النّافذة وأغنّي لكلّ آمالي "ومن الشّباك لرميلك حالي"وما إن أرتطم بالأرض حتّى يتهشّم كلّ مافيّ، فلا أملك حينها سوى أن أبكي وأندب حظّي وأنا أحاول أن ألملم شذرات الأمل المفتّتة لأنّني.. لأنّني لا أكفّ آمُل. الأمل فكرة مجنونة، الأمل هاوية تغطّيه ستارة توحي إليّ بأنّ كلّ شيء -إن مضيت خلالها- سيكون على ما يرام.. وأنا دائمًا مخدوعة بالأمل، مخدوعة بفكرة التّحليق والمشي على الهواء، والمشكلة أنّني لا أكفّ! لا أكفّ أوقن بأنّني سأطير يومًا.

أمضيتُ يومي وحيدة جدًا، صامتة جدًا، لأنّ رأسي كان صاخبًا. خرج الكلّ وتركوني، وآه.. ما أسعدني بيوم صافٍ هادئٍ في هذه الإجازة الصّاخبة. أمضيتُ يومي على مهل، لم أتعجّل فعل أيّ شيء. قرّرتُ اليوم، أخيرًا، أن أضع قناعًا لشعري، تلك العادة القديمة الّتي طلّقتها منذ شهور لكثرة الانشغال وقلّة إيماني بأهميّتها. أوليتُ اليوم تركيزي كلّه على شعري، لم أكن أستمع لشيء وأنا أضعه على غير العادّة. مرّرتُ القناع (الّذي هو عبارة عن مادّة كريميّة) عليه خصلة خصلة، وفككت عُقدَهُ بأصابعي -دون الاستعانة بأيّ مشط- عقدة عقدة، وأنا ما أتذكر متى كانت المرّة الأخيرة الّتي تحسّستُ فيها شعري من أقصاه إلى أدناه بهذا التروّي. تحسّستُ فروته، داخله وخارجه، وأطرافه، وكنتُ سعيدة بذلك. شعرتُ أنّني كنتُ بذلك أتحسّس نفسي الّتي بعثرتها، وقسوتُ عليها، وحمّلتها لومًا ما كانت تستحقّه في الأيّام الماضية. كنتُ أستعيدُ شعوري بذاتي وأنا أتحسّسه، وأحاول أن أفكّك العقد الّتي تسكن رأسي من داخله في ذات الوقت الّذي كنتُ أفكّك فيه عقده الخارجيّة. قبل ٤ سنوات، كانت تتحدّث أ. أريج الطّباع عن العلاج النّفسي/الرّوحي الّذي كانت تطبّقه على ضحايا الحروب والأزمات.. تعيد إليهم تقديرهم لذواتهم وإحساسهم بها عن طريق مساعدتهم في استشعار المعاني الكامنة خلف الطّقوس الّروحيّة والدّينيّة الّتي يقومون بها. هي تنتهج ذات النّهج الّذي يسلكه فيكتور فرانكل، والّذي يؤمن أن النّفس المعطوبة بحاجة إلى ما هو فوق العلاج النّفسي، شيء يعبّئ الرّوح ويجيب على أسئلتها، كالأديان، تتّصل بالغيب وتشبع توقها، أي الرّوح، إلى المعاني الخفيّة وكلّ ما هو علويّ. كانت إحدى ما تفعله أ. أريج هو العلاج بالوضوء. تقول: عندما تتوضّأ، أنت تتحسّس ذاتك وتستعيدها. تحسّس نفسك وأنت تتوضّأ، وتذكّر أنّها موجودة، وأنّها تستحقّ. تحسّس وجهك، ويديك، ومرفقيك، وأنفك، وفمك، وشعرك، وأذنيك، ورجليك.. اغسل أعضاءك من الضّوضاء، تخلّص منها. اغسل أذنيك من الأصوات، اغسل فمك من الصّراخ، اغسل يديك من الدّماء، من المشادّات الّتي خاضت فيها، اغسل عينيك من المشاهد الّتي لا تحبّ. تخلّص من كل ذلك، اعط نفسك فرصة أن تصير جديدة،  أن تكون حرّة، وامضِ. كنتُ وأنا أضع القناع على شعري أتحسّسه وذاتي.. كنت أعيد بناء علاقتي مع نفسي وأرمّمها بذات الطّريقة. كنتُ أدرك ثقل وجودي مع كلّ شعرة، وأشعر بخفّته مع سقوط كلّ شعرة. كان وضع القناع فعل استرخاء وتجسير.

أؤمن بأنّ كلّ التّرهات التّجميلية الّتي تقوم بها الفتيات تحمل معانٍ أكبر من ذلك بكثير، تعيد علاقتهنّ بأجسادهنّ، وتجعلهنّ يحببنها على ما هي عليها، يتحسّسن تفاصيلها ويتعلّقنَ بها أكثر، فلا يجرؤن من بعدها على تغييرها بما هو زائف.. حتّى المكياج المتّهم بالتّزييف يفعل ذلك. أحبّ فقرة وضع المكياج وأعدّها مقدّسة، رغم أنّني لا أضع إلّا القليل، القليل جدًا، إلّا أنّني به أتحسّس تفاصيل وجهي، أحفظها وأحبّها، وأجعلها تبدو أكثر وضوحًا. الجسد في نهاية المطاف هويّة، جزء من هويّة، عن طريقه نعبُر العالم، وعن طريقه نعبّر عن الباقي من أنفسنا، وبه نقابل من نحب، ونحتضن من نحبّ، ونحفظ به أصغر التّفاصيل في من نحبّ، في أجسادهم، وبه فقط.. نقضي أوقاتًا حقيقيّة معهم، بالتّواجد الجسدي ذاته، وإن كان مجرّدًا من الكلام؛ المهم أن يكون ممتلئًا بالرّوح.

أخيرًا، شاهدتُ فيلم غبيًّا جدًا جدًا جدًا، يا الله، كان غبيًّا جدًا! كلّ الأمور الجيّدة فيه تحصل عن طريق الصّدفة بطريقة غبيّة، جعلتني أشعر أنّ الأمل هو أغبى شيء يمكن أن أفعله في حياتي، رغم أنّني أظنّ أنّه أراد أن يوصل رسالة معاكسة تمامًا. أكره الغباء، وأكره الآمال الزّائفة. أكره الزّيف، والمشاعر الّلحظيّة، والكلام الّذي لا يُطابق قلب متحدّثه، وكلّ التّرهات! أحيانًا حتّى.. أكره أن يمتدحني أحد فوق ما أستحقّ، خصوصًا وأنا في حالة تشبه الّتي أمرّ بها الآن.. حزينة ومفتّتة. عندما أخطئ وأكرّر أخطائي، لست بحاجة سوى للحب، لا المديح ولا الثّناء. أريد حبًّا وصدقًا. أريد من يزمّلني ويدثّرني، كالسّيدة خديجة، ويخبرني أنّني فعلتُ أشياء جيّدة كثيرة في حياتي، أن يعيد ترميمي دون أن أشعر، أن يريني ذاتي، أن يذكّرني بها، أن يجمع جيّدها الّذي  لا أستطيع أن أرى مع سيّئها الّذي لا أرى سواه. حصل قريبًا وأن لجأتُ إلى أحدهم وأنا في أكثر لحظاتي تفتّتًا وهشاشة، وما كان إلّا أن وبّخني، وأعاد القصّة بكثير تكلّف وتركيز على جوانبها الّتي ساءتني ابتداءً. رغم أنّني لستُ من ذاك النّوع الّذي يعرف ذاته عن طريق آخرين، إلّا أنّني كنت أكثر ضعفًا من إعادة النّظر في المبالغات الّتي قال. بكيتُ كثيرًا.. كثيرًا، وتأذّيت، ولستُ أعرف متى سأستعيد ثقتي في الآخرين من جديد.

أتمنّى أن تكون أيّامكم أطيب من أيّامي. لا زلتُ أتفاءل بالغد.. غدًا يوم كبير، وسأقابل فيه أناسًا أحبّهم، وأظنّ أنّني سأحبّ الحياة من بعد غدٍ أكثر.

سامحوني.. أنا في مزاج سيئ جدًا، وما كان أحد بجانبي حتّى أصرخ في وجهه، وخفت أن أتلفّظ بما لا يليق في تويتر، فجئتُ هنا. تصبحون على خير، وسلام.


الثلاثاء، 25 يوليو 2017

عن السّعي الصّادق، وإخفاقاتي، وأشياء أخرى

سأحاول فيما تبقّى من إجازة أن أوثّق ما يطرأ على بالي عند الجلوس للكتابة- بشكل أسبوعيّ؛ لأنّني أريدُ ذلك، ولأنّ أيامي صارت تزدحمُ باختياري بالتّفاصيل الّتي أحبّ أن أوثّقها، بخلاف أيّام الجامعة الرّوتينيّة الّتي أقضي الكثير من ساعاتها بشكل يخالف رغبتي واختياري. لتأخّر الوقت، وللنّعاس الشّديد، والصّداع النّاتج عن التّعب وقلّة التّغذية واضطراب النّوم في الأيّام القليلة الماضية، واجتماع كلّ ذلك في اللّحظة الآنية، فستتمّ كتابة هذا المنشور على جلستين، أولاهما تبدأ الآن.

كان يومي سعيدًا هو الآخر، ولا أظنّ أنّني سآتي هنا دون أن أكون مشحونة بطاقة سعيدة تشبه هذه الّتي تسكنني الآن، لأنّني من أولئك الّلاتي يستحلنَ إلى بكماوات حين الحزن، أو الخيبة، أو الشّعور باللّافهم، وأحبّ أن أحتفظ بذلك كلّه لنفسي، ولا أجرؤ أن أشاركه إلّا إن تجاوزته، وصار الأمر لا يعدو أن يكون تجربة شعوريّة ماضية، أو جزءًا من قصّة تنتهي بدرس مفيد.

 في الواقع، كانت أيّامي الماضية القريبة -بخلاف اليوم- عجيبة ومضطربة ومليئة بالبكاء الخفيّ والوجع غير القابل للقصّ. تجاوزتُ ذلك على كلّ حال، وإن كنت قد تسبّبتُ في حصول بعض الأشياء الّتي لا أفخر بها، والّتي أشعر أنّ شيئًا منها تشوّه إلى الأبد بشكل غير قابل للإصلاح أو التّرقيع. حصلت ثلاثة مواقف غبيّة جدًا، وكنتُ فيها خرقاء جدًا، ولم أكن أستطيع أن أردّد العبارة "كنت غبيّة، بس عادي" الّتي صرتُ أستعملها في العام الأخيرِ من حياتي لتجاوز المواقف المحرجة الّتي أضع نفسي فيها. بكيتُ، ورجوتُ القدر أن يسارع بالإتيان بغيرها من الأحداث حتّى أنسى، وأظنّ أنّ ذلك قد حصل بمجيء اليوم. كنتُ واهنة، ولا أستطيع الوقوف، ولستُ قادرة على مشاركة أحد، لأنّه ما من أحد سوف يفهم، وأختي صارت أبعد من مشاركتي تلك المواقف البلهاء، وتذكيري ساعتها بأنّ قيمتي لا تُختزل في موقفين أو ثلاثة في مقابل عمري الكامل. كنتُ مشوّشة، مشوّشة جدًا، أكثر من قدرتي على التفكير بشكل سليم. فقدتُ خلال أسبوع كيلوين من وزني اكتسبتهما خلال عامين، وصارت شهيّتي مسدودة عن الطّعام إلّا من لقمتين أجامل بها ماما كلّ غداء، ونومي مضطرب لا يستمرّ أكثر من ساعتي استغراق. من لطف الله أنّ إنجازًا ما تزامن مع كلّ ذلك، فزاحمت نشوة الإنجاز شعوري بالخيبة، وأقامتني وأنا في أكثر لحظاتي تفتّتًا وضعفًا.

أمّا بخصوص اليوم، فقد ذهبتُ إلى ذات المكان الّذي ذهبتُ إليه الأسبوع الماضي، حيث أكون بين الكثير من الفتيات الجميلات المتحفّزات لخوض غمار تجربة جديدة بكلّ جرأة وشجاعة. كنتُ الرُّبّان هذه المرّة.. كنتُ في مقام من تعطي، وترعى، وتقودُ، وتطرح الأسئلة، وتحرصُ على راحة الجميع، وتبتسم للكلّ، وتنتبه لملامحهم، وتلحظ رغبتهم غير المعلنة في الكلام، وتسعى إلى استخراج المعاني من الأفواه، وتمنحُ الكلام عناوين، وتُقلّب الكلمات بين أيديهنّ حتّى يخترن منها ما يناسب الفكرة الّتي تجول في رؤوسهنّ إن تأخّر خروجُها. كنّ سعيدات، وكنتُ. لا لذّة تعادلُ لذّة العطاء، خصوصًا لأولئك الّذين يحتاجون إليه، ويعلنون رغبتهم، ويفرحون بمجيئه، وأزعم أنّ لذّة العطاء الفكريّ تفوق ما عداها.. أن ترى من أمامك يتفتّح ويُزهر لأنّك منحتهُ فكرة، لأنّك فتحت له بابًا يلج به إلى عالم فسيح ما فكّر بوجوده من قبلك. أعربنَ في النّهاية،، في الوقت الّذي كنتُ أشعر فيه بالتّقصير والعجز عن تقديم ما هو أكثر، والخوف من خيبتهنّ- عن سعادتهنّ بما حصل، وأنّ اليوم كان مميّزًا، وأنهنّ يشعرن بالتقدّم، وأنّهنّ صرنَ أكثر حريّة، وأنّهنّ استمتعن بكلّ ذلك، حتّى تلك الهادئة الصّامتة الّتي كنتُ أشكّ أنّها تجلسُ رغمًا عنها قالت بأنّها قضت وقتًا ممتعًا وصارت تشعر بالانتماء. آه كم أحبهنّ.

ذهبتُ بعدها مع أختين جميلتين أحبّهما جدًّا، ولي معهما مغامرات أثيرة في العام المنصرم جعلتهما تحتلّان بقعتين مميّزتين قلبي- إلى مطعم ما، وطلبتُ فيه شباتي بالنّوتيلّا لأنّه كان الطّلب الأسلم، وقد كان حجمُه صغيرًا بشكل مخادع، وكانت فطيرته غيرُ مستويّة، إلّا أنّ الوقت السّعيد الّذي قضيتُه هناك معهنّ جعلني ألتهمه كلّه رغم انسداد الشّهيّة الّذي أعاني منه. تشاركنا أحدث الأفكار، وأسماء المسلسلات، والمشاريع المؤجّلة، وخططنا الصّيفيّة الّتي ما التزمنا بها، ثمّ بعد أنّ تعبأت نوتات هواتفنا بالأسماء الجديدة الّتي تبادلناها لكلّ ما سبق، تعاهدنا بأن نلتزم بتنفيذ الخطط. عدتُ إلى بيتي بسيّارتهما، ومررنا في الطّريق على ابنة أخيهما (اللّزوزة) جدًا الّتي تشبه في طريقة كلامها البريئة بشكل يبعث على عضّ اليد وقرص الخدود- أخي الصّغير. كنتُ أسألها، وكانت تجيب وتسرح في إجاباتها بفصاحة و(لزازة) بالغتين لم أتحمّل معها أن لا أودّعها بقبلة كبيرة استأذنتها فيها قبل أن أعطيها إيّاها خشيةَ أن تغضب كما أخي، وتظنّ أنّني أقلّل من شأن حكمتها الّتي تفوّهت بها، إلّا أنّني نسيتُ أنّ الفتيات لا يمانعن الدّلع ويستقبلنه بصدر رحب، وجال في خاطري أنّني أودّ أن أكون أمًّا في الحال، وأن تكون لي ابنة في مثل عمرها، تتحدّث بذات اللهجة الطّفوليّة الّتي أحب، والّتي تستفزّ كلّ خلايا قلبي.

 أجريتُ بعدها بضع مكالمات، وتتبّعتُ رسائل جوّالي حتّى أتأكّد أنّ أمور رحلة الغد تسير على مايرام، إلّا أنّ ذلك أخذ الكثير من وقتي وانتباهي، وأشغل كلّ ما تبقّى من ليلتي على حساب خطط الإجازة الّتي وضعتها لنفسي. رغم أنّني أحبّ حياة العطاء الّتي أعيشها في ذاك المكان الّذي ذهبتُ إليه، وفي الأمر الآخر الّذي اضطرّني إلى متابعة جوّالي بشكل مستمرّ، وأشعر معهما أنّني أنمو وأتعلّم، وأنّ خبرتي في الحياة تزداد، وأنّ قيمتي الاجتماعيّة تكبر، ومهاراتي الاجتماعيّة تصير أكثر حرفيّة، إلّا أنّني..
أشعر أنّني بالعطاء المستمرّ المتتابع أستحيل  إلى كائن أكثر فراغًا، وأنّ مخزوني المعرفيّ يتناقص دونما بديل، وأنّ أفكاري لا ترتصّ في مسيرة واحدة، وأنّني لا أعرف الكثير من الإجابات الّتي ينبغي أن أعرفها، وأنّ صبري ينفد بشكل أسرع في أوقات جلوسي وحدي، وأنّ قدرتي التّعبيريّة تصير أقلّ تنوّعًا وأكثر شبهًا بالآخرين، وأنّني أقلّ تركيزًا، وأقلّ انتباهًا إلى التّفاصيل، أكثر براغماتيّة، وأقلّ ترصّدًا للحقائق الّتي لطالما كان يشغلني أمرها، أقلّ توافقًا مع أصواتي الدّاخلية، وأكثر انسجامًا مع العالم وضوضائه.

نصحتني أستاذتي العظيمة مرّة عندما استشرتها: بين المضيّ في طريق يلمّع اسمي وسيرتي الذّاتيّة ويستهلك من وقتي وجهدي على حساب العمل على قيمتي كشخص، وبين أن أعمل بشكل خفيّ على قيمتي الشخصيّة على حساب الإنجاز المعترف به، وأشارت عليّ -بالإسقاط على تجاربها في مثل عمُري- أن أسعى للأخيرة بلا تردّد، لأنّني بذلك، وإن لم أحظَ بسيرة ذاتيّة جذّابة تستقطبها المؤسّسات الكبرى، فسأكون من أولئك اللاتي إن تحدّثن، وهنّ يعرفن تمامًا ماذا يقلن وكيف يقلنه، سيجدُني من يبحث عن القيمة الحقيقيّة، وأنتهي بذاك السّعي الخفيّ الصّادق إلى نتيجة صادقة قيّمة تلائمه وترضيني. هذه المعادلات لا يعترف بها العالم، إلّا أنّها تحصل. هذه الطّرق ملتفّة وعجيبة، وغير مأهولة، ولا يدركها إلّا الصّادقون، ولا يلقي بأنفسهم في طرقها الوعرة المحفوفة بتكذيب الآخرين وتثبيطهم إلّا الصّادقون، وأنا يا ربّ أريد أن أكون منهم مهما كان ذلك صعبًا ويبدو في ظاهره شاذًّا عن الجماعة، وأريد أن أعرف كيف أوازن بين العمل على قيمتي الشّخصيّة، وعطائي من تلك الذخيرة في ذات الوقت، وأن لا أدع الأولى تغلب الأخيرة وتتوغّل بضوضائها إلى داخلي. المشكلة أنّ الوقت محدود وقصير، والحياة مجنونة في ضخامتها وكثرتها، وبعض الفرص لا تتكرّر، وأنا يا ربّ.. حائرة.

حصل قريبًا وأن تنازلتُ عن موقفي في حوارين كنتُ المحقّة في كليهما، وانتهيتُ في كلٍّ منهما باعتذار ساذج، وتصفيق للطّرف الآخر، ولكنّني عندما اختليتُ بنفسي، وفاتحتُ من أثق بالموضوع بشكل غير مباشر، وفكّرتُ بشكل كافٍ، وجدتُ أنّني كنتُ المحقّة بشكل لا تخطئه عين، واستغربتُ من نفسي انسحابي واعتذاري وتغافلي. لطالما آمنتُ بأنّ اللّين يحلّ كلّ شيء، وأنه ما من داعٍ للاصطدام أو العراك، وأنّ التّنازل يكونُ حلًّا ذكيًّا حينما يتعسّر الاتّفاق، إلّا أنّ ذلك التّنازل تضمّن استنقاصًا من قدر نفسي وهضمًا لحقّها بشكل آلمني. لطالما شعرتُ أنّني أمتلك الكلمة في الوقت الّذي أريد، وأنّ معاييري في قياس موقف الآخر وموقفي سريعة كفاية حتّى تجعلني أحسن التّصرف في لحظة الموقف، إلّا أنّني ما عدتُ، ربّما، أمتلك ذات اللّياقة، وأظنّ أنّ ذلك يعود إلى تقصيري في العمل على تكويني المعرفيّ، واتّكالي على حدسي في حلّ كلّ شيء. ربما ينبغي أن أكون صلبة أكثر، وأن أمتلك منهجًا سميكًا سليمًا يمكنّني من قياس المواقف والأمور بشكل أسرع وأدقّ. ربّ آتني الحكمة.

ختامًا، أحبّ أن أقول أنّني شعرتُ بمسؤوليّة حيال إيصال صورة صادقة عن حياتي، خصوصًا بعد التّدوينة الفائتة الزّهريّة. أريد لكلّ من تصلني منهم رسائل مثل: أنتِ إنسانة جيّدة، أو: أنتِ كاملة ولا شيء ينقصك، أن يعرف بأنّني لستُ كذلك، وأنّني أتمنّى أن أكون، إلّا أنّ حياتي يشوبها الكثير كما كلّ النّاس، وأنّني أخفق أكثر ممّا أنجح، وأتوصّل لنتائج خاطئة ١٠٠٠ مرّة في اليوم الواحد قبل أن أصيب. أشعر أنّني أريد أن أكون كإيزابيل حبيبتي، أن أسخّر تجربتي الحياتيّة للنّاس، أن أعدّها وقفًا للعلم. حقيقةً، لا يهمّني أن أبدو ساذجة إن استلزم الأمر في سبيل أن أنقل تجربةً ما بشكلها الكامل دون تزييف، أو أن أنقل صورة صادقة عن حياتي ليستفيد منها الآخرون. لا أعرف لماذا، ولكن راودني هذا الشّعور وأنا أكتب ما كتبت، ولذا كنتُ أكثر شفافيّة بخصوص التّفاصيل التّعيسة. أحبّ حياتي على كلّ حال، وأحبّ أن أحيا رغم كلّ شيء.

على فكرة، كتبتُ ما كتبت في جلسة واحدة متّصلة.

الثلاثاء، 18 يوليو 2017

عن حبّ النّاس، وأشياء أخرى

أهلًا.
حصل الكثير في الفترة الماضية ولم أوثّق شيئًا منه هنا ولا في أيّ مكان آخر، وأشعر أنّ فكرة التّوثيق بعد كل هذه الانقطاع تجلب لي الصّداع بقدر ماهي ضروريّة. دون التّوثيق، يسيل الزّمان ولا أعرف كيف مضى، تزدحم الأفكار والمشاعر في رأسي ولا أشعر بينها أنّني صاحبة سلطة. حصل الكثير وما كان هنالك وقت كاف بين حدث وآخر للتّفكير والتّحليل، لتحديد مكاني، للقبض على المعاني، لترك ما أريد وطرد ما لا أريد. أنا في إجازة، وأظنّ أنّه ينبغي على هذا الصّخب الحياتيّ أن يكفّ، وأن أعيش الهدوء الّذي يسمح لي بتحسّس الأشياء كما يجب، والقدرة على وصفها بأكبر دقّة ممكنة. أحب أن أرى كلّ شيء، أكره أن أمضي عمياء. أتساءل إن كان ينبغي أن أدع الحياة تحدث بكلّ ما فيها من صخب دون أن أتفحّصها كفاية. أشعر أنّ المراقبة والتّفحّص والوصف مهامّي الأزليّة الّتي لا يجوز أن أتخلّف عنها.

في الأيّام الماضية، تعاملت مع الكثير من النّاس عن قرب، وكان لكلّ منهم معي أحاديث مطوّلة عن أشياء كثيرة. رغم أنّني لا أمتلك خطّة لهذا الصّيف، إلّا أنّ أيّام الأسبوع لا تلبث تمتلئ من أوّله، صبحها ومساءها. لم أنزعج من اللقاءات الّتي حصلت، كان معظمها إراديّ، إلّا أنّها حصلت دفعة واحدة بشكل مكثّف ومتسارع. أشعر أنّني ضائعة بين كلّ من أعرف، وأودّ لو أتّخذ مواقع واضحة بينهم. أريد صلات وثيقة أحافظ عليها، ويجمعني مع أصحابها مشروع ما مستمرّ. أودّ لو أحتفظ بكلّ من يعجبني الحديث معهم، وأضمن أن أراهم بشكل دوريّ ومستمرّ على المدى البعيد. النّاس كنز، ورؤيتهم بشكلّ دوريّ لا ينقطع مطلب ضروريّ عندي. أكره فكرة أنّ الكثير من الأشخاص الجيّدين يعيشون مكانًا واحدًا ولا يجتمعون، لا يرى أحدهم الآخر، ولا يتبادلون الأحاديث بشكل كاف. أكره فكرة التّفرقة الحاصلة هذه، وأتمنّى لو تكون هناك مجتمعات ما، تخصّ الشّباب، مفتوحة للجميع، وموجودة للجميع، ويستطيع أن ينضمّ فيها من ينضمّ، يتحدّثون فيها، ويتبادلون الخبرات، ويكوّنون صداقات، ويفعلون أشياء جيّدة سويّة. تعرّفت على الكثير من هذا النّوع الجيّد من النّاس بشكل ملتفّ، من مشاريع متفرّقة، ثم يتبدّى لي في كلّ مرّة أنّ الكلّ يعرف الكلّ بذات الطّرق الملتفّة الّتي لا تحصل إلّا صدفة، وأمنّي نفسي لو أنّ هنالك مكانًا واحدًا يسعهم كلّهم ويستطيع أن يعرف فيه بعضهم بعضًا فيه دون كلّ هذا التّعقيد والالتفاف. التّواصل يجعلني حيّة، ولو أنّني أشعر بسببه ببعض التّشتت، إلّا أنّني أحيا، وأصير ملوّنة، أعطي وآخذ، آخذ وأعطي، وأشعر أنّني أقلّ غرابة عن الآخرين، وأنّ الكون أكثر سعة، وأنّ الإنسان كائن عظيم. أحبّ الإنسان، وأودّ لو تعطيني الحياة فرصة أن أتعرّف على أكبر قدر ممكن من النّاس الّذين يتزامن عيشهم فيها معي.

انتهيتُ من آخر حلقة من مسلسل the good wife قبل يومين، وأشعر من بعده بفراغ وغربة. ما كان ينبغي أن ينتهي، كنت أعيش في خطّ متوازٍ مع هذا المسلسل وأنضج بنضج أبطاله. تعلمتُ الكثير منه.. تعلمتُ كيف أشعر، كيف أتجاوز الألم، كيف أترك للحزن مداه، كيف تمضي الحياة رغم كلّ شيء، كيف يعودُ النّاس يحبّ بعضهم البعض مهما فرقّت بينهم المصالح، تعلّمت ماذا يعني الزّواج، ما هي العلاقات وكيف تتكوّن وتنتهي، كيف يصير النّاس أصدقاء، كيف أبني أسرة،،
وأنّ الحياة تستمرّ رغم موت الأحبّة، وأنّ الحياة غنيّة بالدّهشة مهما ظنّنا أنّنا استنفدنا ما يدهشنا، وأنّ في القلب دائمًا مساحة شاغرة للحبّ، وأنّه حيث تنتهي طاقتك يتكفّل القدر بإنجاز الأعمال، وأنّ كل شيء قابل للإصلاح، وأنّ هناك مدّة صلاحيّة لبعض الأشياء، فبعضها يموت، إلّا أن هنالك دائمًا ما يحلّ مكانها، وأنّه ما من شيء ينبغي أن يستحوذ انتباهي كاملًا سوى الجمال والحبّ.
أشعر أنّ الأثر الّذي تركه فيّ هذا المسلسل يشبه الّذي تركته فيّ إيزابيل في الجزء الأوّل من سيرتها الذّاتية (پاولا)، ورغم أنّ المرأتين البطلتين في كلّ من المسلسل والكتاب مختلفتان من نواحٍ كثيرة، إلّا أنّني كنتُ أخرج بطاقة شبيهة بعد المشاهدة/القراءة، وربّما يحصل ذلك لأنّ كلا المسلسل والكتاب يصف الأشياء والمشاعر بشكل صادق وشفّاف، يمرّ على حياة كاملة مضغوطة، يتيح لي أن أتلصّص عليها مصغّرة ومسرّعة من ثقب صغير، ويعطيني الخلاصة في تجربة مشاهدة/قراءة كانت من أمتع ما حصل، ولا أظنّ أنّ هاتين التّجربتين لتتكرّرا إلّا لإيماني بأنّ الحياة مليئة بالدّهشة مهما ظننتُ أنّني استنفدتها، كما تعلّمت منهما.

مررت بأزمة شعوريّة غريبة في الأيّام الماضية، ولا أستطيع الآن أن أقول أنّني تجاوزتها تمامًا. كلمّا يتجدّد فيها أمر، كنت أصاب بمرض أو شيء من هذا القبيل يجعلني ساكنة في مكاني، ومجنونة تقريبًا، وبلهاء بشكل غريب. تدور الفكرة في رأسي كدوّامة، ذات الأفكار تتقلّب وتتبدّل في رأسي ولا مفرّ، وصدى الأصوات يتردّد ويتكرّر بلا نهاية. أترك للأمر أن يحصل دون ضغوطات لأنّني أعلم أنّ الأمر مسألة وقت. أكره أن تستحوذ رأسي فكرة لا أقوى على تحريكها من مكانها إلّا حين يحين وقت رحيلها، والحمدلله أنّ الأمر في حالتي لا يطول. شعرت أنّني في مأزق لا يستطيع أحد أن يخلّصني منه. دائمًا في هكذا مواقف، ألجأ للمعرفة. الفهم يجعلني أسكن، ويعجّل من حراك الفكرة من رأسي، أو على الأقل، من توتّري حيالها. من حسن حظّي أنّني من جيل العم قوقل، حيث لا حاجة إلى اللجوء إلى أحد للحصول على فهم معقول. أن أصل إلى المعرفة اللّازمة مع الحفاظ على خصوصيّة أفكاري. ياللروعة!

صحوت اليوم السّاعة ١٠ صباحًا، ولم أنم حتّى الآن، وأنا الآن نعسانة جدًا، إلّا أنّني أكتب، لأنني إن لم أفعل الآن فلن أفعل أبدًا.

أمارس في ليالي هذا الصّيف فقرة "الأخت الكبيرة" حيث يتحولق حولي إخوتي الصّغار أينما ذهبت، يتشاجرون أمامي، أو يتحدّثون عن كلّ شيء، ويكون عليّ أن أمدّهم بالأمان، وأهدهد مخاوفهم، وأرافقهم إلى المطبخ، وأصنع لهم عشاءً إن استلزم الأمر وهكذا. أخي الصّغير، آخر العنقود، الحبيب، القريب من قلبي، الّذي لا يكبر في عيني، "يكمل السّهرة" معي دائمًا، ولا ينام إلّا عندما أنام. يسألني عن كلّ شيء.. أسئلة وجوديّة تارة، وأسئلة حول تخصّصات ومهن العالم تارة أخرى. كلّ يوم يختار هذا النّونو مهنة جديدة يريد أن يمتهنها في المستقبل، ونفكّر سويّة فيما يمكن أن يصير عليه إن اختارها. يصرّ دائمًا أن يكون برفقتي حتّى وهو يلعب، يصنع آلات وروبوتات لها قدرات خارقة ويريني إيّاها، ويأمرني بتصويره وهو يشرحها وإرسالها إلى من يشاركه أمرها من أقربائنا الّذين في سنّه. يجب أن نلعب كلّ ليلة لعبة حرب الإبهام، وأفوز أنا غالبًا لأنّ إبهامي أطول. أُسمّي إبهامه "أبو خنصر" ويسمّي إبهامي "أبو بنصر". اليوم يوم استثنائي لأنه سمح لي بالحصول على ٣ أحضان. كلّ يوم أحاول أن أشرح له أنّني كأمّه، أنّني حمّمته وأكّلته وشرّبته واعتنيتُ به، وأنّه كبير نعم، إلّا أنّني لا أزال أراه نونو ليس لشيء إلّا لأنّني اعتنيتُ به مذ كان نونو، وأنّه ينبغي أن يكون لي نصيب يوميّ من الأحضان مثل ماما، وينتهي النقاش كل مرّة بأن يرفض رفضًا لا جدال فيه. اليوم اقتنع، واحتضنني ٣ مرّات بكل بطواعية وحبّ. كم أحبّه هذا النّونو. أحبّه بلا شروط، أحبّه في كلّ أحواله، أشعر أنّه كقطعة من قلبي، وأنّ حبّه في قلبي يتضخّم كلّ يوم. أحبّه كثيرًا، وأخاف أن يكبر إلى الحدّ الّذي يبتعد فيه عنّي. دائمًا ما أتساءل عن حبّ الأمّهات، هل يستطيع قلبي أن يحبّ أكثر؟ هل هناك من سيستحوذ على قلبي أكثر؟ كيف لقلبي أن يكون أكثر سعة؟ هل تجربة الحبّ الّتي سأمرّ بها حين الأمومة تتفوّق على هذه الّتي مع أخي؟ القلب أعجوبة، وأتمنّى أن أجرّب كلّ صنوف الحب.. أن أختبر إمكانيّات قلبي كلّها، أن أمطّ جدرانه إلى أبعد مدى، وأُدخل فيها كلّ حبّ ممكن قبل أن أموت.

اليوم كان يومًا سعيدًا جدًا، خرجتُ مع ماما في الصّباح، وأنجزنا كثيرًا في خرجتنا تلك، وضحكنا. عدتُ وتناولتُ غدائي ثمّ خرجت مرّة أخرى إلى حيثُ قابلت الكثير من الفتيات الجميلات، فعلنا ما فعلنا، تحدّثنا كثيرًا، واستمتعتُ برفقتهنّ، ورؤية ذاك البريق في أعينهن، البريق الّذي ينبّئ بدخول عوالم جديدة، البريق الّذي يصاحب دهشة الجديد، البريق الملازم لأعين كلّ من يهمّ بالطّيران. توجّهتُ بعدها مع اثنتين إلى مطعم ما. أكلنا وتحدّثنا. كنتُ منصتة في أغلب الوقت، متعبة، ومستمتعة. أحببتُ رفقتهما، وتجلّت لي معهما.. أشياء، وأشعر أنّ لديهما عوالم ما تجرأتُ دخولها يومًا، أو ما فكّرتُ في ذلك. أحبّ هذا الصّنف من النّاس، أولئك الّذين يكبرونني في كلّ شيء، ورغم ذلك ما أزال أملك رفقتهم والحديث معهم بفرصة متعادلة.


أشعر أنّني محظوظة جدًا، أكثر ممّا أستحقٍ، وأنّني رغم التّشتت الّذي أعيشه أمتلك الكثير، وقادرة على فعل الكثير، وأنّ الحياة حلوة، والإجازة ما تزال ممتدّة للمزيد من الإنجاز، وأنّني لذلك أدين بالكثير للعالم والنّاس. أريد أن أعطي كلّ شيء أمتلكه، وأن أمتلك كلّ ما أستطيع حتّى أعطيه.








السبت، 10 يونيو 2017

١٥ رمضان | عن.. أشياء كثيرة

كنت أنوي أن يكون المنشور القادم الّذي أكتبه هنا عن خلاصة التّجربة الّتي خضتها في الأشهر الماضية، والّتي أظنّ أنّني خرجت منها بنتائج مفصليّة في فكري ونظّارة الحياة خاصّتي، إلّا أنّني لستُ أشتهي شيئًا الآن سوى الوصف العبثيّ الّذي أمارسه هنا عادةً للأفكار العابرة الّتي تمرّ بي لحظة الكتابة. أريد أن أمارس فعل الوصف ليس لشيء إلّا لكي أصف، لكي ألعب لعبة إحياء الشّعور،، أنتقل به من عالم اللّاحسّ إلى حروف مكتوبة خالدة، أقبض على الأفكار الّتي تتجلّى كفقاعات صابون وأثبّتها بدبوس أزليّ، أخترق حرّيتها في الاختفاء وأحكم عليها بالوجود كما لو أنّها تستحقّه، وأعطيها ملامحًا وأوصافًا وأزمنةً، وأقارنها بما يشبهها وما لا يشبهها.. أشكّلها كصلصال كما أشتهي دون أن يحكم عليّ أحد: أنا سيّدة أفكاري، أنا من يختار لها كيف تخرج، كيف ترتدي، وبأيّ لون تصطبغ. أكملتُ قبل قليل بضع صفحات من سيرة إيزابيل الليندي في الكتاب الأوّل باولا، وصارت أفكاري العابرة تُسرد داخل رأسي كما لو أنّني أكتبها. دائمًا ما تحفّز إيزابيل فيّ هذه الرّغبة؛ أشعر من بعدها أنّ أيّ فكرة عابرة تتوقّف في فمي باحثةً عن قالب تتشكّل فيه. أودّ لو أفعل ذلك مرّة مع أفكار تستحقّ الوجود فعلًا، ولكن ليس هنا. لا أعرف متى، لا أتصوّر كيف، ولكن أريد أن أوظّف هذه الرّغبة الّتي لا أستطيع أن أقاومها في وصف كلّ شيء- في أمر حقيقيّ أجعل به العالم مكانًا أفضل، وأعبّئ به فراغًا ما، وأصلح به عطبًا، أو قلبًا، أو فكرةً، أو معنى.

أحضر جلسات ما هذه الأيّام، كلّ ما أفعله ويفعله غيري فيها هو ممارسة التّفكير الحرّ، ورغم أنّني لا أتّفق مع كلّ ما يحصل فيها، إلّا أنّني أحببت كلّ ما حصل. ما أفعله هناك يشبه الّذي أفعله هنا، فأنا هنا أقبض على مشاعري وأفكاري الطّائرة لأجل أن أفعل ذلك، أستخدم الوسيلة لغرض استخدام الوسيلة،، ونحن نفعل هناك الشّيء ذاته: نفكّر لأجل أن نفكّر، نعلّل أفكارنا لأجل أن نعلّلها، نخلق حوارات لأجل أن نخلق حوارات؛ لأجل أن نجعل أفكارنا تتحفّز للخروج، نتحدّث عن فكرة لأجل أن نسلّط الضّوء على كلّ جوانبها، وذلك كلّه يعجبني، وأكاد لا أصدّق أنّه يحصل؛ أنّ الحياة تعطيني مساحة حرّة لا يحكم فيها عليّ أحد، ولا يتوقّع فيها أحد شيئًا منّي، حتّى أنّني أنسى في معظم الوقت أنّني أفكّر لغرض التّفكير وحده فآخذ الحوارات منحنىً جادًّا وأحاول أن أتجنّب العبث فيها لأخرج منها بفكرة حيّة أستعملها فيما يتبقّى من حياتي. تعلّمت أشياء كثيرة من هذه الجلسات عن عالم الأفكار، وعن العقول الّتي تحتويها.. كيف أكون أكثر حريّة، كيف أرى فكرة الآخر، كيف لا أحكم عليها، كيف أنصت، كيف أسكت، كيف أبني، كيف أهدم، كيف أترك مساحة، كيف أخلق مساحة، وتعرّفت فيها على أناس طيّبين جدًا. أحبّ الطّيبين ولا أحد غيرهم. أحبّ أنّني مارستُ نفسي أمام مختلف العقول والشّخصيات هناك- بكامل أبعادها، ما كنتُ أشعر أنّني قادرة على أن أكون مزيّفة حتّى لو أردتُ أن أكون. كنتُ ساذجة جدًا، وحرّة جدًا، وسعيدة

في الأيّام الّتي مضت، رافقني شخصٌ غريب جدًا، ما استطعتُ حتّى اليوم أن أعطيه وصفًا ما رغم طول المدّة الّتي قضيناها معًا، ومختلف المواقف الّتي عبرنا خلالها سويّة. جاءت في حلُمي اليوم، وكنا فيه نسكن غرفة واحدة كما فعلنا مرّة في إحدى الأسفار. يندر أن يمرّ عليّ أشخاص بذات الفرادة وذات الغموض. هي من أولئك الّذين يمرّون خفافًا، تجيء وتدخل خفيفة خفيّة كما لو أنّها ما كانت، ولكن المواقف الّتي تشاركناها والحوارات الّتي خضناها واضطرتنا الحياة إليها في أوقات حرجة جدًا، وحسّاسة جدًا، وغريبة جدًا- كانت ثقيلة وغزيرة بالمعاني. أحيانًا أشعر أنّها كانت من صنع خيالاتي، ما جمعتنا صورة واحدة لاثنتينا حتّى أتذكّر كيف كان الّذي كان. ما وجدتُ لها تصنيفًا بعدُ، كانت الحدود بيننا هلاميّة وغريبة، نتشارك أخبارنا وهمومنا التّافهة كصديقتين مقرّبتين مرّة، ونتعامل كالغرباء في المرّة الّتي تليها. كان يندر أن أراها صدفة، كان يستحيل أن تمكث دقيقة واحدة إضافيّة عن حاجتها، أو أن تبدو في مكان لا تؤدّي فيه غرضًا ما. لا تتكلّم أكثر ممّا تريد، لا تُظهِر من نفسها أكثر مما يتطلّب الموقف، لا تستمع لما لا تريد أن تستمع إليه، لا تبدي ردّة فعل زائدة عن الحاجة، لا تطلب شيئًا من أحد مهما تفُه الطّلب، تُفضّل أن تبقى صامتة ورزينة وهادئة، تبتسم لي من بعيد، وأفهم أنا حاجتها للابتعاد، فلا أصرّ أن تقترب ولا أقترحُ حتّى، بينما يفعل الآخرون بدهشة، ويقابلون ردّة فعلها بانزعاج. القدر وحده هو من جمعنا في تلك التّجربة المريرة، ولولا أنّ نظرتنا للأمور كانت تتشابه وتختلف عن البقيّة، والمسلسل الّذي كنّا نستشهد به في أحاديثنا كان واحدًا، والغمّ الّذي أحاط بنا كان واحدًا، ما كان يمكن لي أن أخوض حوارًا واحدًا مع تلك الفتاة الشّبحيّة الجميلة الّتي لا تكاد تظهر حتّى تختفي. كنتُ الوحيدة الّتي استطاعت أن ترى الجانب الآخر منها، لأنّها كانت عصيّة على الفهم، وكنتُ.. ربّما، أفهم. كنا نتفاهم، ولم يكن يفهمنا أحد. كانت أفعالنا ابتداءً، وقبل الخوض في كلّ شيء، تتشابه وتبدو غريبة للكل. كلتانا تمشي بحواجز شفّافة حولها تمنع الغرباء من خلق أحاديث ليست ذات معنى، كلتانا تجلس وحيدة، تغدو وحيدة وتروح وحيدة، تغوص في ذاتها أوقات الفراغ، تجلس في ركن قصيّ وتقرأ، وتكره المكان. كنّا نُقصي كلّ أحد، حتّى حصل وأن اجتمعنا في مهمّة، فاصطدمت جدراننا حتّى تكسّر بعضها وتشكّلت بعض النّوافذ. أتمنّى لو تتقاطع أقدارنا مرّة ثانية. انتهى الأمر الّذي يجمعنا، واختفت إلى الأبد، ورغم أنّني أكره كلّ ما يتعلّق بتلك التّجربة، وأشعر أنّني خرجت منها خاسرة مستنزفة، تبقى صداقتها مكسبًا، والذّكريات الّتي جمعتنا سعادة مخزّنة أستزيد منها في أوقاتي التّعيسة.

في إحدى الجلسات الّتي ذكرتُها آنفًا، قيلالحياة تجربةوكان على كلّ منّا أن يختار موقفه حيال تلك الجملة بين: أتفق/أختلف/لا أعرف، وأن يعلّل من بعدها اختياره. اختارت إحداهنّ، لنسمّها (ر): أتّفق، وكان تعليلها: أتّفق مع كلمةتجربةفي وصف الحياة لأنّني أشعر أن الحياة ينبغي أن تُعاش بكلّ الحواسّ والشّعور؛ أن أعيشها كتجربة بكلّ ما أملك وما وفّرته لي الحياة من معطيات، أن أجرّبها بكلّ الممكنات. وأنا أقرأ سيرة إيزابيل، وجدتُ أنّ إيزابيل تعيش المفهوم الّذي تبنّته (ر) بشكل ساحر؛ فإيزابيل كانت منفتحة لكلّ الفرص التي تعطيها إيّاها الحياة، فقد جرّبت أن تكون صحفيّة، وكاتبة مسرحيّات، وكاتبة وصفات طبخ، ومقدّمة برنامج تلفزيوني، وأشياء لا تُذكر. كانت تقبل الفرص الّتي تقف في طريقها، وتجرّب فيها حظّها، وتتعلّم منها حتّى تصير محترفة. لم تكن إيزابيل تضع خطّة، كانت تمضي وحسب، تقبل الفرصة -سواءً تشكّلت تلك الفرصة في وظيفة جديدة شاغرة، أو في حماس لا يهدأ لبدء مشروع ما-، تبتكر فيها وتبدع، وتحبّ ما تفعل، حتّى وجدت أنّ ما يجمع كلّ ما تفعله في نهاية المطاف هو كتابة الرّوايات، فمضت في ذلك الطّريق ككاتبة بارعة سعيدة بما تفعل. رغم أنّني اخترت (لا أعرف) في التّمرين أعلاه، إلّا أنّني أودّ أن أتبنّى مفهوم (ر) وأن أعيش الحياة كتجربة، دون أن أضع خططًا لا تتّسم مع طبع الحياة المتقلّب، وأن آخذ الفرص المتوفّرة وأحفل بها وأعطيها كلّ ما عندي. أظنّ أن لعنة العصر هي وهم القدرة على تنفيذ الخطط الّتي يضعها كلّ منا بناء على اختياراته الّتي يفضّل بين كلّ الخيارات الممكنة لشخص في مثل عمره، كمن يشير بإصبعه على الخارطة ويودّ أن يكون من أهل تلك البقعة. تقول مايا -الشخصيّة البطلة في رواية دفتر مايا لإيزابيل الليندي- وهي تصف دانييل “عاش حياة عاديّة، ويمكنه تخطيط مستقبله بالثّقة اللاعقلانيّة لمن لم يعرف المعاناة”. لا أريد أن أكون ساذجة كدانييل، أريد أن أعيش. لا أريد أن أنتظر أكثر، أريد أن أبني حياتي بالطّوب المتوفّر لديّ؛ فإنّني بالطّوب المتوفّر وحده سأرتفع لأحصل على طوب أفضل، أمّا انتظار هبوط الطّوب الّذي أحلم به، بل حتّى السّعي الحثيث لاكتسابه للشّروع في البناء دون البدء بالبناء بالطّوب المتوفّر- وهم وغباء وطفولة. لطالما انتظرت أن يصلني الطّوب الحلم حتّى أبدأ البناء، ولكن.. أظنّني، سأبدأ مهما كان، وأتوقّف عن الانتظار.

كنتُ متحمّسة للشروع في القيام بعدّة مشاريع بعد انتهاء الفصل الدّراسيّ، إلّا أنّ قواي تخور فجأة، وأشعر بتفاهة عجيبة حيال تلك الأفكار بطريقة أكره نفسي معها. لهذا السّبب بالذّات، صرتُ -ما إن أقدم على فكرة- أشاركها مع كلّ شخص من الممكن أن يصاحبني في تنفيذها، لأنّ شعور الفتور الّذي يليه فورًا لا يصبح بذات الفعاليّة بعد مشاركة الفكرة، بل ربّما يتلاشى تمامًا عندما أعبّر عن فتوري وأُقابل بحماس وتوبيخ ممّن شاركته. أشعر بموت عام وبلادة بسبب الوضع السياسيّ المتوتّر.. لأسباب كثيرة خاصّة تمسّني شخصيًا وتمسّ من أحب، ولأنّ كل شيء جيّد في ظلّها صار يتقوّض ويستحيل. والحديث عن الأمور كما لو أنّها تخصّ الحكومات وحدها يجعلني أجنّ، فما هي الحكومات دون شعوبها؟ أليست الحكومة خادمة للّشعب، منظّمة له؟ أليست تمثّله وتتحدّث باسمه، وأفعالها تضرّه وتمسّ كل فرد يعيش تحت سلطتها؟ والأدهى والأمرّ أنّ التّعبير بحاله عن ذلك القهر الّذي نعيشه ممنوع حتّى. أين أعيش أنا يا ربّي؟ أيّ سجن هذا؟ ما يحصل لكلّ شخص عربيّ الآن هو ما يتكلّم عنه مصطفى حجازي تمامًا في وصفه للإنسان المقهور. يا رب كن للمظلومين والمتضرّرين والمقهورين، لكلّ من تفرّقت بينهم السّبل، وغزّة يا رب، الضّحيّة الأكبر.. كن لها.

هف! أشعر بالسّذاجة حيال ما كتبت، كالعادة. أفكاري العابرة كانت أكثر من ذلك بكثير، حتّى أنّني حين توقّفت عن الكتابة بالأمس أصابني صداع من تداعيها، إلّا أنّني حينما أنقطع، ثمّ أعود بعد الانقطاع، يبهت كلّ شيء ويبدو تافهًا، حتّى فعل التّعبير وحده يصبح تافهًا، وأودّ لو أنّني ما أقدمت على الفكرة من الأساس.


على العموم، لا يهمّ.