الثلاثاء، 18 يوليو 2017

عن حبّ النّاس، وأشياء أخرى

أهلًا.
حصل الكثير في الفترة الماضية ولم أوثّق شيئًا منه هنا ولا في أيّ مكان آخر، وأشعر أنّ فكرة التّوثيق بعد كل هذه الانقطاع تجلب لي الصّداع بقدر ماهي ضروريّة. دون التّوثيق، يسيل الزّمان ولا أعرف كيف مضى، تزدحم الأفكار والمشاعر في رأسي ولا أشعر بينها أنّني صاحبة سلطة. حصل الكثير وما كان هنالك وقت كاف بين حدث وآخر للتّفكير والتّحليل، لتحديد مكاني، للقبض على المعاني، لترك ما أريد وطرد ما لا أريد. أنا في إجازة، وأظنّ أنّه ينبغي على هذا الصّخب الحياتيّ أن يكفّ، وأن أعيش الهدوء الّذي يسمح لي بتحسّس الأشياء كما يجب، والقدرة على وصفها بأكبر دقّة ممكنة. أحب أن أرى كلّ شيء، أكره أن أمضي عمياء. أتساءل إن كان ينبغي أن أدع الحياة تحدث بكلّ ما فيها من صخب دون أن أتفحّصها كفاية. أشعر أنّ المراقبة والتّفحّص والوصف مهامّي الأزليّة الّتي لا يجوز أن أتخلّف عنها.

في الأيّام الماضية، تعاملت مع الكثير من النّاس عن قرب، وكان لكلّ منهم معي أحاديث مطوّلة عن أشياء كثيرة. رغم أنّني لا أمتلك خطّة لهذا الصّيف، إلّا أنّ أيّام الأسبوع لا تلبث تمتلئ من أوّله، صبحها ومساءها. لم أنزعج من اللقاءات الّتي حصلت، كان معظمها إراديّ، إلّا أنّها حصلت دفعة واحدة بشكل مكثّف ومتسارع. أشعر أنّني ضائعة بين كلّ من أعرف، وأودّ لو أتّخذ مواقع واضحة بينهم. أريد صلات وثيقة أحافظ عليها، ويجمعني مع أصحابها مشروع ما مستمرّ. أودّ لو أحتفظ بكلّ من يعجبني الحديث معهم، وأضمن أن أراهم بشكل دوريّ ومستمرّ على المدى البعيد. النّاس كنز، ورؤيتهم بشكلّ دوريّ لا ينقطع مطلب ضروريّ عندي. أكره فكرة أنّ الكثير من الأشخاص الجيّدين يعيشون مكانًا واحدًا ولا يجتمعون، لا يرى أحدهم الآخر، ولا يتبادلون الأحاديث بشكل كاف. أكره فكرة التّفرقة الحاصلة هذه، وأتمنّى لو تكون هناك مجتمعات ما، تخصّ الشّباب، مفتوحة للجميع، وموجودة للجميع، ويستطيع أن ينضمّ فيها من ينضمّ، يتحدّثون فيها، ويتبادلون الخبرات، ويكوّنون صداقات، ويفعلون أشياء جيّدة سويّة. تعرّفت على الكثير من هذا النّوع الجيّد من النّاس بشكل ملتفّ، من مشاريع متفرّقة، ثم يتبدّى لي في كلّ مرّة أنّ الكلّ يعرف الكلّ بذات الطّرق الملتفّة الّتي لا تحصل إلّا صدفة، وأمنّي نفسي لو أنّ هنالك مكانًا واحدًا يسعهم كلّهم ويستطيع أن يعرف فيه بعضهم بعضًا فيه دون كلّ هذا التّعقيد والالتفاف. التّواصل يجعلني حيّة، ولو أنّني أشعر بسببه ببعض التّشتت، إلّا أنّني أحيا، وأصير ملوّنة، أعطي وآخذ، آخذ وأعطي، وأشعر أنّني أقلّ غرابة عن الآخرين، وأنّ الكون أكثر سعة، وأنّ الإنسان كائن عظيم. أحبّ الإنسان، وأودّ لو تعطيني الحياة فرصة أن أتعرّف على أكبر قدر ممكن من النّاس الّذين يتزامن عيشهم فيها معي.

انتهيتُ من آخر حلقة من مسلسل the good wife قبل يومين، وأشعر من بعده بفراغ وغربة. ما كان ينبغي أن ينتهي، كنت أعيش في خطّ متوازٍ مع هذا المسلسل وأنضج بنضج أبطاله. تعلمتُ الكثير منه.. تعلمتُ كيف أشعر، كيف أتجاوز الألم، كيف أترك للحزن مداه، كيف تمضي الحياة رغم كلّ شيء، كيف يعودُ النّاس يحبّ بعضهم البعض مهما فرقّت بينهم المصالح، تعلّمت ماذا يعني الزّواج، ما هي العلاقات وكيف تتكوّن وتنتهي، كيف يصير النّاس أصدقاء، كيف أبني أسرة،،
وأنّ الحياة تستمرّ رغم موت الأحبّة، وأنّ الحياة غنيّة بالدّهشة مهما ظنّنا أنّنا استنفدنا ما يدهشنا، وأنّ في القلب دائمًا مساحة شاغرة للحبّ، وأنّه حيث تنتهي طاقتك يتكفّل القدر بإنجاز الأعمال، وأنّ كل شيء قابل للإصلاح، وأنّ هناك مدّة صلاحيّة لبعض الأشياء، فبعضها يموت، إلّا أن هنالك دائمًا ما يحلّ مكانها، وأنّه ما من شيء ينبغي أن يستحوذ انتباهي كاملًا سوى الجمال والحبّ.
أشعر أنّ الأثر الّذي تركه فيّ هذا المسلسل يشبه الّذي تركته فيّ إيزابيل في الجزء الأوّل من سيرتها الذّاتية (پاولا)، ورغم أنّ المرأتين البطلتين في كلّ من المسلسل والكتاب مختلفتان من نواحٍ كثيرة، إلّا أنّني كنتُ أخرج بطاقة شبيهة بعد المشاهدة/القراءة، وربّما يحصل ذلك لأنّ كلا المسلسل والكتاب يصف الأشياء والمشاعر بشكل صادق وشفّاف، يمرّ على حياة كاملة مضغوطة، يتيح لي أن أتلصّص عليها مصغّرة ومسرّعة من ثقب صغير، ويعطيني الخلاصة في تجربة مشاهدة/قراءة كانت من أمتع ما حصل، ولا أظنّ أنّ هاتين التّجربتين لتتكرّرا إلّا لإيماني بأنّ الحياة مليئة بالدّهشة مهما ظننتُ أنّني استنفدتها، كما تعلّمت منهما.

مررت بأزمة شعوريّة غريبة في الأيّام الماضية، ولا أستطيع الآن أن أقول أنّني تجاوزتها تمامًا. كلمّا يتجدّد فيها أمر، كنت أصاب بمرض أو شيء من هذا القبيل يجعلني ساكنة في مكاني، ومجنونة تقريبًا، وبلهاء بشكل غريب. تدور الفكرة في رأسي كدوّامة، ذات الأفكار تتقلّب وتتبدّل في رأسي ولا مفرّ، وصدى الأصوات يتردّد ويتكرّر بلا نهاية. أترك للأمر أن يحصل دون ضغوطات لأنّني أعلم أنّ الأمر مسألة وقت. أكره أن تستحوذ رأسي فكرة لا أقوى على تحريكها من مكانها إلّا حين يحين وقت رحيلها، والحمدلله أنّ الأمر في حالتي لا يطول. شعرت أنّني في مأزق لا يستطيع أحد أن يخلّصني منه. دائمًا في هكذا مواقف، ألجأ للمعرفة. الفهم يجعلني أسكن، ويعجّل من حراك الفكرة من رأسي، أو على الأقل، من توتّري حيالها. من حسن حظّي أنّني من جيل العم قوقل، حيث لا حاجة إلى اللجوء إلى أحد للحصول على فهم معقول. أن أصل إلى المعرفة اللّازمة مع الحفاظ على خصوصيّة أفكاري. ياللروعة!

صحوت اليوم السّاعة ١٠ صباحًا، ولم أنم حتّى الآن، وأنا الآن نعسانة جدًا، إلّا أنّني أكتب، لأنني إن لم أفعل الآن فلن أفعل أبدًا.

أمارس في ليالي هذا الصّيف فقرة "الأخت الكبيرة" حيث يتحولق حولي إخوتي الصّغار أينما ذهبت، يتشاجرون أمامي، أو يتحدّثون عن كلّ شيء، ويكون عليّ أن أمدّهم بالأمان، وأهدهد مخاوفهم، وأرافقهم إلى المطبخ، وأصنع لهم عشاءً إن استلزم الأمر وهكذا. أخي الصّغير، آخر العنقود، الحبيب، القريب من قلبي، الّذي لا يكبر في عيني، "يكمل السّهرة" معي دائمًا، ولا ينام إلّا عندما أنام. يسألني عن كلّ شيء.. أسئلة وجوديّة تارة، وأسئلة حول تخصّصات ومهن العالم تارة أخرى. كلّ يوم يختار هذا النّونو مهنة جديدة يريد أن يمتهنها في المستقبل، ونفكّر سويّة فيما يمكن أن يصير عليه إن اختارها. يصرّ دائمًا أن يكون برفقتي حتّى وهو يلعب، يصنع آلات وروبوتات لها قدرات خارقة ويريني إيّاها، ويأمرني بتصويره وهو يشرحها وإرسالها إلى من يشاركه أمرها من أقربائنا الّذين في سنّه. يجب أن نلعب كلّ ليلة لعبة حرب الإبهام، وأفوز أنا غالبًا لأنّ إبهامي أطول. أُسمّي إبهامه "أبو خنصر" ويسمّي إبهامي "أبو بنصر". اليوم يوم استثنائي لأنه سمح لي بالحصول على ٣ أحضان. كلّ يوم أحاول أن أشرح له أنّني كأمّه، أنّني حمّمته وأكّلته وشرّبته واعتنيتُ به، وأنّه كبير نعم، إلّا أنّني لا أزال أراه نونو ليس لشيء إلّا لأنّني اعتنيتُ به مذ كان نونو، وأنّه ينبغي أن يكون لي نصيب يوميّ من الأحضان مثل ماما، وينتهي النقاش كل مرّة بأن يرفض رفضًا لا جدال فيه. اليوم اقتنع، واحتضنني ٣ مرّات بكل بطواعية وحبّ. كم أحبّه هذا النّونو. أحبّه بلا شروط، أحبّه في كلّ أحواله، أشعر أنّه كقطعة من قلبي، وأنّ حبّه في قلبي يتضخّم كلّ يوم. أحبّه كثيرًا، وأخاف أن يكبر إلى الحدّ الّذي يبتعد فيه عنّي. دائمًا ما أتساءل عن حبّ الأمّهات، هل يستطيع قلبي أن يحبّ أكثر؟ هل هناك من سيستحوذ على قلبي أكثر؟ كيف لقلبي أن يكون أكثر سعة؟ هل تجربة الحبّ الّتي سأمرّ بها حين الأمومة تتفوّق على هذه الّتي مع أخي؟ القلب أعجوبة، وأتمنّى أن أجرّب كلّ صنوف الحب.. أن أختبر إمكانيّات قلبي كلّها، أن أمطّ جدرانه إلى أبعد مدى، وأُدخل فيها كلّ حبّ ممكن قبل أن أموت.

اليوم كان يومًا سعيدًا جدًا، خرجتُ مع ماما في الصّباح، وأنجزنا كثيرًا في خرجتنا تلك، وضحكنا. عدتُ وتناولتُ غدائي ثمّ خرجت مرّة أخرى إلى حيثُ قابلت الكثير من الفتيات الجميلات، فعلنا ما فعلنا، تحدّثنا كثيرًا، واستمتعتُ برفقتهنّ، ورؤية ذاك البريق في أعينهن، البريق الّذي ينبّئ بدخول عوالم جديدة، البريق الّذي يصاحب دهشة الجديد، البريق الملازم لأعين كلّ من يهمّ بالطّيران. توجّهتُ بعدها مع اثنتين إلى مطعم ما. أكلنا وتحدّثنا. كنتُ منصتة في أغلب الوقت، متعبة، ومستمتعة. أحببتُ رفقتهما، وتجلّت لي معهما.. أشياء، وأشعر أنّ لديهما عوالم ما تجرأتُ دخولها يومًا، أو ما فكّرتُ في ذلك. أحبّ هذا الصّنف من النّاس، أولئك الّذين يكبرونني في كلّ شيء، ورغم ذلك ما أزال أملك رفقتهم والحديث معهم بفرصة متعادلة.


أشعر أنّني محظوظة جدًا، أكثر ممّا أستحقٍ، وأنّني رغم التّشتت الّذي أعيشه أمتلك الكثير، وقادرة على فعل الكثير، وأنّ الحياة حلوة، والإجازة ما تزال ممتدّة للمزيد من الإنجاز، وأنّني لذلك أدين بالكثير للعالم والنّاس. أريد أن أعطي كلّ شيء أمتلكه، وأن أمتلك كلّ ما أستطيع حتّى أعطيه.








هناك 3 تعليقات:

  1. لم أقرأ منذ زمن شيئا لامسني كما هي تدوينتك هذه .. شكرا .. قلمك كم هو ذكي ورشيق .. حفظك الله .

    ردحذف
  2. يا أهلًا أ. صفية!
    مدوّنتي تحفل بوجودك فيها. سعيدة جدًا بك وبما كتبتِ. غمرتني بلطفك وكرمك.
    كل الحب والامتنان

    ردحذف
  3. أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.

    ردحذف