السبت، 10 يونيو 2017

١٥ رمضان | عن.. أشياء كثيرة

كنت أنوي أن يكون المنشور القادم الّذي أكتبه هنا عن خلاصة التّجربة الّتي خضتها في الأشهر الماضية، والّتي أظنّ أنّني خرجت منها بنتائج مفصليّة في فكري ونظّارة الحياة خاصّتي، إلّا أنّني لستُ أشتهي شيئًا الآن سوى الوصف العبثيّ الّذي أمارسه هنا عادةً للأفكار العابرة الّتي تمرّ بي لحظة الكتابة. أريد أن أمارس فعل الوصف ليس لشيء إلّا لكي أصف، لكي ألعب لعبة إحياء الشّعور،، أنتقل به من عالم اللّاحسّ إلى حروف مكتوبة خالدة، أقبض على الأفكار الّتي تتجلّى كفقاعات صابون وأثبّتها بدبوس أزليّ، أخترق حرّيتها في الاختفاء وأحكم عليها بالوجود كما لو أنّها تستحقّه، وأعطيها ملامحًا وأوصافًا وأزمنةً، وأقارنها بما يشبهها وما لا يشبهها.. أشكّلها كصلصال كما أشتهي دون أن يحكم عليّ أحد: أنا سيّدة أفكاري، أنا من يختار لها كيف تخرج، كيف ترتدي، وبأيّ لون تصطبغ. أكملتُ قبل قليل بضع صفحات من سيرة إيزابيل الليندي في الكتاب الأوّل باولا، وصارت أفكاري العابرة تُسرد داخل رأسي كما لو أنّني أكتبها. دائمًا ما تحفّز إيزابيل فيّ هذه الرّغبة؛ أشعر من بعدها أنّ أيّ فكرة عابرة تتوقّف في فمي باحثةً عن قالب تتشكّل فيه. أودّ لو أفعل ذلك مرّة مع أفكار تستحقّ الوجود فعلًا، ولكن ليس هنا. لا أعرف متى، لا أتصوّر كيف، ولكن أريد أن أوظّف هذه الرّغبة الّتي لا أستطيع أن أقاومها في وصف كلّ شيء- في أمر حقيقيّ أجعل به العالم مكانًا أفضل، وأعبّئ به فراغًا ما، وأصلح به عطبًا، أو قلبًا، أو فكرةً، أو معنى.

أحضر جلسات ما هذه الأيّام، كلّ ما أفعله ويفعله غيري فيها هو ممارسة التّفكير الحرّ، ورغم أنّني لا أتّفق مع كلّ ما يحصل فيها، إلّا أنّني أحببت كلّ ما حصل. ما أفعله هناك يشبه الّذي أفعله هنا، فأنا هنا أقبض على مشاعري وأفكاري الطّائرة لأجل أن أفعل ذلك، أستخدم الوسيلة لغرض استخدام الوسيلة،، ونحن نفعل هناك الشّيء ذاته: نفكّر لأجل أن نفكّر، نعلّل أفكارنا لأجل أن نعلّلها، نخلق حوارات لأجل أن نخلق حوارات؛ لأجل أن نجعل أفكارنا تتحفّز للخروج، نتحدّث عن فكرة لأجل أن نسلّط الضّوء على كلّ جوانبها، وذلك كلّه يعجبني، وأكاد لا أصدّق أنّه يحصل؛ أنّ الحياة تعطيني مساحة حرّة لا يحكم فيها عليّ أحد، ولا يتوقّع فيها أحد شيئًا منّي، حتّى أنّني أنسى في معظم الوقت أنّني أفكّر لغرض التّفكير وحده فآخذ الحوارات منحنىً جادًّا وأحاول أن أتجنّب العبث فيها لأخرج منها بفكرة حيّة أستعملها فيما يتبقّى من حياتي. تعلّمت أشياء كثيرة من هذه الجلسات عن عالم الأفكار، وعن العقول الّتي تحتويها.. كيف أكون أكثر حريّة، كيف أرى فكرة الآخر، كيف لا أحكم عليها، كيف أنصت، كيف أسكت، كيف أبني، كيف أهدم، كيف أترك مساحة، كيف أخلق مساحة، وتعرّفت فيها على أناس طيّبين جدًا. أحبّ الطّيبين ولا أحد غيرهم. أحبّ أنّني مارستُ نفسي أمام مختلف العقول والشّخصيات هناك- بكامل أبعادها، ما كنتُ أشعر أنّني قادرة على أن أكون مزيّفة حتّى لو أردتُ أن أكون. كنتُ ساذجة جدًا، وحرّة جدًا، وسعيدة

في الأيّام الّتي مضت، رافقني شخصٌ غريب جدًا، ما استطعتُ حتّى اليوم أن أعطيه وصفًا ما رغم طول المدّة الّتي قضيناها معًا، ومختلف المواقف الّتي عبرنا خلالها سويّة. جاءت في حلُمي اليوم، وكنا فيه نسكن غرفة واحدة كما فعلنا مرّة في إحدى الأسفار. يندر أن يمرّ عليّ أشخاص بذات الفرادة وذات الغموض. هي من أولئك الّذين يمرّون خفافًا، تجيء وتدخل خفيفة خفيّة كما لو أنّها ما كانت، ولكن المواقف الّتي تشاركناها والحوارات الّتي خضناها واضطرتنا الحياة إليها في أوقات حرجة جدًا، وحسّاسة جدًا، وغريبة جدًا- كانت ثقيلة وغزيرة بالمعاني. أحيانًا أشعر أنّها كانت من صنع خيالاتي، ما جمعتنا صورة واحدة لاثنتينا حتّى أتذكّر كيف كان الّذي كان. ما وجدتُ لها تصنيفًا بعدُ، كانت الحدود بيننا هلاميّة وغريبة، نتشارك أخبارنا وهمومنا التّافهة كصديقتين مقرّبتين مرّة، ونتعامل كالغرباء في المرّة الّتي تليها. كان يندر أن أراها صدفة، كان يستحيل أن تمكث دقيقة واحدة إضافيّة عن حاجتها، أو أن تبدو في مكان لا تؤدّي فيه غرضًا ما. لا تتكلّم أكثر ممّا تريد، لا تُظهِر من نفسها أكثر مما يتطلّب الموقف، لا تستمع لما لا تريد أن تستمع إليه، لا تبدي ردّة فعل زائدة عن الحاجة، لا تطلب شيئًا من أحد مهما تفُه الطّلب، تُفضّل أن تبقى صامتة ورزينة وهادئة، تبتسم لي من بعيد، وأفهم أنا حاجتها للابتعاد، فلا أصرّ أن تقترب ولا أقترحُ حتّى، بينما يفعل الآخرون بدهشة، ويقابلون ردّة فعلها بانزعاج. القدر وحده هو من جمعنا في تلك التّجربة المريرة، ولولا أنّ نظرتنا للأمور كانت تتشابه وتختلف عن البقيّة، والمسلسل الّذي كنّا نستشهد به في أحاديثنا كان واحدًا، والغمّ الّذي أحاط بنا كان واحدًا، ما كان يمكن لي أن أخوض حوارًا واحدًا مع تلك الفتاة الشّبحيّة الجميلة الّتي لا تكاد تظهر حتّى تختفي. كنتُ الوحيدة الّتي استطاعت أن ترى الجانب الآخر منها، لأنّها كانت عصيّة على الفهم، وكنتُ.. ربّما، أفهم. كنا نتفاهم، ولم يكن يفهمنا أحد. كانت أفعالنا ابتداءً، وقبل الخوض في كلّ شيء، تتشابه وتبدو غريبة للكل. كلتانا تمشي بحواجز شفّافة حولها تمنع الغرباء من خلق أحاديث ليست ذات معنى، كلتانا تجلس وحيدة، تغدو وحيدة وتروح وحيدة، تغوص في ذاتها أوقات الفراغ، تجلس في ركن قصيّ وتقرأ، وتكره المكان. كنّا نُقصي كلّ أحد، حتّى حصل وأن اجتمعنا في مهمّة، فاصطدمت جدراننا حتّى تكسّر بعضها وتشكّلت بعض النّوافذ. أتمنّى لو تتقاطع أقدارنا مرّة ثانية. انتهى الأمر الّذي يجمعنا، واختفت إلى الأبد، ورغم أنّني أكره كلّ ما يتعلّق بتلك التّجربة، وأشعر أنّني خرجت منها خاسرة مستنزفة، تبقى صداقتها مكسبًا، والذّكريات الّتي جمعتنا سعادة مخزّنة أستزيد منها في أوقاتي التّعيسة.

في إحدى الجلسات الّتي ذكرتُها آنفًا، قيلالحياة تجربةوكان على كلّ منّا أن يختار موقفه حيال تلك الجملة بين: أتفق/أختلف/لا أعرف، وأن يعلّل من بعدها اختياره. اختارت إحداهنّ، لنسمّها (ر): أتّفق، وكان تعليلها: أتّفق مع كلمةتجربةفي وصف الحياة لأنّني أشعر أن الحياة ينبغي أن تُعاش بكلّ الحواسّ والشّعور؛ أن أعيشها كتجربة بكلّ ما أملك وما وفّرته لي الحياة من معطيات، أن أجرّبها بكلّ الممكنات. وأنا أقرأ سيرة إيزابيل، وجدتُ أنّ إيزابيل تعيش المفهوم الّذي تبنّته (ر) بشكل ساحر؛ فإيزابيل كانت منفتحة لكلّ الفرص التي تعطيها إيّاها الحياة، فقد جرّبت أن تكون صحفيّة، وكاتبة مسرحيّات، وكاتبة وصفات طبخ، ومقدّمة برنامج تلفزيوني، وأشياء لا تُذكر. كانت تقبل الفرص الّتي تقف في طريقها، وتجرّب فيها حظّها، وتتعلّم منها حتّى تصير محترفة. لم تكن إيزابيل تضع خطّة، كانت تمضي وحسب، تقبل الفرصة -سواءً تشكّلت تلك الفرصة في وظيفة جديدة شاغرة، أو في حماس لا يهدأ لبدء مشروع ما-، تبتكر فيها وتبدع، وتحبّ ما تفعل، حتّى وجدت أنّ ما يجمع كلّ ما تفعله في نهاية المطاف هو كتابة الرّوايات، فمضت في ذلك الطّريق ككاتبة بارعة سعيدة بما تفعل. رغم أنّني اخترت (لا أعرف) في التّمرين أعلاه، إلّا أنّني أودّ أن أتبنّى مفهوم (ر) وأن أعيش الحياة كتجربة، دون أن أضع خططًا لا تتّسم مع طبع الحياة المتقلّب، وأن آخذ الفرص المتوفّرة وأحفل بها وأعطيها كلّ ما عندي. أظنّ أن لعنة العصر هي وهم القدرة على تنفيذ الخطط الّتي يضعها كلّ منا بناء على اختياراته الّتي يفضّل بين كلّ الخيارات الممكنة لشخص في مثل عمره، كمن يشير بإصبعه على الخارطة ويودّ أن يكون من أهل تلك البقعة. تقول مايا -الشخصيّة البطلة في رواية دفتر مايا لإيزابيل الليندي- وهي تصف دانييل “عاش حياة عاديّة، ويمكنه تخطيط مستقبله بالثّقة اللاعقلانيّة لمن لم يعرف المعاناة”. لا أريد أن أكون ساذجة كدانييل، أريد أن أعيش. لا أريد أن أنتظر أكثر، أريد أن أبني حياتي بالطّوب المتوفّر لديّ؛ فإنّني بالطّوب المتوفّر وحده سأرتفع لأحصل على طوب أفضل، أمّا انتظار هبوط الطّوب الّذي أحلم به، بل حتّى السّعي الحثيث لاكتسابه للشّروع في البناء دون البدء بالبناء بالطّوب المتوفّر- وهم وغباء وطفولة. لطالما انتظرت أن يصلني الطّوب الحلم حتّى أبدأ البناء، ولكن.. أظنّني، سأبدأ مهما كان، وأتوقّف عن الانتظار.

كنتُ متحمّسة للشروع في القيام بعدّة مشاريع بعد انتهاء الفصل الدّراسيّ، إلّا أنّ قواي تخور فجأة، وأشعر بتفاهة عجيبة حيال تلك الأفكار بطريقة أكره نفسي معها. لهذا السّبب بالذّات، صرتُ -ما إن أقدم على فكرة- أشاركها مع كلّ شخص من الممكن أن يصاحبني في تنفيذها، لأنّ شعور الفتور الّذي يليه فورًا لا يصبح بذات الفعاليّة بعد مشاركة الفكرة، بل ربّما يتلاشى تمامًا عندما أعبّر عن فتوري وأُقابل بحماس وتوبيخ ممّن شاركته. أشعر بموت عام وبلادة بسبب الوضع السياسيّ المتوتّر.. لأسباب كثيرة خاصّة تمسّني شخصيًا وتمسّ من أحب، ولأنّ كل شيء جيّد في ظلّها صار يتقوّض ويستحيل. والحديث عن الأمور كما لو أنّها تخصّ الحكومات وحدها يجعلني أجنّ، فما هي الحكومات دون شعوبها؟ أليست الحكومة خادمة للّشعب، منظّمة له؟ أليست تمثّله وتتحدّث باسمه، وأفعالها تضرّه وتمسّ كل فرد يعيش تحت سلطتها؟ والأدهى والأمرّ أنّ التّعبير بحاله عن ذلك القهر الّذي نعيشه ممنوع حتّى. أين أعيش أنا يا ربّي؟ أيّ سجن هذا؟ ما يحصل لكلّ شخص عربيّ الآن هو ما يتكلّم عنه مصطفى حجازي تمامًا في وصفه للإنسان المقهور. يا رب كن للمظلومين والمتضرّرين والمقهورين، لكلّ من تفرّقت بينهم السّبل، وغزّة يا رب، الضّحيّة الأكبر.. كن لها.

هف! أشعر بالسّذاجة حيال ما كتبت، كالعادة. أفكاري العابرة كانت أكثر من ذلك بكثير، حتّى أنّني حين توقّفت عن الكتابة بالأمس أصابني صداع من تداعيها، إلّا أنّني حينما أنقطع، ثمّ أعود بعد الانقطاع، يبهت كلّ شيء ويبدو تافهًا، حتّى فعل التّعبير وحده يصبح تافهًا، وأودّ لو أنّني ما أقدمت على الفكرة من الأساس.


على العموم، لا يهمّ.