الثلاثاء، 25 يوليو 2017

عن السّعي الصّادق، وإخفاقاتي، وأشياء أخرى

سأحاول فيما تبقّى من إجازة أن أوثّق ما يطرأ على بالي عند الجلوس للكتابة- بشكل أسبوعيّ؛ لأنّني أريدُ ذلك، ولأنّ أيامي صارت تزدحمُ باختياري بالتّفاصيل الّتي أحبّ أن أوثّقها، بخلاف أيّام الجامعة الرّوتينيّة الّتي أقضي الكثير من ساعاتها بشكل يخالف رغبتي واختياري. لتأخّر الوقت، وللنّعاس الشّديد، والصّداع النّاتج عن التّعب وقلّة التّغذية واضطراب النّوم في الأيّام القليلة الماضية، واجتماع كلّ ذلك في اللّحظة الآنية، فستتمّ كتابة هذا المنشور على جلستين، أولاهما تبدأ الآن.

كان يومي سعيدًا هو الآخر، ولا أظنّ أنّني سآتي هنا دون أن أكون مشحونة بطاقة سعيدة تشبه هذه الّتي تسكنني الآن، لأنّني من أولئك الّلاتي يستحلنَ إلى بكماوات حين الحزن، أو الخيبة، أو الشّعور باللّافهم، وأحبّ أن أحتفظ بذلك كلّه لنفسي، ولا أجرؤ أن أشاركه إلّا إن تجاوزته، وصار الأمر لا يعدو أن يكون تجربة شعوريّة ماضية، أو جزءًا من قصّة تنتهي بدرس مفيد.

 في الواقع، كانت أيّامي الماضية القريبة -بخلاف اليوم- عجيبة ومضطربة ومليئة بالبكاء الخفيّ والوجع غير القابل للقصّ. تجاوزتُ ذلك على كلّ حال، وإن كنت قد تسبّبتُ في حصول بعض الأشياء الّتي لا أفخر بها، والّتي أشعر أنّ شيئًا منها تشوّه إلى الأبد بشكل غير قابل للإصلاح أو التّرقيع. حصلت ثلاثة مواقف غبيّة جدًا، وكنتُ فيها خرقاء جدًا، ولم أكن أستطيع أن أردّد العبارة "كنت غبيّة، بس عادي" الّتي صرتُ أستعملها في العام الأخيرِ من حياتي لتجاوز المواقف المحرجة الّتي أضع نفسي فيها. بكيتُ، ورجوتُ القدر أن يسارع بالإتيان بغيرها من الأحداث حتّى أنسى، وأظنّ أنّ ذلك قد حصل بمجيء اليوم. كنتُ واهنة، ولا أستطيع الوقوف، ولستُ قادرة على مشاركة أحد، لأنّه ما من أحد سوف يفهم، وأختي صارت أبعد من مشاركتي تلك المواقف البلهاء، وتذكيري ساعتها بأنّ قيمتي لا تُختزل في موقفين أو ثلاثة في مقابل عمري الكامل. كنتُ مشوّشة، مشوّشة جدًا، أكثر من قدرتي على التفكير بشكل سليم. فقدتُ خلال أسبوع كيلوين من وزني اكتسبتهما خلال عامين، وصارت شهيّتي مسدودة عن الطّعام إلّا من لقمتين أجامل بها ماما كلّ غداء، ونومي مضطرب لا يستمرّ أكثر من ساعتي استغراق. من لطف الله أنّ إنجازًا ما تزامن مع كلّ ذلك، فزاحمت نشوة الإنجاز شعوري بالخيبة، وأقامتني وأنا في أكثر لحظاتي تفتّتًا وضعفًا.

أمّا بخصوص اليوم، فقد ذهبتُ إلى ذات المكان الّذي ذهبتُ إليه الأسبوع الماضي، حيث أكون بين الكثير من الفتيات الجميلات المتحفّزات لخوض غمار تجربة جديدة بكلّ جرأة وشجاعة. كنتُ الرُّبّان هذه المرّة.. كنتُ في مقام من تعطي، وترعى، وتقودُ، وتطرح الأسئلة، وتحرصُ على راحة الجميع، وتبتسم للكلّ، وتنتبه لملامحهم، وتلحظ رغبتهم غير المعلنة في الكلام، وتسعى إلى استخراج المعاني من الأفواه، وتمنحُ الكلام عناوين، وتُقلّب الكلمات بين أيديهنّ حتّى يخترن منها ما يناسب الفكرة الّتي تجول في رؤوسهنّ إن تأخّر خروجُها. كنّ سعيدات، وكنتُ. لا لذّة تعادلُ لذّة العطاء، خصوصًا لأولئك الّذين يحتاجون إليه، ويعلنون رغبتهم، ويفرحون بمجيئه، وأزعم أنّ لذّة العطاء الفكريّ تفوق ما عداها.. أن ترى من أمامك يتفتّح ويُزهر لأنّك منحتهُ فكرة، لأنّك فتحت له بابًا يلج به إلى عالم فسيح ما فكّر بوجوده من قبلك. أعربنَ في النّهاية،، في الوقت الّذي كنتُ أشعر فيه بالتّقصير والعجز عن تقديم ما هو أكثر، والخوف من خيبتهنّ- عن سعادتهنّ بما حصل، وأنّ اليوم كان مميّزًا، وأنهنّ يشعرن بالتقدّم، وأنّهنّ صرنَ أكثر حريّة، وأنّهنّ استمتعن بكلّ ذلك، حتّى تلك الهادئة الصّامتة الّتي كنتُ أشكّ أنّها تجلسُ رغمًا عنها قالت بأنّها قضت وقتًا ممتعًا وصارت تشعر بالانتماء. آه كم أحبهنّ.

ذهبتُ بعدها مع أختين جميلتين أحبّهما جدًّا، ولي معهما مغامرات أثيرة في العام المنصرم جعلتهما تحتلّان بقعتين مميّزتين قلبي- إلى مطعم ما، وطلبتُ فيه شباتي بالنّوتيلّا لأنّه كان الطّلب الأسلم، وقد كان حجمُه صغيرًا بشكل مخادع، وكانت فطيرته غيرُ مستويّة، إلّا أنّ الوقت السّعيد الّذي قضيتُه هناك معهنّ جعلني ألتهمه كلّه رغم انسداد الشّهيّة الّذي أعاني منه. تشاركنا أحدث الأفكار، وأسماء المسلسلات، والمشاريع المؤجّلة، وخططنا الصّيفيّة الّتي ما التزمنا بها، ثمّ بعد أنّ تعبأت نوتات هواتفنا بالأسماء الجديدة الّتي تبادلناها لكلّ ما سبق، تعاهدنا بأن نلتزم بتنفيذ الخطط. عدتُ إلى بيتي بسيّارتهما، ومررنا في الطّريق على ابنة أخيهما (اللّزوزة) جدًا الّتي تشبه في طريقة كلامها البريئة بشكل يبعث على عضّ اليد وقرص الخدود- أخي الصّغير. كنتُ أسألها، وكانت تجيب وتسرح في إجاباتها بفصاحة و(لزازة) بالغتين لم أتحمّل معها أن لا أودّعها بقبلة كبيرة استأذنتها فيها قبل أن أعطيها إيّاها خشيةَ أن تغضب كما أخي، وتظنّ أنّني أقلّل من شأن حكمتها الّتي تفوّهت بها، إلّا أنّني نسيتُ أنّ الفتيات لا يمانعن الدّلع ويستقبلنه بصدر رحب، وجال في خاطري أنّني أودّ أن أكون أمًّا في الحال، وأن تكون لي ابنة في مثل عمرها، تتحدّث بذات اللهجة الطّفوليّة الّتي أحب، والّتي تستفزّ كلّ خلايا قلبي.

 أجريتُ بعدها بضع مكالمات، وتتبّعتُ رسائل جوّالي حتّى أتأكّد أنّ أمور رحلة الغد تسير على مايرام، إلّا أنّ ذلك أخذ الكثير من وقتي وانتباهي، وأشغل كلّ ما تبقّى من ليلتي على حساب خطط الإجازة الّتي وضعتها لنفسي. رغم أنّني أحبّ حياة العطاء الّتي أعيشها في ذاك المكان الّذي ذهبتُ إليه، وفي الأمر الآخر الّذي اضطرّني إلى متابعة جوّالي بشكل مستمرّ، وأشعر معهما أنّني أنمو وأتعلّم، وأنّ خبرتي في الحياة تزداد، وأنّ قيمتي الاجتماعيّة تكبر، ومهاراتي الاجتماعيّة تصير أكثر حرفيّة، إلّا أنّني..
أشعر أنّني بالعطاء المستمرّ المتتابع أستحيل  إلى كائن أكثر فراغًا، وأنّ مخزوني المعرفيّ يتناقص دونما بديل، وأنّ أفكاري لا ترتصّ في مسيرة واحدة، وأنّني لا أعرف الكثير من الإجابات الّتي ينبغي أن أعرفها، وأنّ صبري ينفد بشكل أسرع في أوقات جلوسي وحدي، وأنّ قدرتي التّعبيريّة تصير أقلّ تنوّعًا وأكثر شبهًا بالآخرين، وأنّني أقلّ تركيزًا، وأقلّ انتباهًا إلى التّفاصيل، أكثر براغماتيّة، وأقلّ ترصّدًا للحقائق الّتي لطالما كان يشغلني أمرها، أقلّ توافقًا مع أصواتي الدّاخلية، وأكثر انسجامًا مع العالم وضوضائه.

نصحتني أستاذتي العظيمة مرّة عندما استشرتها: بين المضيّ في طريق يلمّع اسمي وسيرتي الذّاتيّة ويستهلك من وقتي وجهدي على حساب العمل على قيمتي كشخص، وبين أن أعمل بشكل خفيّ على قيمتي الشخصيّة على حساب الإنجاز المعترف به، وأشارت عليّ -بالإسقاط على تجاربها في مثل عمُري- أن أسعى للأخيرة بلا تردّد، لأنّني بذلك، وإن لم أحظَ بسيرة ذاتيّة جذّابة تستقطبها المؤسّسات الكبرى، فسأكون من أولئك اللاتي إن تحدّثن، وهنّ يعرفن تمامًا ماذا يقلن وكيف يقلنه، سيجدُني من يبحث عن القيمة الحقيقيّة، وأنتهي بذاك السّعي الخفيّ الصّادق إلى نتيجة صادقة قيّمة تلائمه وترضيني. هذه المعادلات لا يعترف بها العالم، إلّا أنّها تحصل. هذه الطّرق ملتفّة وعجيبة، وغير مأهولة، ولا يدركها إلّا الصّادقون، ولا يلقي بأنفسهم في طرقها الوعرة المحفوفة بتكذيب الآخرين وتثبيطهم إلّا الصّادقون، وأنا يا ربّ أريد أن أكون منهم مهما كان ذلك صعبًا ويبدو في ظاهره شاذًّا عن الجماعة، وأريد أن أعرف كيف أوازن بين العمل على قيمتي الشّخصيّة، وعطائي من تلك الذخيرة في ذات الوقت، وأن لا أدع الأولى تغلب الأخيرة وتتوغّل بضوضائها إلى داخلي. المشكلة أنّ الوقت محدود وقصير، والحياة مجنونة في ضخامتها وكثرتها، وبعض الفرص لا تتكرّر، وأنا يا ربّ.. حائرة.

حصل قريبًا وأن تنازلتُ عن موقفي في حوارين كنتُ المحقّة في كليهما، وانتهيتُ في كلٍّ منهما باعتذار ساذج، وتصفيق للطّرف الآخر، ولكنّني عندما اختليتُ بنفسي، وفاتحتُ من أثق بالموضوع بشكل غير مباشر، وفكّرتُ بشكل كافٍ، وجدتُ أنّني كنتُ المحقّة بشكل لا تخطئه عين، واستغربتُ من نفسي انسحابي واعتذاري وتغافلي. لطالما آمنتُ بأنّ اللّين يحلّ كلّ شيء، وأنه ما من داعٍ للاصطدام أو العراك، وأنّ التّنازل يكونُ حلًّا ذكيًّا حينما يتعسّر الاتّفاق، إلّا أنّ ذلك التّنازل تضمّن استنقاصًا من قدر نفسي وهضمًا لحقّها بشكل آلمني. لطالما شعرتُ أنّني أمتلك الكلمة في الوقت الّذي أريد، وأنّ معاييري في قياس موقف الآخر وموقفي سريعة كفاية حتّى تجعلني أحسن التّصرف في لحظة الموقف، إلّا أنّني ما عدتُ، ربّما، أمتلك ذات اللّياقة، وأظنّ أنّ ذلك يعود إلى تقصيري في العمل على تكويني المعرفيّ، واتّكالي على حدسي في حلّ كلّ شيء. ربما ينبغي أن أكون صلبة أكثر، وأن أمتلك منهجًا سميكًا سليمًا يمكنّني من قياس المواقف والأمور بشكل أسرع وأدقّ. ربّ آتني الحكمة.

ختامًا، أحبّ أن أقول أنّني شعرتُ بمسؤوليّة حيال إيصال صورة صادقة عن حياتي، خصوصًا بعد التّدوينة الفائتة الزّهريّة. أريد لكلّ من تصلني منهم رسائل مثل: أنتِ إنسانة جيّدة، أو: أنتِ كاملة ولا شيء ينقصك، أن يعرف بأنّني لستُ كذلك، وأنّني أتمنّى أن أكون، إلّا أنّ حياتي يشوبها الكثير كما كلّ النّاس، وأنّني أخفق أكثر ممّا أنجح، وأتوصّل لنتائج خاطئة ١٠٠٠ مرّة في اليوم الواحد قبل أن أصيب. أشعر أنّني أريد أن أكون كإيزابيل حبيبتي، أن أسخّر تجربتي الحياتيّة للنّاس، أن أعدّها وقفًا للعلم. حقيقةً، لا يهمّني أن أبدو ساذجة إن استلزم الأمر في سبيل أن أنقل تجربةً ما بشكلها الكامل دون تزييف، أو أن أنقل صورة صادقة عن حياتي ليستفيد منها الآخرون. لا أعرف لماذا، ولكن راودني هذا الشّعور وأنا أكتب ما كتبت، ولذا كنتُ أكثر شفافيّة بخصوص التّفاصيل التّعيسة. أحبّ حياتي على كلّ حال، وأحبّ أن أحيا رغم كلّ شيء.

على فكرة، كتبتُ ما كتبت في جلسة واحدة متّصلة.

الثلاثاء، 18 يوليو 2017

عن حبّ النّاس، وأشياء أخرى

أهلًا.
حصل الكثير في الفترة الماضية ولم أوثّق شيئًا منه هنا ولا في أيّ مكان آخر، وأشعر أنّ فكرة التّوثيق بعد كل هذه الانقطاع تجلب لي الصّداع بقدر ماهي ضروريّة. دون التّوثيق، يسيل الزّمان ولا أعرف كيف مضى، تزدحم الأفكار والمشاعر في رأسي ولا أشعر بينها أنّني صاحبة سلطة. حصل الكثير وما كان هنالك وقت كاف بين حدث وآخر للتّفكير والتّحليل، لتحديد مكاني، للقبض على المعاني، لترك ما أريد وطرد ما لا أريد. أنا في إجازة، وأظنّ أنّه ينبغي على هذا الصّخب الحياتيّ أن يكفّ، وأن أعيش الهدوء الّذي يسمح لي بتحسّس الأشياء كما يجب، والقدرة على وصفها بأكبر دقّة ممكنة. أحب أن أرى كلّ شيء، أكره أن أمضي عمياء. أتساءل إن كان ينبغي أن أدع الحياة تحدث بكلّ ما فيها من صخب دون أن أتفحّصها كفاية. أشعر أنّ المراقبة والتّفحّص والوصف مهامّي الأزليّة الّتي لا يجوز أن أتخلّف عنها.

في الأيّام الماضية، تعاملت مع الكثير من النّاس عن قرب، وكان لكلّ منهم معي أحاديث مطوّلة عن أشياء كثيرة. رغم أنّني لا أمتلك خطّة لهذا الصّيف، إلّا أنّ أيّام الأسبوع لا تلبث تمتلئ من أوّله، صبحها ومساءها. لم أنزعج من اللقاءات الّتي حصلت، كان معظمها إراديّ، إلّا أنّها حصلت دفعة واحدة بشكل مكثّف ومتسارع. أشعر أنّني ضائعة بين كلّ من أعرف، وأودّ لو أتّخذ مواقع واضحة بينهم. أريد صلات وثيقة أحافظ عليها، ويجمعني مع أصحابها مشروع ما مستمرّ. أودّ لو أحتفظ بكلّ من يعجبني الحديث معهم، وأضمن أن أراهم بشكل دوريّ ومستمرّ على المدى البعيد. النّاس كنز، ورؤيتهم بشكلّ دوريّ لا ينقطع مطلب ضروريّ عندي. أكره فكرة أنّ الكثير من الأشخاص الجيّدين يعيشون مكانًا واحدًا ولا يجتمعون، لا يرى أحدهم الآخر، ولا يتبادلون الأحاديث بشكل كاف. أكره فكرة التّفرقة الحاصلة هذه، وأتمنّى لو تكون هناك مجتمعات ما، تخصّ الشّباب، مفتوحة للجميع، وموجودة للجميع، ويستطيع أن ينضمّ فيها من ينضمّ، يتحدّثون فيها، ويتبادلون الخبرات، ويكوّنون صداقات، ويفعلون أشياء جيّدة سويّة. تعرّفت على الكثير من هذا النّوع الجيّد من النّاس بشكل ملتفّ، من مشاريع متفرّقة، ثم يتبدّى لي في كلّ مرّة أنّ الكلّ يعرف الكلّ بذات الطّرق الملتفّة الّتي لا تحصل إلّا صدفة، وأمنّي نفسي لو أنّ هنالك مكانًا واحدًا يسعهم كلّهم ويستطيع أن يعرف فيه بعضهم بعضًا فيه دون كلّ هذا التّعقيد والالتفاف. التّواصل يجعلني حيّة، ولو أنّني أشعر بسببه ببعض التّشتت، إلّا أنّني أحيا، وأصير ملوّنة، أعطي وآخذ، آخذ وأعطي، وأشعر أنّني أقلّ غرابة عن الآخرين، وأنّ الكون أكثر سعة، وأنّ الإنسان كائن عظيم. أحبّ الإنسان، وأودّ لو تعطيني الحياة فرصة أن أتعرّف على أكبر قدر ممكن من النّاس الّذين يتزامن عيشهم فيها معي.

انتهيتُ من آخر حلقة من مسلسل the good wife قبل يومين، وأشعر من بعده بفراغ وغربة. ما كان ينبغي أن ينتهي، كنت أعيش في خطّ متوازٍ مع هذا المسلسل وأنضج بنضج أبطاله. تعلمتُ الكثير منه.. تعلمتُ كيف أشعر، كيف أتجاوز الألم، كيف أترك للحزن مداه، كيف تمضي الحياة رغم كلّ شيء، كيف يعودُ النّاس يحبّ بعضهم البعض مهما فرقّت بينهم المصالح، تعلّمت ماذا يعني الزّواج، ما هي العلاقات وكيف تتكوّن وتنتهي، كيف يصير النّاس أصدقاء، كيف أبني أسرة،،
وأنّ الحياة تستمرّ رغم موت الأحبّة، وأنّ الحياة غنيّة بالدّهشة مهما ظنّنا أنّنا استنفدنا ما يدهشنا، وأنّ في القلب دائمًا مساحة شاغرة للحبّ، وأنّه حيث تنتهي طاقتك يتكفّل القدر بإنجاز الأعمال، وأنّ كل شيء قابل للإصلاح، وأنّ هناك مدّة صلاحيّة لبعض الأشياء، فبعضها يموت، إلّا أن هنالك دائمًا ما يحلّ مكانها، وأنّه ما من شيء ينبغي أن يستحوذ انتباهي كاملًا سوى الجمال والحبّ.
أشعر أنّ الأثر الّذي تركه فيّ هذا المسلسل يشبه الّذي تركته فيّ إيزابيل في الجزء الأوّل من سيرتها الذّاتية (پاولا)، ورغم أنّ المرأتين البطلتين في كلّ من المسلسل والكتاب مختلفتان من نواحٍ كثيرة، إلّا أنّني كنتُ أخرج بطاقة شبيهة بعد المشاهدة/القراءة، وربّما يحصل ذلك لأنّ كلا المسلسل والكتاب يصف الأشياء والمشاعر بشكل صادق وشفّاف، يمرّ على حياة كاملة مضغوطة، يتيح لي أن أتلصّص عليها مصغّرة ومسرّعة من ثقب صغير، ويعطيني الخلاصة في تجربة مشاهدة/قراءة كانت من أمتع ما حصل، ولا أظنّ أنّ هاتين التّجربتين لتتكرّرا إلّا لإيماني بأنّ الحياة مليئة بالدّهشة مهما ظننتُ أنّني استنفدتها، كما تعلّمت منهما.

مررت بأزمة شعوريّة غريبة في الأيّام الماضية، ولا أستطيع الآن أن أقول أنّني تجاوزتها تمامًا. كلمّا يتجدّد فيها أمر، كنت أصاب بمرض أو شيء من هذا القبيل يجعلني ساكنة في مكاني، ومجنونة تقريبًا، وبلهاء بشكل غريب. تدور الفكرة في رأسي كدوّامة، ذات الأفكار تتقلّب وتتبدّل في رأسي ولا مفرّ، وصدى الأصوات يتردّد ويتكرّر بلا نهاية. أترك للأمر أن يحصل دون ضغوطات لأنّني أعلم أنّ الأمر مسألة وقت. أكره أن تستحوذ رأسي فكرة لا أقوى على تحريكها من مكانها إلّا حين يحين وقت رحيلها، والحمدلله أنّ الأمر في حالتي لا يطول. شعرت أنّني في مأزق لا يستطيع أحد أن يخلّصني منه. دائمًا في هكذا مواقف، ألجأ للمعرفة. الفهم يجعلني أسكن، ويعجّل من حراك الفكرة من رأسي، أو على الأقل، من توتّري حيالها. من حسن حظّي أنّني من جيل العم قوقل، حيث لا حاجة إلى اللجوء إلى أحد للحصول على فهم معقول. أن أصل إلى المعرفة اللّازمة مع الحفاظ على خصوصيّة أفكاري. ياللروعة!

صحوت اليوم السّاعة ١٠ صباحًا، ولم أنم حتّى الآن، وأنا الآن نعسانة جدًا، إلّا أنّني أكتب، لأنني إن لم أفعل الآن فلن أفعل أبدًا.

أمارس في ليالي هذا الصّيف فقرة "الأخت الكبيرة" حيث يتحولق حولي إخوتي الصّغار أينما ذهبت، يتشاجرون أمامي، أو يتحدّثون عن كلّ شيء، ويكون عليّ أن أمدّهم بالأمان، وأهدهد مخاوفهم، وأرافقهم إلى المطبخ، وأصنع لهم عشاءً إن استلزم الأمر وهكذا. أخي الصّغير، آخر العنقود، الحبيب، القريب من قلبي، الّذي لا يكبر في عيني، "يكمل السّهرة" معي دائمًا، ولا ينام إلّا عندما أنام. يسألني عن كلّ شيء.. أسئلة وجوديّة تارة، وأسئلة حول تخصّصات ومهن العالم تارة أخرى. كلّ يوم يختار هذا النّونو مهنة جديدة يريد أن يمتهنها في المستقبل، ونفكّر سويّة فيما يمكن أن يصير عليه إن اختارها. يصرّ دائمًا أن يكون برفقتي حتّى وهو يلعب، يصنع آلات وروبوتات لها قدرات خارقة ويريني إيّاها، ويأمرني بتصويره وهو يشرحها وإرسالها إلى من يشاركه أمرها من أقربائنا الّذين في سنّه. يجب أن نلعب كلّ ليلة لعبة حرب الإبهام، وأفوز أنا غالبًا لأنّ إبهامي أطول. أُسمّي إبهامه "أبو خنصر" ويسمّي إبهامي "أبو بنصر". اليوم يوم استثنائي لأنه سمح لي بالحصول على ٣ أحضان. كلّ يوم أحاول أن أشرح له أنّني كأمّه، أنّني حمّمته وأكّلته وشرّبته واعتنيتُ به، وأنّه كبير نعم، إلّا أنّني لا أزال أراه نونو ليس لشيء إلّا لأنّني اعتنيتُ به مذ كان نونو، وأنّه ينبغي أن يكون لي نصيب يوميّ من الأحضان مثل ماما، وينتهي النقاش كل مرّة بأن يرفض رفضًا لا جدال فيه. اليوم اقتنع، واحتضنني ٣ مرّات بكل بطواعية وحبّ. كم أحبّه هذا النّونو. أحبّه بلا شروط، أحبّه في كلّ أحواله، أشعر أنّه كقطعة من قلبي، وأنّ حبّه في قلبي يتضخّم كلّ يوم. أحبّه كثيرًا، وأخاف أن يكبر إلى الحدّ الّذي يبتعد فيه عنّي. دائمًا ما أتساءل عن حبّ الأمّهات، هل يستطيع قلبي أن يحبّ أكثر؟ هل هناك من سيستحوذ على قلبي أكثر؟ كيف لقلبي أن يكون أكثر سعة؟ هل تجربة الحبّ الّتي سأمرّ بها حين الأمومة تتفوّق على هذه الّتي مع أخي؟ القلب أعجوبة، وأتمنّى أن أجرّب كلّ صنوف الحب.. أن أختبر إمكانيّات قلبي كلّها، أن أمطّ جدرانه إلى أبعد مدى، وأُدخل فيها كلّ حبّ ممكن قبل أن أموت.

اليوم كان يومًا سعيدًا جدًا، خرجتُ مع ماما في الصّباح، وأنجزنا كثيرًا في خرجتنا تلك، وضحكنا. عدتُ وتناولتُ غدائي ثمّ خرجت مرّة أخرى إلى حيثُ قابلت الكثير من الفتيات الجميلات، فعلنا ما فعلنا، تحدّثنا كثيرًا، واستمتعتُ برفقتهنّ، ورؤية ذاك البريق في أعينهن، البريق الّذي ينبّئ بدخول عوالم جديدة، البريق الّذي يصاحب دهشة الجديد، البريق الملازم لأعين كلّ من يهمّ بالطّيران. توجّهتُ بعدها مع اثنتين إلى مطعم ما. أكلنا وتحدّثنا. كنتُ منصتة في أغلب الوقت، متعبة، ومستمتعة. أحببتُ رفقتهما، وتجلّت لي معهما.. أشياء، وأشعر أنّ لديهما عوالم ما تجرأتُ دخولها يومًا، أو ما فكّرتُ في ذلك. أحبّ هذا الصّنف من النّاس، أولئك الّذين يكبرونني في كلّ شيء، ورغم ذلك ما أزال أملك رفقتهم والحديث معهم بفرصة متعادلة.


أشعر أنّني محظوظة جدًا، أكثر ممّا أستحقٍ، وأنّني رغم التّشتت الّذي أعيشه أمتلك الكثير، وقادرة على فعل الكثير، وأنّ الحياة حلوة، والإجازة ما تزال ممتدّة للمزيد من الإنجاز، وأنّني لذلك أدين بالكثير للعالم والنّاس. أريد أن أعطي كلّ شيء أمتلكه، وأن أمتلك كلّ ما أستطيع حتّى أعطيه.