الأحد، 13 سبتمبر 2020

في صباح مناسب للكتابة،،

 الساعة ٦:١٥ صباحًا. هذا صباح للكتابة (بصفتها وسيلةً للتعبير عن الذات)، ولكل ما هو جميل. لأن هذه الأيام تمرّ سريعًا، وفي خفاء، أودّ أن أكتب شيئًا عنها أتذكرها به. هذه الأيام أيام ترقّب، وانتظار، وهي كذلك أيام مثقلة بهم الرغبة بفعل الكثير الذي ينبغي فعله قبل حصول هذا الأمر المنتظر، ولا زلت لا أعرف ماذا ينبغي أن يفْضُل على غيره لأعطيه وقتي وتركيزي في وقت ضيّق ومحدود، كأيامي هذه. أريد أن أفعل كلّ شيء، كعادتي، وبرغم ما تجعلني هذه الرغبة أعيش كأخطبوط، يداي مغموستان في كل شيء، وذهني مشغول بشكل شيء، إلا أن هذه الرغبة بالذات هي ما يجعلني أشعر أنني حيّة، وهي تصديق لإيماني بأن الحياة حبلى بالاحتمالات، وأنها واسعة، وأن إدراكي لوفرة ما يمكن فعله،، ذاك الذي يجر معه حماسي، حمااااسي الذي إن علا فهو.. يعلو!- يغلب قلقي من انتهاء عمري قبل فعل ما أودّ فعله؛ التوق لفعل الكثير.. للفعل والخلق والإبداع والتصميم وجمع الأشياء المتناثرة في قالب جديد يعطيها معنى.. التّوق للأخذ والعطاء، للتبادل مع الكون والأشياء من حولي قبل أن يصفرّ عدّاد عمري، وأسكُنُ، وأنا لما بدأت الحركة الحقيقية.. هذا التوق الذي لا ينفكّ عنّي، ولا أعرف نفسي دونه، ودونه لا أكون، هو ما يحرّكني، وينعشني، ويحرقني.


أتوقف للمشي والاستماع لمتحدث ماهر يحكي بشغف عن كتاب جمهورية أفلاطون، ثم أعود.. على أمل. 

الساعة ٧:٤٠ صباحًا. في الحوش رغم الحرّ، على المرجيحة، أكتب بعد المشي والانتهاء من المحاضرة الظريفة التي أخذت بي بعيدًا إلى عالم الإغريقيين الذي يشبه عالمنا كثيرًا رغم تباين الأزمان. عجيب كم نتشابه نحن البشر، وتتشابه قلوبنا، وأفكارنا، وإن تغير شكل الأشياء وأسماؤها. سقراط هذا يعجبني جدًا.. جدًا. لو كانت الحياة لا اعتبار فيها لأمور مقلقة كالمال والوظيفة، لكنت درست كل ما يبقيني في تلك العوالم الغنية بالجدالات الفلسفية العذبة. أنا من أولئك الذين لا يملّون الكلام الذي يستمرّ ولا يكلّ ما دامت هناك فكرة تبدأ كبذرة ثم تتكور على ذاتها ككرة ثلج حتى تصير مملكة.. مملكة أفكار، نموذجًا واضحًا جامعًا يمكن أن يجتثّ غيره ويحلّ محلّه، ويعطي الأسباب لكل شيء، ولا يهزه إلا مملكة أخرى، ذات أسباب أكثر رسوخًا، ومكونات أكثر تماسكًا. عالم الأفكار هذا عالم عظيم، وأودّ لو أنتمي إليه بكلّي.. يومًا ما. هناك، حيث الممالك تصنع، وتنهار، وتشنّ حروب، أخذ وردّ، في عالم المعنى، ودون خسائر لها رائحة ودم؛ هناك، في عالم الأفكار، حيث تبدأ الأشياء كلها، وكل ما في عالم المادّة يسعى جاهدًا أن يحاكيه.، وإن لم يفعل، فهو يستمدّ أسباب وجوده منه، ولو كذبًا.


لنعد إلى الحديث عن هذه الأيام..

بالأمس انتقلت إلى مرحلة مختلفة في عالم الواقع، حيث اضطررت إلى تفعيل حساب أبشر الخامل بعد أن جعلته يستقلّ عن حساب والدي، لحاجة حقيقية، حاجة أثقلت كاهلي شعورًا بالمسؤولية ولكن.. هذه القدرة على الانفصال، والفعل، تسعدني جدًا. لم أضطرّ يومًا إلى هذه الخطوة اضطرارًا حقيقيًا، وكان وجود حسابي ضمن حساب والدي أمرًا لا يزعجني، لأنه ما من حاجة حقيقية تدعو إلى هكذا انفصال. حبل سرّي آخر يقطع. ما عاد هناك حبال بعد السفر بعيدًا، والاستقلال الماديّ، وأخيرًا، هكذا "أفعال"، ما عاد هناك شيء يربطني بأرضي الماضية، أرض ماضيّ، الأرض التي نشأت فيها وعرفت بها ذاتي، ومنها انطلقت إلى العالم، وفيها تعلمت أسماء كلها، إلا حبلٌ أختار أن أربط طرفيه، بي، وبهم، وبكل ما مضى. أنا من أقرر مكاني، ما عاد شيء يقرر عنّي، إلا ما أسمح له أنا بذلك، وهذه الحقيقة تنسف كل عذر للافعل، للافعل أي شيء.. أعني: أي شيء، كامتلاك مزرعة في قرغيزيا، مثلًا! العالم ملكي، رغم أنوثتي، وكل ما يبطئ سيري، ولكنه لا يزال ملكًا لي ما دمت أملك قرارًا في ذلك. يمكن فضّ الأسباب الواهية كما يُفضّ طيف حبيب من الماضي، أو بعوضة جائعة مزعجة، أو حتى غبار علق بجسم جامد بعد أن ترك فيه ملصق آثار غراء. يمكن فض الأسباب كلها، مهما بدت أنها لا تُفضّ، ما دمت عاقلة، وحية، وأتنفّس، وأتوق، وانقطعت حبالي..

وما دمتُ كذلك، فأنا أحاول أن أستحضر هذه الحقيقة في كل مرة تتقوّض فيها دواخلي حتى أستمرّ في النّقش والنّكش والدّقّ وتجسس متانة الجدران التي تحيط بي،،


سأدخل. الحرّ بلغ مبلغه.


ولأن هذه الأيام أيام حساسة جدًا، تسبق عيد ميلادي بقليل.. فاستحضار حقيقة كهذه مهمّ، لأنه ما من شيء يمكن أن يحثّني على تصميم مشروع حياة جادّ، تستقيم فيه التزاماتي اليومية مع ذاتي كما إدراك محدودية الوقت، وحتمية مروره، رغم كل ما أتعذّر به لأن أكون أقلّ مما ينبغي أن أكون.في بداية العام الميلادي، اتخذت "الانطلاق" شعاري لهذا العام، على أن لا أبلغ العمر الذي سأبلغه دون أن أن أنطلق فعلًا، ولا أظن أنني فعلت. لربما يكون هذا التأريخ الجديد المؤلم، بالواحد الذي يضاف لآحاد عمري، بداية حقيقية. أشعر أنها كذلك. الابتعاد عن مواقع التواصل بشكل تام إلا من "الشات" لضرورة الأعمال والتواصل مع البشر ساعدني كثيرًا على تحسين مزاجي، والتركيز فيّ، في حياتي أنا، في تفنيد أفكاري وفهم شعوري. لم أبدأ روتينًا صارمًا بعد، لا زلت أكتشف كيف أتعامل مع هذه الذات المعقّدة العصيّة على الخضوع لنظام لا تؤمن بجدواه إن فلسفَت كلّ فعل فيه، أسايرها كما أساير طفلًا صغيرًا، أو وحشًا ضاريًا جائعًا، وأنا أردد أغنية حمود الخضر "مستنّيك، ولك الذي مني يا زين يرضيك" مُحاولةً استرضاءها مع كلّ ما أحثها على فعله، واستيعاب سنة التدرّج الكونيّة بدلًا من لومها عندما تزلّ وهي لما تعتاد الصواب، والتشبّث بالأفعال الصغيرة التي تشكّل في مجموعها نتائج مذهلة دون أن أستبق/أنتظر أي نتيجة؛ أن أستحضر الصورة الكبيرة الأخيرة في مخيلتي كدافع، وأعوّل على إيماني بأن الخطوات الصغيرة تقودني إليها، وأن التزامي بهذا الفعل الصغير أهم شيء يمكن فعله الآن.. أن أؤمن! للمرة الأولى منذ مدّة، أترك لها -ذاتي- فرصة أن تختار متى تتريّض، ومتى تقرأ، ومتى تعمل، حتى إن رصدتُ نمطًا، أمسكتُ به واتخذته نظامًا؛ نظامًا مصممًا من رصد اختياراتي المتكررة. أنا العالِم الذي يلاحظ، وهذه الذات هي الكائن العجيب الذي أحاول اكتشاف الطريقة المثلى لأساعده على التكيّف في عالم الروتين الذي ما اعتاد عليه يومًا، ولكنني أشعر بضرورته، ما دامت الحياة القادمة بكل ما تحويه من مجهول تحمل في خباياها احتمالات تخيفني بقدر ما تعجبني.. لأيام لا أملك فيها ترف إضاعة أجزاء الوقت الصغيرة أو أخذ فسحة بين المشاغل.. لأيام أُ ح قّ قُ فيها وجودي، أكون فيها بكلّي، كل عضو فيّ له صوت، كل حركة أتحركها لها صدى، أصدح بصوتي، وأملك رأيًا، وأتبادل الهواء مع باقي الكائنات كما كل مخلوق حيّ! تخيّلوا! أن أعيش.. ياااه. أليس مدهشًا أن يوجد المرء دون اختياره، ثم يكون بحاجة إلى أن يوجد، أن يحقق هذا الوجود.. وكأنه اختار وجوده، وكأنه كان دائمًا ينتمي إليه؟ 


تكلمتُ كثيرًا وأنا ما بدأت، ولكن تأخر الوقت. ينبغي أن أرتاح قبل دواميَ الافتراضي، لأن يومي سيكون حافلًا.. 


المهم أن نستمرّ في التعبير يا علياء يا حبيبتي، يا وحشي الأثير، طيّب؟ 

الاثنين، 25 مايو 2020

الخط الزمني لصلابتي الداخلية - A timeline for my atmabala

قرأتُ مرة عبارة أظنها لنيتشة، يقول فيها ما يدور حول المعنى: إنّها لمصيبة أن يستيقظ المرء فيقرأ بدلًا من أن يكتب، لأنه بذلك يبدّد أفكاره الخاصة ويقتلها بحشو رأسه بالمزيد من أفكار الآخرين في وقت الصباح الذهبي. وبالرغم من أن الصباح ليس الوقت الذهبي للكتابة بالنسبة لي، بل على العكس، لا تغمرني المشاعر الدافعة للتعبير ولا أكون أهيم في عالم الأفكار إلا في الليل، وتحديدًا بعد منتصفه، ودائمًا ما يجيء التدوين كتضحية عن نوم مستقرّ، ويتطلب مني في ذلك الوقت المتأخر جلسة واحدة طويلة أستفرغ فيها ما عندي وأذهب، ثم أجاهد نفسي في الأيام التي تلي لتنظيم جدول نومي من جديد..
وبالرغم من ذلك، قررتُ أن أكتب يوميّاتي، أو أي شيء، في الصباح هذه المرة من باب التجربة. سعيدة بقدرتي على النوم في الليل والاستيقاظ التاسعة صباحًا في ثاني أيام العيد، بعد شهر كامل من السهر حتى ٧ صباحًا.

لم يكن العيد أفضل عيد مرّ عليّ. كنت أنجح كل عيد في تشتيت فكري عن كل سبب تافه يفتعل مشكلة، بـ"هجولة" الزيارات المتتابعة وضوضاء الأصوات حولي وافتعال الفرح مع الآخرين، والحصول عليه، كل ذلك وأنا أعي تمامًا ما يحصل حولي، وأملك تحليلًا جاهزًا لكل حادثة، وكان ذلك ينجح، ثم كان هذا العيد الذي نفدت فيه حيل التشتيت، وحصلت المواجهة.
لم نأبه أنا وأختي، اختلقنا الفرح، وعشناه، وحاولنا استجلابه بكل وسيلة، ومضى اليوم. حاولنا، وهذا ما يهمّ. لا أشعر بالحنق ولا بالغضب.. أعني، أنا أفهم أن الحياة مزعجة في المجمل، وأن دور البشر فيها هو شقّ طرقهم فيها بالجهد الواعي، وأن كل من يدعّي غير ذلك هو.. مدّعٍ، يصدح بنصف الحقيقة. لكلٍّ منغّصاته، وأنا -رغم كل شيء- أشعر بمنّة الله عليّ في كلّ شيء.. في الرغبة بالمحاولة، في القدرة على المحاولة، في التفاصيل الصغيرة المبهجة، في وجود أختي بجانبي، في بلوغ رمضان حتى آخره، في النظارة النظيفة التي أمتلكها بعد رمضان، والقلب المرتوي المتحفّز للعمل، والذهن الأصفى..
في الأحباب الذين ذكرتهم وذكروني، وفي جلسة السرير المريحة آخر اليوم حيث استطعت أن أفرّ إلى حيث أريد.. بعد المحاولات. أن نحاول، هذا كل ما ينبغي، وهذا ما فعلت، وما سأفعله في الأيام القليلة القادمة.

أنا هكذا أكون صلبة.

(هنا تتوقف الكاتبة لمغالبة رغبة عارمة في البكاء)

لننعد بالزمن قليلًا.
بدأ رمضان وأنا في أكثر حالات ذهني تشوشًا. كان العام عام الفوضى الداخلية. لم يمر يوم لم أسائل فيه موقعي من كل شيء، وتحديدًا، من حيث المهنة والدراسة. هل ما أفعله هو ما أريد فعله، هل أكمل، هل أتوقف الآن، وهل أقطع عملي بدراستي؟ وإن كنت سأدرس، ماذا وكيف وأين ولمِ، وما البحث الذي ينبغي أن أركز عليه إن كنت سأدرس، وكيف أهندس حياتي بعد الدراسة إن كنت سأدرس، وما الفارق الذي ستضيفه دراستي إلى حياتي المهنية، وهل الدراسة بأي حال ضرورية أصلًا؟ وكيف أقيس وزن الحياة المهنية في مقابل جوانب الحياة الأخرى، وماذا أفعل بالمشاريع التي بين يدي، وماذا أفعل ببنائي الفكري، هل أخطط له؟ هل أترك الأمر يمضي وفق اختياراتي القرائية العشوائية؟ وإن كان ينبغي أن أخطط لذلك، ما الذي ينبغي أن أبدأ به؟ هل ينبغي أن أخطط لكل شيء؟
إلى أي حد أستطيع التحكم بحياتي؟ ما قدر السلطة الذي أمتلكه في القدر؟

ما دوري كابنة، كأخت، كصديقة، كصاحبة مشروع، كمتخصصة في مجالي، كعضوة في مجتمع، كبشريّة في هذه العالم؟
هل المسؤولية التي تقتلني تجاه الضعاف من البشر ينبغي أن تحدد طريقي الآن؟ هل فكرة الموت ينبغي أن تحدد مسار حياتي الآن؟ هذا ما فعلته؛ أكان ذلك صحيحًا؟ هل كل موقف مهنيّ هو موقف أخلاقي؟ هل كل خطوة أتخذها في حياتي الخاصة موقفٌ أخلاقيّ؟ هل هناك فصل ما؟

كيف ينبغي أن أرى الأشياء؟ كيف أكون؟ هل ينبغي أن أكون؟ وعندما أشعر أنني أغرق في وحل الأسئلة، يكون السؤال: هل يمكن أن لا أكون؟
كيف لا أكون؟
هل الوجود أشرف من العدم؟ ويجيب المناطِقة أن نعم.

كل سؤال كنت أجيب عليه وأعاود الإجابة عليه، وأدخل في نقاشات مطوّلة حتّى ملّ مني الآخرون، ثم أعاود تشكيل إجاباتي، وهكذا دواليك، دون حد أقف عنده. كنت سأجنّ.

استقطعتْ ذلك كله رحلتي المفاجئة لأمريكا. تركتُ عملي، وفي ٥ ساعات حزمتُ أغراضي، وفي غضون يومين من القرار كنت قد ركبتُ الطائرة. أنا، والطائرة، ورواية ظريفة صفراء، ودفتري الذي ابتعته من أزقة إسطنبول في إحدى رحلات العمل، وحقائبي الزرقاء، والسماء بغيومها التي تجتمع وتتبدّد، وأنا.. أجلس بجانب النافذة بقلب مخطوف بجمال الغيوم، سعيد لفراره من الدوامة التي كاد أن يغرق فيها، منتعش للبداية الجديدة، مهمومٌ.. لا يزال، ولكنّه فرّ! فرّ من جغرافيا لأخرى مغايرة، بعيدة كل البعد، وهو يمنّي نفسه أن تحمل البداية الجديدة إجابات لسؤالاته..

أتذكر المرة الأولى التي ركبت فيها سيارة تشق شوارع لوس أنجلوس والدهشة التي عمرت قلبي. كان الأمر مختلفًا، لا يشبه أيًا من رحلات عملي الكثيرة. كانت هناك دهشة، ونشوة، وإكليل لامع متناثر في قلبي وعيناي.. ورئتاي..
نشوة الجديد، والحرية، والاحتمالات الباهية التي تحملها البدايات..
نشوة فكرة العيش وحدي، بعيدًا عن كل ما اعتدت عليه.

أتذكر إحدى المرات الأوائل التي ركبت فيها سيارة مسافة ساعتين لتقلني من حيث كنت أسكن إلى مكان "الدوام" اليومي. كان العجوز الذي يسوق السيارة مهذبًا، ولم يشغل أي موسيقى بخلاف سائقي (أوبر) الآخرين، وسمح لي بفتح نافذة السيارة كما أُفضّل طيلة الطريق. في ذلك المشوار شعرتُ أنني فعلت الشيء الصحيح بأن أتيت، وحسمتُ شكّي. كانت لحظة صلابة أولى. كنت أسائل نفسي تعجبًا: هل كنت سأدع نفسي في دوامة المنزل والمكتب، وسط الأفكار التي كانت ستقتلني، بعيدًا عن رحلة يومية هادئة كهذه، وعن.. كل شيء جديد باهٍ؟ عن هذا الخضار، وهؤلاء البشر المختلفون، ونمط الحياة الجديد هذا، وخوض مغامرة يومية مثيرة؟ يا الله!
هواء الحرية ملأ رئتاي، ومنظر أشجار الغابات الممتد على طول الطريق كان يسكرني. كان عندي ٤ ساعات يوميًا طوال الشهر الأول للتفكير بكل شيء في صمت، بدموع تتساقط، ورغبة عارمة في الاستسلام لِلَّحظة، وترك الأفكار تنساب من رأسي كدخان.. كان ذهني يتنفس، ويلقي شيئًا من ركامه البالي خارجًا؛ خارجي.

توالت الأحداث سريعًا، في الأشهر الثلاثة التالية، ورغم أنني عشتُ وحدي، وكنتُ أتنقّل بدراجتي، كان الوقت أكثر ازدحامًا من القدرة على التفكير والتعامل مع قلقي الذي أجّلت التعامل معه إلى حين أستقرّ، هناك، في أمريكا البعيدة. كان قلقي يتجدد مع مواجهة أسئلة الطريق؛ طريقي في الحياة، والمصير المهنيّ حين التقديم على الجامعات وأثناء إجابة أسئلة استبانات التقديم الكثيرة الشبقة الفضوليّة. لم أستطع أن أحسم أمورًا كثيرة ظننت أن هذه الأشهر ستكون كفيلة بحسمها لأنه ما كان هناك وقت. ولكنني في المقابل، قابلت أناسًا رائعين، جربت الإجابة على بعض هذه الأسئلة وكان ذلك مفيدًا، أو أظنّه كذلك، وخضت نقاشات كثيرة ساعدتني بشكل ما على حل بعض المعضلات الآنية، وجربت أشياء جديدة خلسة. كان التنقل بالدراجة يساعد على تجديد هواء ذهني، وكان إعداد الوجبات ممارسة مريحة تستقطع الأفكار والعمل الجادّ وتعطيني إجازة صغيرة من همّ الحياة ومسؤولياتها. كانت الرحلة متنفسًا مهمًا انتشلني من الجنون، ولكنه لم يكن كافيًا لحسم الأمور التي تقبع داخلي وتطنّ كذباب شارف على الموت، لكنه لا يموت. كان إجازة قصيرة من القلق.

عندما عدتُ من أمريكا عادت الحياة وكأنني ما ذهبتُ. كان الكلّ يسألني عن الرحلة، ولم أكن أستطيع الإجابة لأنني عندما ذهبت فجأة، وعدت فجأة، شكّل الأمر شيئًا يشبه الفجوة السوداء في ذاكرتي. كان دائمًا يحصل أن أتساءل أن لمَ لمْ أفعل الشيء الفلاني في وقت أبكر؟ أو: متى فاتني هذا الأمر؟ ثم أتذكّر أنني.. آه، صحيح، كنتُ في أمريكا. في رمضان، مع صفاء الذهن، كانت تعود بي الذاكرة لبعض الذكريات هناك. تراودني لقطات من منزلي هناك فجأة (Flashbacks) فأخرج من لحظتي ثم أعود..
ولأنني منذ بداية الحجر المنزلي صرت أطبخ، لأن الطبخ صار المهرب الوحيد من العمل عن بعد- أشعر في كل مرة أضع فيها القدر على الفرن أنني في أمريكا، لأن مطبخي هناك كان المطبخ الأوّل الذي أطبخ فيه فعلًا، ولوهلة، كنت أشتاق تفاصيل حياتي هناك. أنا أشتاقها فعلًا، وأحب الذكرى، وأودّ لو أستعيد كل تفصيل بالحديث عنه، ولكن ليس الآن.

عندما عدتُ، عادت الأسئلة من جديد، وكأنني ما اقتطعت عمرًا من عمري لحسم الأمر وتهدئة الفوران. شككتُ بذاتي وقدراتي ورغباتي كما لم أفعل قبلًا، وتمنّيتُ أن أنسحب من الوجود أكثر من أي وقت مضى. كُنت محاصرة بأسئلة أبحث لها عن جواب خالص في صدقه تجنبًا لخداع نفسي، وعندما أفعل، كنتُ كما لو أطعنُ نفسي بسكّين. أيُعقل أنني رديئة إلى هذا الحدّ؟
صار الأمر هستيريّ، ولساني صار يزلّ بما يحمله ذهني من أسئلة وإجابات محتملة عندما أريد وعندما لا أريد.. صرت أستعرض بعضها على من أعرف وأثق بهم لعلّ شيئًا مختبئًا لم أتفطّن له ويراه غيري- يمكن له أن يغيّر شيئًا في المعادلة التي لستُ أرى سواها: أنني أفنيتُ عمري هباءً، وأنني في حقيقة الأمر.. صفر. كان ينقذني حديث البعض الطّيب الواثق عنّي، وكان يمدّني بحبل ينتشلني من جحيم أفكاري، ولكنّه ما كان كافيًا. أريد كلامًا أقبض عليه، وأفهم كيف جاء، ولم، وكيف قامت أركانه، وما المعادلة الناتجة إن غاب أحد عواملها، وهكذا. كل كلام لا أستطيع تقليبه والقبض عليه، لا أعوّل عليه.

سأنام قليلًا، ثم أعود.

نمتُ، وكلمت عمي وعمتي، وابنة عمي، و(تقهويت) مع ماما مهجة قلبي، والآن، بعد ساعة من التمرجح في مرجيحة الـ(حُوشْ: فناء المنزل)، أريد أن أكمل. ربما لهذا السبب أنا أتجنب أن أفعل أي شيء يتطلب تركيزًا واستمرارية قبل منتصف الليل، لأن الاستمرار دون مقاطعة مستحيل.

نكمل،

في ثالث سنة من سنوات الجامعة، كنت مع مجموعة في ما يشبه الدورة التدريبية نقوم فيها ببعض النشاطات والحوارات الفلسفية، في تجربة من إحدى أجمل تجارب حياتي. ورغم ازدحام جدولي، وعراكات كثيرة كانت تحصل مع مجموعة الجامعة التي كنت فيها للمشاركة في مسابقة دولية ما، كنت أحافظ على سكون نفسيٍّ عالٍ. كنتُ لا أُقهر.
 كانت إحدى التمارين في هذه الدورة أن ينظر كل شخصين في عيني بعضهما مدة ٥ دقائق مستمرة دون فواصل، بصمت، ودون أن يلتفت أحدهم عن عيني الآخر سوى بالرمش الضروري لترطيب العينين. ولأنني حضرت متأخرة، كانت شريكتي في التمرين هي المدربة نفسها، وهي امرأة عاقلة مدركة للمداخل والمخارج في عالم التمرينات الفلسفية هذه، وتكبرني بكثير. سمّرت عيناها في عينيّ، وكذلك فعلتُ، وكان أن تساقطت الدموع من عينيها، وكنت أهدهدها بعيناي. جرى حوار بالعيون، وكان ذلك هو المقصود من التمرين. عندما انتهينا، سألتها: لماذا بكيتِ؟ وأخبرتني أنها رأت في عينيّ سكونًا غريبًا.. شيئًا راسخًا لا يتزعزع، شيئًا صلبًا، قوة داخلية ما، وأنها تفتقد كل ذلك. أخبرتها: أنا فعلًا قوية من الداخل.

في سنوات الجامعة كنت أمتلك صلابة نفسيّة رهيبة، واستقلالية فكرية عظيمة. لم يكن شيء يستطيع إزعاجي أو هزّ أفكاري، أفكاري التي كانت نتاج تفكير مطوّل وخلوات وقراءات..
كنت واثقة من نفسي بالمعنى الإيجابي، أمشي بزهو، ولا أكترث، بحوائط زجاجية تحيط بي، فرِحة بعزلتي الاختيارية وسط كثبان من البشر. في سنتيّ الجامعة الأخيرتين كنت أجيء وقتما أشاء، أغادر وقتما أشاء، أتغيب إن أردت، وأدخل الفصل الدراسيّ آخر ٥ دقائق، ولا أبالي.. وحتى أساتذتي كانوا يفهمون، ولا يكترثون، في حالتي أنا فقط، لأنني في كل مرة كنت الوحيدة التي تشارك في حوارات الفصول الدراسية، وتعرف الإجابات، وتحفظ كل شيء تقريبًا، وتحرز أعلى العلامات. كنت أفعل المهم، ولا أزعج نفسي بما لا أراه مهمًّا. أتذكر اليوم كل ذلك وأضحك على جرأتي الغريبة آنذاك، وأشتاق هذه الصلابة.

ثورتي في مجملها كانت داخلية، كانت أكثر نضجًا من فوراتي وثوراتي أيام المدرسة.. كانت ترتكز على المقاومة في أن أكون أنا بطريقتي أنا؛ في أن لا أصير واحدة منهنّ.. أن أفكر بطريقتي، وأقضي وقتي بطريقتي، وأتجنّب الضغوط الاجتماعية، ولا أستجيب لطريقة تعريفهنّ للأشياء، وأحلّق في عوالمي التي أجدها ذات معنى. بين رفوف المكتبة أجلس، متكئة على الجدار خلفي في أوقات فراغي، آكل رغيف الكرسون الذي أحب وشاي النعناع، وأحلّق بعيدًا. لم يكن الأمر سهلًا، ولكنني كنت صلبة كفاية. أخبرتني إحداهنّ مرة أنها عندما سألت عني (لا أعرف لم سألت عني!) أجابتها الفتيات اللاتي تعرفنني أنني غريبة، أتكلم بطريقة غريبة، أفلسف الأشياء، وأستعمل مصطلحات لا يفهمها أحد، وكأنني من عالم آخر، وأضحكني الأمر، ولم أبالي. أخبرتني أخرى أنها "تدافع عني" عندما يتحدث الفتيات عني، وأنه ينبغي عليّ أن لا أحزن إن تحدث عني أحد بشكل يبعث على الحزن. أضحكني ما قالت هي الأخرى لأنني لم أكن أدري أصلًا ما يحصل خلفي ومن حولي، ولم أكترث يومًا. في الجامعة، كنت أقطن داخلي، أحرس صلابتي وأؤثث عالمي الخاص، وأحضر فقط بصوتي ومواقفي الواضحة عندما تستدعي الحاجة؛ كأن أقف في الواجهة وأضع الخطط في مواجهة الإدارة.. وهكذا.

دائمًا ما كنت كذلك، صلبة، قبل هذا العام.

أخبرتُ مشرفي في التدريب المرتبط بالجامعة الذي سبق وظيفتي الأولى فورًا، أنني يستحيل عليّ أن أعمل في مكان فيه ترتيب هرميّ للمسؤوليات، لأنني لا أطيق أن أكون تبعًا. أريد أن أعمل بطريقة تعطيني مجالًا واسعًا للإبداع، وقول ما أريد، والتحكم في شكل المنتج الذي يخرج مني.. أخبرتهم أن الشهادة التي سيعطونني إياها لن تهمني على أية حل، لأنني سأبدأ عملًا خاصًا إن كنتُ سأعمل، وأن عملي الأول بعد التدريب مباشرة سيكون رعاية ابنة أختي. ضحكوا..
كنتُ جادّة. ولم أكترث.


تذكرتُ اليوم الأشهر الأولى من وظيفتي؛ والتي كانت الأصعب على الإطلاق، وعِظَم ما واجهت، وأنني لا أصدّق أنني واجهته كلّه! وتجاوزته بقوّة، وصلابتي الداخلية العجيبة آنذاك، وكيف تداعى كل ذلك.. منذها.

منذها، وأنا ما عدتُ آوي إلى وقتي الخاص، أشذّب أفكاري، ألتزم بوعودي مع ذاتي، وأؤمن بالخطوات الصغيرة. منذها وأنا ما عدت طلقة المسدس التي لا تخيب. أنا ثاقبة، هكذا اعتدت أن أكون. وعندما لا أكون ثاقبة: متذبذبة، ولستُ متأكدة من كل شيء، هذا يعني أن شيئًا في قد اهتزّ، وأن أمرًا ينبغي إصلاحه. في الأشهر الأولى من وظيفتي الأولى، عندما كنت لا أزال صلبة، كنت أتعامل مع شخص في مرتبة إدارية عليا في بعض المهام، وفي لحظة تجمعنا أنا وهو وزميل آخر كان منخرطًا في المهمة التي جلبتني لقسمهم، توقّف هذا الإداريّ، وأخبر زميلي فجأة: هذه الفتاة إن وقفت في صفّ معركة فسينتصر الصفّ الذي تقف فيه. أتذكر كم خجلت. كان الوقت الذي ذكر فيه هذه العبارة صعبًا، كنت أحارب بكل قوتي لأكتشف كيف أتصرف بحكمة ودهاء في المهمة المسندة إليّ، وحيث كنتُ، كنت أقف في مفترقات طرق، ومحكّات أخلاقيّة عدّة، أستعين بالجميع للفهم، وفعل ما يلزم، وتفنيد الموقف الأخلاقي من كافة جوانبه المحتملة لمعرفة التصرف السليم، وكان هناك، هو وآخرين، يساعدونني ويرشدونني ويشجعّونني. أنا لولا من حولي ما خطوتُ خطوة سديدة.

رغم أنني فتاة، ككل الفتيات، وكل البشر، أقف في مفترقات طرق، إلا أنني أشعر أن نصيبي الأكبر من البلاء في هذه الدنيا هو الوقوف في مفترقات طرق كبرى ومحيّرة، في كل الأصعدة: الاجتماعية بأنواعها، العائلي منها، والعاطفي، والصداقي، ثم على صعيد الدراسة، والتخصص، والاهتمامات، والمشاريع، والمهنة.. ولذلك، أنا بحاجة لصلابة داخلية بحجم عائلي.
ولأن هذا نصيبي من البلاء، فعندما تتزعزع صلابتي الداخلية- أتهاوى، ويصبح كل مفترق شوكًا حادًا يتغلغل في كل عرق فيّ. هذه الدنيا تلقي علينا أسئلة دبقة دون إجابات، وإن كان نصيبي من هذه الأسئلة كبيرًا، فأنا آمنتُ.. بعد كل الذي رأيت.. أن السلاح الوحيد لمجابهتها هو الإيمان. الإيمان يعادل الصلابة الداخلية. أنا لولا الإيمان ما كنت. لولاه لوجدت طريقة أشفط بها ذاتي من هذا الوجود. فوجودي دون الإيمان؛ دون ذات صلبة تميّز وتحكُم وتترك البالي و ل ا ت ك ت ر ث، وتتشبث بما ينفع، وتعرفه، وتميّزه، وتنطلق به، وتعول في جهلها الأعظم بالغيب على قوة عظمى عليمة ورحيمة- ليس أشرف من العدم، بل أحقر بكثير.

أشعر الآن، بعد عام ونصف، من التذبذب والحيرة والوهن، أنني أقوى، وأنني أكثر صلابة بكثير. لرمضان هذا العام أثر السحر على قلبي. لم أجتهد فيه بشكل استثنائي، كنت مقصرة، ولكن الله برحمته وجوده وكرمه مسح على قلبي، وبتكرار قراءة القرآن شعرت أن نورًا يتسلل إلى داخلي، وأن كل اعوجاج استقام، وكل هش تقوّى وجلد، وكل متزعزع ثبت أو اقتُلِع من جذوره بلا عودة. أشعر بقوة، حتى يكاد ضوء ليزر يخرج من عيناي يقطع الأشياء ويهدد الأعداء.. هه! أشعر بحب الله يغمرني، بنوره يحفّني. أشعر بحب الأحباب، بنعمه الصغيرة كلها.. بجوده وفضله الذي فاض والذي سوف يفيض، بالاحتمالات الجميلة مشرِّعةً أبوابها، بكل فأل طيب.. بزوال الدنيا، بحقارتها، بأهمية المهم ودنو الدنيّ. أشعر أنني أعرف مكاني من الوجود، وأن المعنى في قلبي أرسخ وجودًا من المادّة، وأن نظارة الحياة خاصّتي أصفى، وبها صرت أنظر من فوق، من زاوية بعيدة، كما اعتدت قبل الغوص في وحل عالم الوظيفة وأسئلته القبيحة والحيرة التي جرتني من أذني في كل صوب. تجردت من أسباب الضعف، من غواية الأشياء التي كانت تجرّني إلى الأرض. أشعر أن كل صغير قيّم، وكل فعل له وزن، وأنني سأعتني بذلك كله، وهذه الكتابة هي فعل الإيمان الأول.

أخذت قبل قليل موقفين صعبين من أمرين مربكين، ببساطة، ورحابة صدر، ومرونة عالية، ولا اكتراث بالخسائر في مقابل ما أؤمن أنه صواب، عجبت فيهما من نفسي، وأدركت صلابتي الجديدة، أو أحسست بصلابتي القديمة تٌظهر بروزها على السطح، واحتفيت بذلك. شكرًا يا الله، يا حبيبي، يا سبب وجودي الأول الأزليّ. يا إجابة كل الأسئلة. يامن إذا استشعرت وجوده استقامت حياتي، وإذا قرأت كلامه استنار قلبي، وإذا وقفت بين يديه صلح كل شيء، ارضَ عني، فأنا راضية عنك. أنا، في استحضار معيتك يا ربي، أترك الأشياء، وأهوي من علّ، وأنا متأكدة أنك ستتلقفني برحمتك، كما عوّدتني. لن أنسى هذه الحقيقة ما حييت، وبها أستقيم، وبها يصلح حالي، بها وحدها والله يصلح حالي!

في خطي الزمني من صلابتي النفسية، بإيماني بكل شيء صغير هو سبب كل شيء كبير، باستحضار الحقائق الكبرى، برؤية الأشياء من زاوية بعيدة وشاملة كفاية- أنا أجرّ مؤشر صلابتي نحو الأعلى من جديد، وهذا المنشور هو طقس احتفالي.






السبت، 29 فبراير 2020

كسرًا للصمت،،

طيّب؛

لا أدري كم مضى من الوقت لم أكتب فيه شيئًا هنا ولا في أيّ مكان، ولم أعبر عن فكرة واحدة باسترسال وإسهاب كما كنت دائمًا (أو أحيانًا) أفعل. لا أدري كم مضى من الوقت لم أسترسل مع نصّ ثم نصّ آخر، ليس لشيء إلا لتتبع الأحرف والطوفان اللذيذ مع فكرة. لا أدري منذ متى وأنا لم أكن جزءًا من نص طويل، أكتبه أو أقرؤه.. هكذا، لأجل أن أقرأ، وأكتب.. لأجل أن أقتات بالأفكار الطويلة المتماسكة والسرد الطويييل الطويييل كوجبة يوميّة لا أرى الحياة دونها، ولا أعي ما حولي دونها، ولا أكون، كما ينبغي أن أكون، دونها. لم يحصل ذلك منذ فترة طويلة جدًا، وكل ما حصل كان يتعلّق بالمهنة أو سياقات أخرى اضطررت فيها للقراءة/الكتابة، وربما أكثر من ذلك بقليل؛ شيئًا أتنفّس به حتى لا أخبو وأفقد كلّ بريق.. ابتعدتُ حتى كدت أنسى كيف يبدو التعبير، وكيف يكون شكل الأفكار مكتوبًا، وحتّى بدأت أوقن، أو أحاول أن أوقن، أن التعبير الذي كنت أفعله خلسة؛ ضرورةً وحاجةً، حتّى وهو في أكثر صوره خجلًا- مرحلة وانقضت. ابتعدتُ عن كل وسائل الحياة -بهذا المعنى- حتّى وددتُ لو أستسلم لفكرة أن الاختفاء ممكن، وأن بهذا الإيمان الجديد.. شبحُ الرغبة بولادة الأفكار وإخراجها في صورة ماديّة ما- سيفارقني للأبد. وددتُ لو أن الرغبة العارمة في الحياة بهذه الطريقة: طريقة أن أن أتفوّه بشيء يحوم داخلي ويتوالد كجرثومة -أضف كورونا إن أردت- مجرّد رغبة يمكن أن تموت، وقابلة للخبو. وددتُ لو أن لكياني أن يوجد بشكل سويّ دون أن يستلزم ذلك مني أن أتحدّث بما يطنّ في رأسي، وأن أشارك، وأن أغرف شيئًا من عندي لوعاء حديث العالم. وددت أن أصدّق أن ضرورة المشاركة بالفكرة وهم، وأن هناك طريقًا آخر.. ينبغي أن يكون ثمّة طريق آخر! وددتُ لو أنني أستطيع أن أُسكت هذا الطنين أبدًا، وأعيش دونه في سلام، مع وظيفتي وأبحاث وظيفتي، وشكوكي اليومية حول كيف ينبغي أن يبدو مستقبلي، ومشاريعي الصغيرة المختبئة (طبعًا!) وقراءاتي المبعثرة والمتخصّصة، والكلام الرديء الذي أكتبه في دفتري مرة في الشهر بعجلة واقتضاب،، وكأنّه طفل أطال البكاء، وكأنّ ما أكتبه حلوى رديئة أرجو بها انصرافه عنّي. 

وددتُ لو أنني أستطيع أن أعيش دون أن أتكلّم، وأعبّر، بهذا الشكل تحديدًا، شكل الكلام المكتوب،، وأن طرقي الأخرى في عيش الحياة، والأخذ، والعطاء، تكفي. وددتُ لو لو أنني لا أضطرّ أبدًا لدخول نفق شائك، معتم، مخيف، موحش كهذا، ألتفّ حين عبوره حول كلّ حفرة أفقد بها ذاتي إن سقطتُ، وأحمل مبادئي مبعثرة في يدي دون حقيبة تلملمها وتضمن حفظها، وأتفقدها -رغم الظلام- كل مرة خشية فقدانها. وددتُ لو أن في الحياة سبيلًا دون هذا النفق.

المشكلة أن الأمر ليس بأمانيّ، وأنّني كلما أدخلت رأسي تحت التراب، وزجرته بالوعيد إن نطق، وسفّهت ما فيه حتى يكفّ عن الإقدام- أيقنت أكثر أن التعبير، والحكي، والكتابة، وكل وسائل الوجود الممتدّ الذي يتجاوز لحظة ورود الفكرة- ضرورة تلازم الوجود: وجودي، وطالما أن اللاوجود ليس خيارًا، فعدم الوجود رغم الوجود، والعيش البرزخيّ الذي يقدر عليه حصرًا من يمارس قتلًا مستمرًا لكل حياة داخليّة ثائرة- هو الجحيم بعينه. فكرتُ كثيرًا، كثيرًا في الأمر، في أمر وجودي، واحتمالات وجودي، وإمكانية وجودي مع تلافي هذا المكان، وهذه الكيفيّة في الوجود، في إطارها الأصغر والأكبر: في دفتري الصغير ومدوّنتي وتويتر وإنستقرام، وكلّ ما هجرت، وحاولتُ أن أعتزل النصائح الكثيرة التي ترددت عليها قراءةً وسماعًا، وأن أفكر في سياق حياتي الخاصّة بسقفها المنخفض، وأفقها الذي وإن كان يُرى بعد استجلاب كلّ أمل ممكن- يبدو أبعد من أن أطوله (أطاله؟) في الأعوام القليلة القادمة على الأقل.. ولكنني جرّبت، وضقتُ ذرعًا. لن أقتل نفسي ما دامت موجودة. ثمن التسلّح أكثر من قدرتي على تحمّله، والقتل موجع وإن كان من الذات إليها، وأنا متواضعة في طلبي، إذ لستُ أريد شيئًا سوى أن أحقق وجودي مهما تكبّدت لأجل ذلك من تورية ومجاز. أريد أن أكون، وليكن ما يكون. 

أشعر بنشوة. لقد تكلّمت.

طيّب؛
لنمارس فعل السرد العفويّ هذا حتّى أجد طريقة أشذّب بها ما أقول. توقفت عنوة لظنّي أن الحديث السائب بلا فائدة، وأعود عنوة لأنني أيقنت -بعد انقطاع عامين- أنّ الحديث وحده عضلة يلزم أن تتحرّك وإن لم يُتصوّر شكل المنتج الأساس، وهذا الحديث من هذا التمرين.

أعود وعمري أكبر بعامين، وحاجتي لا تزال. مزعج كم يمرّ من الوقت ونحن نختبر فكرة كانت لتكون الآن -إن لم نشكّ بأهميّتها- أكبر بكثير مما كانت عليه مذ غادرناها، وعزائي أنني صرت أؤمن بضرورتها كما لم أؤمن يومًا، وأن هذا الإيمان لا يمكن أن يزعزعه شيء بعد فوضى الشكّ العارمة بضرورة الوجود الممتدّ، والعطاء الكلاميّ، والإضافة، إلخ. 

خلاص يكفي، اللي بعده.

سأصف ما أنا عليه وصفًا مقتضبًا، وسأكمل بعدها عند الذي توقّفتُ، وعليه.

 أنا علياء، موظّفة سعيدة، ولم تكن كذلك منذ أسابيع قليلة، أحب مديري والمحامين الكبار الذين أتعلّم على أيديهم عملًا يفوق مستواي بكثير، وأجتهد أن ألملم أطرافه وأكون ذات فائدة، وأظنّني بدأتُ أصير، ولو قليلًا. أعمل في مكان كبير، مخيف من شدّة ضخامته، وأنا الّتي بحثت عن أصغر مكان محترف يمكن أن يحتويني في بداية مساري المهنيّ، وكتب الله أن أكون في أكبر مكان ممكن. استقرّت نفسي -بعد الدراسة المليون لوضعي الوظيفي بين المغادرة والمكوث- لأن أكمل الذي أنا فيه، وأتعلّم ما يمكن لي تعلّمه، وأن أترك لنفسي فرصة أن تعيش دون شك، وأن تمدّ جذورها، وتحبّ ما تفعل، وأن أسمح لحقيقة أن مكانًا كبيرًا كهذا يمكن أن يكون بدايتي. وددتُ شيئًا أصغر، أرى كل شيء فيه بوضوح وأملك فيه زمام الأمور، ورغم أن مكاني اليوم كان حلمًا وددت الوصول إليه بعد أعوام من البناء المنهجيّ المتدرّج، وُضعت فيه من علّ، وصار أن صرتُ جزءًا منه وصار جزءًا مني. أنا الآن أحبه حبًا صادقًا، وأتعلم كل يوم فيه أكثر من ذي قبل، وأحمد الله قبل أن وضعني فيه أن رزقني رضى وقرارًا،، رغم الضخامة، رغم شكوكي وتردّدي، رغم اضطراب خطتي وإصراري الساذج على أن تسير الحياة وفق الخطّة.

أغادر إلى الدوام كل يوم بحقيبة أكبر منّي -على وصف أحد المراسلين عندنا- ذات عجلات، شكلها مربّع، يمازحني من يراني، أو لا يمازحني، بسؤالي عن وجهة سفري عندما يراني أقوم بسحبها، باعتبار أن ذلك متوقّع من كلّ من يحمل حقيبة كهذه في العمل،، وحيث أعمل، السفر المباشر من مكان العمل عرف شائع. أضع في الحقيبة لابتوب العمل ولابتوبي الشخصي وشاحنيهما، وعلبة تمر، وحليب شوكولاتة معلّب لكفايتي وقت الجوع، ودفاتر، وملفًّا كبيرًا يحوي عقودًا ومسوّدات لمشروع قانونيّ بدأت في كتابته منذ شهرين ولا أزال، وملاحظات متفرّقة نتاج اجتماعات متفرّقة، ومؤخرًا، ملزمة كبرى لتدريب مجهدٍ لذيذ حضرته الأسبوع الماضي كاملًا. توجد في الحقيبة أيضًا سماعة خاصة للابتوب لم أستعملها يومًا، أقلام مبعثرة، حذاء عالٍ (كعب) إن استدعت الحاجة، علبة مناكير واحدة ربما، ووشاح تدفئة في الأيام الباردة. أضع فوق الحقيبة حقيبتي اليدويّة الزرقاء، أو الخضراء، حتى لا أضطر لحمل شيء على كتفيّ الهشّين، وقبل أن أغادر المنزل، أجهّز طبق كورن فليكس بحبوب الشوفان على عجالة، وكأنّ خروجي ليس متوقّعًا، وكأنّ توقيته يتغيّر كل يوم. بيدي قارورة ماء، بيدي الأخرى صحن الفطور، أسند أحد ذراعيّ على جنبي لحمل هاتفي، وباليد المشغولة بقارورة الماء أقوم بسحب الحقيبة، ثم فتح الباب الأول، وعبور الدرجات القلائل عند عتبة الباب، ثم فتح الباب الثاني، كل ذلك وأنا أدعو الله أن لا ينسكب الحليب على عباءتي أو الأرض. أخيرًا، يتناول السائق حقيبتي ويرفعها في السيارة تماشيًا مع تعليمات أبي الصارمة: لا ترفعي الحقيبة بنفسك أبدًا، السائق يرفعها. طيّب يا بابا، ليكن. أركب السيارة، أفتح الشباك وأطلب إغلاق المكيّفات، أسرح وأنا أتأمل في السماء، أنسى فطوري وأذكاري، ولا أنتبه حتّى نصل عند اللّفة المجانبة للمكان لآكل الصحن على عجالة، وأردّد الأذكار الممكن تلاوتها منذ دخولي للمكان وحتّي يقاطعني أوّل شخص يدردش عند المصعد؛ يسلّم ويسأل عن الحال. 

أتردّد في يوم عملي العاديّ بين عدّة مكاتب، من بينها مكتبي، للعمل والسؤال والنقاش ومشاركة الأفكار. تختلف اللغة المتحدّثة بين مكتب وآخر، وإن اتفّقت؛ فاللهجة تختلف. تشكيلة المحامين عندنا عجيبة، تتنوّع فيها جنسياتهم، ولهجاتهم، وألوان بشراتهم، واللغات التي يتقنونها في العمل، وطبيعة العمل، والأعمار، ويتفقون في الخلق الرفيع وحسن المعاملة والتواضع الجمّ لمبتدئة مثلي تسأل كثيرًا وتشارك رأيها في العمل المشتَرك بخجل عندما تملك رأيًا مغايرًا؛ رغبة في التعلّم. أبوابهم مفتوحة دائمًا رغم انشغالهم الشديد، وابتسامتهم تسبق طلبات العمل، وأنا أحب أن أعمل معهم كلّهم، وأحب ما أفعل، وأحب كم أتعلّم من ذلك كلّه. مديري، وهو مدير الكلّ، شخص كبير قلبًا وقالبًا؛ ضخم الجثة، حتى ليظنّه الرائي واقفًا عندما يكون جالسًا، ولضخامته عامل يجعل حضوره مهيبًا بجانب صوته الجهوريّ. أسمر البشرة، أصلع تقريبًا، ويتحدث الإنجليزية بلهجة إفريقية لطيفة، قلبه كبير، يتناسب حجمه مع حجم جثّته، وضحكته تجلجل، ولأنها تجلجل، تجعل من يجلس في حضرته يضحك معه غصبًا. يبتسم دائمًا، ويتحدّث بهدوء، ويفسح لي مجال الحديث بآرائي التي ليست شيئًا ذو قيمة في تاريخ خبرته الطويل، يسأل عنها أحيانًا عندما أحجم عن الكلام طوعًا، ويذلّل سؤاله بـPlease، فيزيد خجلي على الخجل وأقول ما عندي. عندما يراني عند الباب، أو في أيّ مكان، وإن كان يتحدّث مع شخصّ مهم، يلوّح بيده عاليًا للتحيّة، وإن كنت متردّدة في إتيانه للسؤال، يقف مع تلويحه إصرارًا لأن آتي. يضحك عندما يأتي أمر جلل في العمل وهو الذي يغرق حتّى أنفه في المهام، لا يتذمّر، ولا يغضب، بل يهز رأسه يمنة ويسرة، ويقول كلامًا فيه نكتة تهوّن عليه المصيبة، وتتخلّله كلمة (واللهي) بلامين مرقّقتين بين كلام إنجليزيّ يسبقها ويليها. يتقن عمل ثلاثة أمور في وقت واحد: محادثة هاتفيّة، وكتابة إيميل، والاستماع إلى من يتحدّث إليه. عندما أهمّ بالكلام فأحجم ظنًّا أنه منشغل كفاية ولن يسمع، يتساءل تعجبًا: أتستهترين بقدرتي على العمل المضاعف (mutli-tasking)؟ ورغم لطفه الذي لا يشي به شكله، فهو داهية، يتفطّن لكل كلمة تقال، ويحفظ كل تفصيل عن ظهر قلب، وله ذهن تحليليّ يفكك به أكثر المشكلات تعقيدًا، وإن تحدّثت عن شيء إجمالًا يسألني عمّا أعني بالضبط. رغم انشغاله الشديد الذي يحرمني أحيانًا فرصة التعلّم، ورغم ما يعتريه من نقص بشريّ، فهو مدير عظيم، وحسن الخلق، وذو عقل فذّ، وأنا محظوظة بالعمل معه.

رغم ما يبدو عليه الأمر من بساطة وجمال، إلا أن له أشكالاته التي تستحقّ الحيرة، ورغم ما تبدو عليه حياتي العملية من سلاسة، إلا أنه سبقتها حياة كلها سفر متتابع لا راحة تفصل بينه، ومواجهات تفوق احتمالي، وتحمّلتها رغم كل شيء، والتعامل مع شخوص غير أسوياء. ورغم ما تبدو عليه حياتي السابقة من هذا الوصف كارثيةً، إلّا أنني أحن إليها كما يحنّ سجين لزنزاته للذكريات الطيبة التي عاشها فيها، أو لنقل: كما يحن طائر قُصّت أجنحته إلى الحيوات المضاعفة التي كان يعيشها أثناء طيرانه رغم ما كان يعتري ذلك من تعب. ولكنّني لم أكن سجينة، ولم أكن طائرًا،، كنتُ شيئًا بينهما، وأنا الآن، في الأرض الواحدة التي أدوس عليها كل يوم، دون سفر سوى السفر بين اللهجات؛ رضيت، وقرّ قلبي. ليكن ما نخرج به قبل الختام هو إعلان الرضى هذا: أنا رضيت. الحمدلله من قبل ومن بعد.. الحمدلله الذي أغدق عليّ نعمه دون استحقاق، ودون طلب، ورضاي المشوّب من قبلُ، ووجهي الذي كان يتقلّب في السّماء ما كان إلا من جهل، وطموح لما لا يمكن إدراكه، واستباق لما هو آت. 


 كنت أودّ أن أكسر هذا الصمت، وأمارس فعل تحويل الفكرة إلى كلام، حتّى أضخّ شيئًا من هواءٍ في شرارة الأمل الضئيلة داخلي بالقدرة على فعل ما أودّ فعله،، والذي يتجاوز هذا الكلام، ولكنّه يستلزم التعبير والوجه العريض لنسبة الكلام الذي سأكتبه إليّ، وأظنّ أن هذا يحقق شيئًا من ذاك.

تصبحون على خير.


x