الأحد، 13 سبتمبر 2020

في صباح مناسب للكتابة،،

 الساعة ٦:١٥ صباحًا. هذا صباح للكتابة (بصفتها وسيلةً للتعبير عن الذات)، ولكل ما هو جميل. لأن هذه الأيام تمرّ سريعًا، وفي خفاء، أودّ أن أكتب شيئًا عنها أتذكرها به. هذه الأيام أيام ترقّب، وانتظار، وهي كذلك أيام مثقلة بهم الرغبة بفعل الكثير الذي ينبغي فعله قبل حصول هذا الأمر المنتظر، ولا زلت لا أعرف ماذا ينبغي أن يفْضُل على غيره لأعطيه وقتي وتركيزي في وقت ضيّق ومحدود، كأيامي هذه. أريد أن أفعل كلّ شيء، كعادتي، وبرغم ما تجعلني هذه الرغبة أعيش كأخطبوط، يداي مغموستان في كل شيء، وذهني مشغول بشكل شيء، إلا أن هذه الرغبة بالذات هي ما يجعلني أشعر أنني حيّة، وهي تصديق لإيماني بأن الحياة حبلى بالاحتمالات، وأنها واسعة، وأن إدراكي لوفرة ما يمكن فعله،، ذاك الذي يجر معه حماسي، حمااااسي الذي إن علا فهو.. يعلو!- يغلب قلقي من انتهاء عمري قبل فعل ما أودّ فعله؛ التوق لفعل الكثير.. للفعل والخلق والإبداع والتصميم وجمع الأشياء المتناثرة في قالب جديد يعطيها معنى.. التّوق للأخذ والعطاء، للتبادل مع الكون والأشياء من حولي قبل أن يصفرّ عدّاد عمري، وأسكُنُ، وأنا لما بدأت الحركة الحقيقية.. هذا التوق الذي لا ينفكّ عنّي، ولا أعرف نفسي دونه، ودونه لا أكون، هو ما يحرّكني، وينعشني، ويحرقني.


أتوقف للمشي والاستماع لمتحدث ماهر يحكي بشغف عن كتاب جمهورية أفلاطون، ثم أعود.. على أمل. 

الساعة ٧:٤٠ صباحًا. في الحوش رغم الحرّ، على المرجيحة، أكتب بعد المشي والانتهاء من المحاضرة الظريفة التي أخذت بي بعيدًا إلى عالم الإغريقيين الذي يشبه عالمنا كثيرًا رغم تباين الأزمان. عجيب كم نتشابه نحن البشر، وتتشابه قلوبنا، وأفكارنا، وإن تغير شكل الأشياء وأسماؤها. سقراط هذا يعجبني جدًا.. جدًا. لو كانت الحياة لا اعتبار فيها لأمور مقلقة كالمال والوظيفة، لكنت درست كل ما يبقيني في تلك العوالم الغنية بالجدالات الفلسفية العذبة. أنا من أولئك الذين لا يملّون الكلام الذي يستمرّ ولا يكلّ ما دامت هناك فكرة تبدأ كبذرة ثم تتكور على ذاتها ككرة ثلج حتى تصير مملكة.. مملكة أفكار، نموذجًا واضحًا جامعًا يمكن أن يجتثّ غيره ويحلّ محلّه، ويعطي الأسباب لكل شيء، ولا يهزه إلا مملكة أخرى، ذات أسباب أكثر رسوخًا، ومكونات أكثر تماسكًا. عالم الأفكار هذا عالم عظيم، وأودّ لو أنتمي إليه بكلّي.. يومًا ما. هناك، حيث الممالك تصنع، وتنهار، وتشنّ حروب، أخذ وردّ، في عالم المعنى، ودون خسائر لها رائحة ودم؛ هناك، في عالم الأفكار، حيث تبدأ الأشياء كلها، وكل ما في عالم المادّة يسعى جاهدًا أن يحاكيه.، وإن لم يفعل، فهو يستمدّ أسباب وجوده منه، ولو كذبًا.


لنعد إلى الحديث عن هذه الأيام..

بالأمس انتقلت إلى مرحلة مختلفة في عالم الواقع، حيث اضطررت إلى تفعيل حساب أبشر الخامل بعد أن جعلته يستقلّ عن حساب والدي، لحاجة حقيقية، حاجة أثقلت كاهلي شعورًا بالمسؤولية ولكن.. هذه القدرة على الانفصال، والفعل، تسعدني جدًا. لم أضطرّ يومًا إلى هذه الخطوة اضطرارًا حقيقيًا، وكان وجود حسابي ضمن حساب والدي أمرًا لا يزعجني، لأنه ما من حاجة حقيقية تدعو إلى هكذا انفصال. حبل سرّي آخر يقطع. ما عاد هناك حبال بعد السفر بعيدًا، والاستقلال الماديّ، وأخيرًا، هكذا "أفعال"، ما عاد هناك شيء يربطني بأرضي الماضية، أرض ماضيّ، الأرض التي نشأت فيها وعرفت بها ذاتي، ومنها انطلقت إلى العالم، وفيها تعلمت أسماء كلها، إلا حبلٌ أختار أن أربط طرفيه، بي، وبهم، وبكل ما مضى. أنا من أقرر مكاني، ما عاد شيء يقرر عنّي، إلا ما أسمح له أنا بذلك، وهذه الحقيقة تنسف كل عذر للافعل، للافعل أي شيء.. أعني: أي شيء، كامتلاك مزرعة في قرغيزيا، مثلًا! العالم ملكي، رغم أنوثتي، وكل ما يبطئ سيري، ولكنه لا يزال ملكًا لي ما دمت أملك قرارًا في ذلك. يمكن فضّ الأسباب الواهية كما يُفضّ طيف حبيب من الماضي، أو بعوضة جائعة مزعجة، أو حتى غبار علق بجسم جامد بعد أن ترك فيه ملصق آثار غراء. يمكن فض الأسباب كلها، مهما بدت أنها لا تُفضّ، ما دمت عاقلة، وحية، وأتنفّس، وأتوق، وانقطعت حبالي..

وما دمتُ كذلك، فأنا أحاول أن أستحضر هذه الحقيقة في كل مرة تتقوّض فيها دواخلي حتى أستمرّ في النّقش والنّكش والدّقّ وتجسس متانة الجدران التي تحيط بي،،


سأدخل. الحرّ بلغ مبلغه.


ولأن هذه الأيام أيام حساسة جدًا، تسبق عيد ميلادي بقليل.. فاستحضار حقيقة كهذه مهمّ، لأنه ما من شيء يمكن أن يحثّني على تصميم مشروع حياة جادّ، تستقيم فيه التزاماتي اليومية مع ذاتي كما إدراك محدودية الوقت، وحتمية مروره، رغم كل ما أتعذّر به لأن أكون أقلّ مما ينبغي أن أكون.في بداية العام الميلادي، اتخذت "الانطلاق" شعاري لهذا العام، على أن لا أبلغ العمر الذي سأبلغه دون أن أن أنطلق فعلًا، ولا أظن أنني فعلت. لربما يكون هذا التأريخ الجديد المؤلم، بالواحد الذي يضاف لآحاد عمري، بداية حقيقية. أشعر أنها كذلك. الابتعاد عن مواقع التواصل بشكل تام إلا من "الشات" لضرورة الأعمال والتواصل مع البشر ساعدني كثيرًا على تحسين مزاجي، والتركيز فيّ، في حياتي أنا، في تفنيد أفكاري وفهم شعوري. لم أبدأ روتينًا صارمًا بعد، لا زلت أكتشف كيف أتعامل مع هذه الذات المعقّدة العصيّة على الخضوع لنظام لا تؤمن بجدواه إن فلسفَت كلّ فعل فيه، أسايرها كما أساير طفلًا صغيرًا، أو وحشًا ضاريًا جائعًا، وأنا أردد أغنية حمود الخضر "مستنّيك، ولك الذي مني يا زين يرضيك" مُحاولةً استرضاءها مع كلّ ما أحثها على فعله، واستيعاب سنة التدرّج الكونيّة بدلًا من لومها عندما تزلّ وهي لما تعتاد الصواب، والتشبّث بالأفعال الصغيرة التي تشكّل في مجموعها نتائج مذهلة دون أن أستبق/أنتظر أي نتيجة؛ أن أستحضر الصورة الكبيرة الأخيرة في مخيلتي كدافع، وأعوّل على إيماني بأن الخطوات الصغيرة تقودني إليها، وأن التزامي بهذا الفعل الصغير أهم شيء يمكن فعله الآن.. أن أؤمن! للمرة الأولى منذ مدّة، أترك لها -ذاتي- فرصة أن تختار متى تتريّض، ومتى تقرأ، ومتى تعمل، حتى إن رصدتُ نمطًا، أمسكتُ به واتخذته نظامًا؛ نظامًا مصممًا من رصد اختياراتي المتكررة. أنا العالِم الذي يلاحظ، وهذه الذات هي الكائن العجيب الذي أحاول اكتشاف الطريقة المثلى لأساعده على التكيّف في عالم الروتين الذي ما اعتاد عليه يومًا، ولكنني أشعر بضرورته، ما دامت الحياة القادمة بكل ما تحويه من مجهول تحمل في خباياها احتمالات تخيفني بقدر ما تعجبني.. لأيام لا أملك فيها ترف إضاعة أجزاء الوقت الصغيرة أو أخذ فسحة بين المشاغل.. لأيام أُ ح قّ قُ فيها وجودي، أكون فيها بكلّي، كل عضو فيّ له صوت، كل حركة أتحركها لها صدى، أصدح بصوتي، وأملك رأيًا، وأتبادل الهواء مع باقي الكائنات كما كل مخلوق حيّ! تخيّلوا! أن أعيش.. ياااه. أليس مدهشًا أن يوجد المرء دون اختياره، ثم يكون بحاجة إلى أن يوجد، أن يحقق هذا الوجود.. وكأنه اختار وجوده، وكأنه كان دائمًا ينتمي إليه؟ 


تكلمتُ كثيرًا وأنا ما بدأت، ولكن تأخر الوقت. ينبغي أن أرتاح قبل دواميَ الافتراضي، لأن يومي سيكون حافلًا.. 


المهم أن نستمرّ في التعبير يا علياء يا حبيبتي، يا وحشي الأثير، طيّب؟