السبت، 21 مايو 2016

عمّا مضى

بعد كل عام، أو كل فصل دراسيّ، أخرج عادة بصورة واضحة عن الدروس التي تعلمتها والتجارب التي خضتها، عما أضافه إليّ الزمان وما أخذ، ولكنني هذه المرّة لا أشعر بدافع قويّ لا لشعور مشابه ولا للبوح عنه، لذا فسوف أعتصره اعتصارًا. الفترة القادمة ستكون مختلفة تمامًا، وإن لم أعي كيف مضى الذي مضى، لن يكون للماضي قيمة أدركها، ولن أفهم كيف ينبغي عليّ أن أمضي فيما سيأتي،، وحين يحدث ذلك، تكون المحصّلة الوحيدة هي الندم والندم وحده، والندم مريع ومخيف.

على أية حال..

دعوني أتحدث عن الفصل الثاني بشكل أكثر الدقة، فلا شيء في الفصل الأول يستحقّ الذكر سوى بحثيّ الذين تعبت فيهما بجهد شخصيّ بحت، والضغط الدراسي الذي استنزفني على غير سنعْ. 

في الفصل الدراسي الثاني قررت أن أركز على الأنشطة اللامنهجية كمصدر للعلم والتجارب والخبرات، وأن أعطي الجامعة قدرها الذي تستحقه، وكان ذلك قرارًا حازمًا اتخذته بعد أن أعطيت الجامعة في الفصل الأوّل بإخلاص حقيقيّ، وأنجزت أبحاثًا وتكاليف كأفضل ما يكون، وأبدعت وإن لم يطلب مني الإبداع، وحضرت وإن كان الحضور مضيعة للوقت، وشاركت وإن كانت المشاركات من النوع الذي تطول معه الحصّة فتتذمر منها الطالبات، دخلت في نقاشات داخلية وخارجية مع كل الأساتذة والأستاذات، عرفت كيف درسوا وكيف انتهى بهم المطاف إلى تدريس المادة التي يعطونها، زرتهم كثيرًا في مكاتبهم، ولم يعد كل ذلك عليّ بشيء أذكره وأحبه وأسعد به اليوم، سوى القليل، القليل الذي لا يتناسب مع الكثير الذي أعطيت، وهذا هو الغبن، هذا هو الغبن.

كم معدّل رضاي عن نفسي في ذاك الفصل؟ لا شيء يذكر، لنقل ٢٠٪. المحصّلة الوحيدة هي تأكّدي التامّ من أن الإخلاص في المذاكرة والإعداد لمتطلبات الجامعة ليس هدفًا، والدرجات الكاملة لا تجلب لي الرضى، ولا السعادة، وليست من العلم الذي أدعو به الله عندما أقول "ربّ زدني علمًا" في شيء، إي والله. كلها من نوع احفظ واستفرغ، ما عدا مادة  الـhistory للأمانة، كانت المادّة الـ(وحيدة) الثريّة.

نتاجًا لذاك القرار الذي كان حبيس عقلي اللاواعي، حصل الآتي: كنت عضوة مع مجموعة، لنسمّها رقم (١)، وصاحبة مشروعين، لنسمّ الأول رقم (٢)، والثاني رقم (٣)، وعضوة في فريق، لنسمّه رقم (٤). 

التجربة رقم (١) لم تكن ذات أثر محسوس، ليس الأثر من النوع الذي أعرفه عندما أراه، ولا الذي أشعر به في اليوم التالي.. المحصلة التي خرجت بها كانت من النوع الذي أذكره ولا أنساه، هي درس وصفعة، درس أتعلمه بعد أن أتذوق مرارة الألم والحيرة في آن.

ما حصل هو أنني كنت لا مرئيّة حينما لا يراد لي أن أكون، ومرئيّة حينما تأتي الأعباء الحقيقية التي لا يقدر عليها سواي، ليس لشيء إنما لصعوبتها وقدرتي على تحملها دون الآخرين. لم أمانع أن أكون لا مرئية في البداية، لأنني لم أكن هناك لأظهر أصلًا، ولكن المشكلة كانت أكبر من ذلك، كانت كالدود الذي ينخر التفاحة من الداخل ولا تكاد ترى له أثرًا في الخارج، كالفساد الذي ينخر الهيكل من داخله. لم أشعر بالوخزات الأولى، ظننتها آلامًا أتوهمها، كنت أبتلع الغصص بابتسامة كبيرة، كنت أحسبها أعراضًا عادية، صداع ما بعد الدوام، التعب المصاحب للسعي، الكبد الذي يلازم الحياة، ولكن عندما حان الوقت، وهو سوف يحين عاجلًا أم آجلًا، شعرت حيال الوخزات المتكررة بشعور حادٍّ بوجود خلل ما. ذهبت إلى الطبيب، وكان كذلك. كنت ألوم نفسي، ألوم إرادتي على ضعف تحملها لما تواجه من آلام وخز عاديّة، ولكنها ما كانت عادية، ولم يكن ضعفًا، وما كنت أنا محلًا للّوم. الحقيقة كانت جارحة ونفسي تأذّت كثيرًا من لوم لم تستحقّه.

صرت أرى الأمور بعدها بمنظار مختلف، جمعت الحقائق، حللت المعلومات المعطاة، وكان فعلًا هناك خلل. بعد كثير مناوشات ونقاشات، بعدما تأكدت من أكثر من مصدر، عزمت على اتخاذ إجراء ما، خطوة ما، موقف ما. كانت هذه الخطوة صعبة جدًا، وثقيلة على قلبي، فأنا ما زلت أتمسك بموقفي القديم، بهم، بالأشياء الحلوة التي خططنا لها معًا، ولكن التنازل كان واجب، كان دواءً مرًّا. تخبطت وترددت كثيرًا وقتها ثم عزمت. عندما مرّ الوقت وهدأت الأوضاع، وحصل الذي كنت أخشى حصوله بدوني، لم يكن الأمر صعبًا أبدًا. لم يفتني شيء، والحياة سارت على عهدها الطبيعيّ ولكن دون المزيد من الوخزات، بعزّة أكبر، بصلابة أكبر. لم يفتني شيء! آه ما أجمل أن تعطي نفسك قدرها، آه ما أجمل أن تنسحب حينما يكون الانسحاب موقفًا قويًا وقرارًا لازمًا. كان درسًا صعبًا صرت من بعده أقوى بكثير، وأرى من بعده الدنيا بنظرة أحدّ بصيرة وأكثر حكمة. وداعًا للسذاجة، أهلًا بالفهم، أهلًا بالوعي، والوعي والله لا يأتي على طبق من ذهب.

كان الموقف (١) دفعة كبرى لحصول القصة (٢)، الفقرة الوردية من الفترة التي مضت من حياتي. كانت (٢) مشروعًا حلمًا، قصة منسوجة في خيالي الورديّ، أنام وأصحو عليها، أحدث بها أختي ليل نهار، أخطط لها وأنا لمّا بدأت فيها. كنت أحبها قبل أن أبدأها، ولا أنتظر سوى قدر ما يدفعني للتنفيذ. حصل ما حصل في (١)، فلم أتردد. كان الدافع مزيج من ردة فعل وحماس دفين، موجود وخامد. كان الموقف (١) سببًا كافيًا لتجاوز المخاوف والبدء بالتنفيذ مباشرة، فله الحمد على بلائه الذي لا يكتفي بجلب التعافي، بل لمزيد إرادة وهمة وقوة أتجاوز بها مخاوف لاحقة. بدأنا كما تبدأ البدايات، ساذجة، هلاميّة وغريبة. من الغريب أن تعمل على شيء لا وجود له، من الغريب واللذيذ والمخيف. لم أرض عنه حتى تجاوزنا الخطوة الثالثة، حيث بدأت تشعّ الأنوار وتزهر الآمال، حيث بدأ الربيع واخضرّت الأشياء في عيناي. بكيت يومها من فرط الرضا والتعب، فقد كنت مستيقظة لفترة طويلة، طويلة جدًا، امتدت من الطائرة التي عدت فيها وحيدة (لأول مرة في حياتي دون أي مرافق) إلى المحطة الأولى ثم إلى هناك. كنت سعيدة، سعيدة جدًا، سعادة لا تسعها كلمات الدنيا ولا قلوب العالمين. له الحمد، له الفضل. التدرج سنة الله في الكون، والبداية لا تكفي، والاستمرارية وحدها ترينا كيف تبدو الأشياء حينما يكتمل نموّها فتزهر، والسعي عند الله لا يخيب، والله لا يخيب، والله لا.. له الفضل كله. هذا المشروع من النوع الذي يُحفظ في مخزن الذاكرة، أستعيده حينما أشعر باليأس وعدم الرغبة في مواصلة الحياة. ذكراه تفيض عليّ بشعور أحبه وأعرفه. هذا المشروع من النوع الذي أتغيّب بسببه عن حدث هامّ جدًا، ولا أنام بسببه ثلاثة ليالٍ متواصلات بابتسامة كبيرة، وأخجل لأجله من فكرة الهجرة أو الانتحار، وهكذا.

القصة (٣) قصة لم تكتمل، ليست سعيدة تمامًا، ولكنها محاولة، محاولة ستثمر في وقتها، أخذت مني بعض الوقت والجهد، عولت عليها كثيرًا لحل الكثير من المشاكل، وأظنها سوف تفعل، أظن ذلك. أنا لست متأكدة من دوري فيها، ولا من الناتج، ولا من الأشخاص الذين أتعامل فيها معهم، كل شيء هلاميّ ومجهول بطريقة ليست مشوّقة. أفكر كثيرًا بالانسحاب.. أنا في الحقيقة لا أعرف. 

القصة (٤)، أوووه، هذه القصة مليئة بالمغامرات. حصلت فجأة، بطريقة مربكة لشخص مثاليّ جدًا مثلي. استشرت كثيرًا قبل البدء فيها، وكان ذلك مثمرًا ومفيدًا. بعدما رصصت كل التوقعات والمكاسب والخسائر، ووضعت لنفسي مؤشر نجاح معقول، كانت النتائج مرضية جدًا. أوه يا أصدقائي، الاستشارة مهمة بطريقة لم أتوقعها، وتجعل التجارب ذات عائد جميل يبعث على الرضى، ويجعلك تستمتع بتفاصيل الرحلة الجميلة بدلًا من أن تنشغل بالمخاوف التي لم تكن لتتوقعها لولا الاستشارة. كانت هذه القصة مليئة بالسفر، وكنت أحب ذلك، ولأجله خضت ما خضت. لم أكن أحب الأجواء، لم أكن أحب نفسي فيها، لم تكن تشبهني، ولا تناسبني، ولا ترحب بي كما أنا، كنت أشعر فيها بالضغط من النوع الذي يجبرني على التخلي عن أشياء جوهرية في سبيل التماهي. لم أفعل، فلم أنسجم بشكل كافٍ، ولكنني أحب الكثير من المواقف التي حصلت آنذاك. معيار النجاح الذي وضعته لنفسي تحقق بامتياز بفضل التوقعات التي جهزت نفسي لها. أتعرفون ما الشيء المميز من كل التجربة؟ المواقف التي لم أتوقعها، والأشخاص الذين ما خطر على بالي أنني سوف أقابلهم. أنا توقعت ما كنت بحاجة إلى أن أستعدّ له نفسيًا، ولكن ما أقصده هنا هو الإضافات المفاجئة التي تصاحب التجارب الجديدة لزامًا. المفاجآت التي خبأتها لي هذه التجربة كانت تفوق دائرة خبراتي البسيطة، كانت شيئًا خااااارجًا عن الصندوق، أوه، كانت أبعد من أبعد التوقعات، ورغم صعوبتها أحببتها من قلبي. هي من النوع الذي لا يتحدث عنه ولا يكتب عنه، تسرد في الذاكرة مصوّرة وحسب. أستعيد منها لحظات ولقطات، وأضحك بيني بيني، وأتأمل كم كبرت، كم صرت أعرف أكثر، كم من الزوايا صار بمقدوري أن أنظر من خلالها إلى الحياة. كانت هذه التجربة كبسولة مركزة عبرت من خلالها.. كانت محطة تسريع، كبرت فيها كما لم أكبر في محطات الحياة الأخرى. كنت أخبر صديقتي: أشعر أن اللحظات صارت ثقيلة ودسمة ومتخمة بالمعنى. كانت حياتي تمشي على رتم بطيء، ولكن في هذه التجربة، صارت تمشي برتم سريع، أحداث مركّبة تجر بعضها، أشخاص كثر أقابلهم في اللحظة الواحدة، ألف رسالة أرسل، ألف اتصال أجري، ألف فكرة أفكر بها حيال ألف شيء وشخص وحدث، يمرّ اليوم فلا أعود أعي كيف بدأ وكيف انتهى. أيامي فيها كانت ليست كالأيّام. بفضل هذه الحركة غير المعتادة في حياتي، صار شعوري حيال الأشياء من حولي أكثر تلوّنًا. كم تتلون الحياة بالحركة، كم تحلو بالإضافات الجديدة على مرارتها أو حموضتها أو تطرّفها في طعم أو شكل دون آخر. خرجت من منطقة الراحة بشكل مخيف وممتع، فاتسعت من بعد ذلك الدائرة، تمامًا كما يحصل عندما يلقي الواحد فينا بنفسه في مسبح بارد.. يبرد في البداية، ثم يتقن السباحة رغم البرد، ويستمتع بها.

هذا بالنسبة للجزء الأول من الأشياء الهامة التي حصلت لي في الفصل الفائت، الجزء الثاني ذا طابع مختلف، يرتبط بالأشخاص أكثر من ارتباطه بالأشياء، و لعلّي أتحدث عنه في تدوينة منفصلة.

دمتم أكثر شجاعة، وأكثر تقدير لأنفسكم، بعيون أكثر اتساعًا، وهمّة أكبر للمضيّ في المجهول، وماضٍ تحبونه وتفخرون به كمحطات هامة في تشكيل ذواتكم.

الأحد، 1 مايو 2016

ابنة الحظ.. رواية أحببتها




ابنة الحظ، انتهيت للتوّ من هذه الرواية الملحمة، المترسة بالتجارب، الزاخرة بالتفاصيل، المفعمة بالحياة.

تعلمت الكثير، وشعرت بي خضت التجربة، وسلكت الجبال والسهول والبحار، ودخلت البيوت من أرقاها إلى أحقرها، شممت الروائح وعشت الآلام بأنواعها، مزيج من جوع ومخاض وخوف، هربت إلزا وهرب من قلبي وذهني وانتباهي معها. إيزابيل اللندي كاتبة بارعة بطريقة مذهلة. كيف لها أن تخوض في ذاك الكم الهائل المعجز من التفاصيل؟ كيف لها أن تنتقل من تشيلي وميناء بالباريسو، إلى الصين، إلى سكرمنتو ثم إلى سان فرانسيسكو بذاك الانسياب، وذاك التفصيل الدقيق الممتع الذي يصوّر الأجواء والأشكال والأشياء والأشخاص والألوان، حتى الروائح صرت أشمها وأنا أقرأ. كل شيء في الرواية مثاليّ حد الحقيقة، انسيابية السرد ودقة الأوصاف، والشخصيات.. كل شيء مثاليّ. إيزابيل حينما تقص تفاصيل الرواية أخالها تطرّز ثوبًا جميلًا، غرزة غرزة، خرزة خرزة، تتقن كل التفافة، كل انحناءة، كل انعطافة. تتخيّر ألوان الخيوط اختيارًا، تقفز بين الغرزة والأخرى قفزة فنان بارع، دون أن تترك زوائد تشوه المنظر. كل غرزة منسجمة مع الأخرى، كل تفصيل يضيف إلى الصورة الكاملة إضافة بهية. تبتعد لترى ثوبًا جميلة مزينًا بأنواع الخرز وألوان الخيوط. غنيّة هي الرواية، وغزير هو عقل إيزابيل بالتفاصيل الجميلة التي تعرف كيف تصفها بأزهى ما يكون.

أشعر أنني بعد هذه الرواية صرت شخصًا آخر، شخصًا جديدًا قد خاض تجربة حقيقية. تعلمت الكثير من إلزا، ومن تمرد إلزا على كل شيء سعيًا وراء ما كانت تحبه، وإن تبين لها أنه حب وهمي طائش في نهاية المطاف، وإن لم تعثر على ضالّتها الأولى. عاشت إلزا في أكناف بيت آل سوميرز ما بين دلال وصرامة مس روز، وتعلم الطبخ والزراعة بجوار ماما فريسيا، الخادمة الهندية العجوز. كل ما كانت تعرفه إلزا عن أصلها هو وجودها ملقاة في صندوق عند باب بيت آل سوميرز الذين تفضلوا بالعناية بها. كانت مس روز الشابة العازبة تعتني بإلزا، ثم تهملها أيامًا تقضيها الفتاة مع ماما فريسيا في مطبخها، حتى بلغت إلزا سنًا ألزمتها من بعده مس روز على المشي متزنة بقضيب حديدي مثبت في ظهرها، وتلقّي دروس العزف على البيانو، وارتداء الفساتين التي كانت تفصلها لها، وصارت منذ ذلك الحين تجهز جهازها كعروس، وتجمع لها أثمن القلائد والهدايا حتى يكون جهازها مكتملًا حينما تجد لها الزوج المناسب.

حينما حانت اللحظة التي واجهت فيها إلزا الأجير الذي يعمل عند جيرمي سوميرز -أخ مس روز- والمدعى بخواكين أندييتا، كانت جاهزة للحب تمامًا، وأحبته من ذاك اللقاء اليتيم حبًا ملأ الفراغات في قلبها المراهق الطريّ، فكان حبه دافعًا كافيًا لتمرد إلزا وهربها لحاقًا بخواكين الذي سافر مع من سافر إلى أرض الذهب الموعود في كاليفورنيا.

هربت إلزا وتركت آل سوميرز، دون أن تعلم أنها كانت ابنة جون سوميرز -أخ مس روز- وأن مس روز كانت عمتها. ساعدها تاو تشين بالهرب في قاع سفينة شراعية ذاهبة إلى كالفورنيا دون شراء تذكرة، حتى لا تلفت إليها الأنظار ولا تدع لأحد من آل سوميرز مجالًا أن يتعقبها، حيث أجهضت في مخزن السفينة الذي قضت فيه شهور الرحلة، وتكفل تاو تشين -الشاب الصيني الذي كان يعمل في السفينة- بمساعدة أحد النساء بالعناية بها في أيام إجهاضها الصعبة.

وصلت إلزا بعد عدة شهور قضتها في السفينة بين الإغماء ونزيف الإجهاض، وعاشت مع تاو تشين بملابس رجل، حيث استمرت على المظهر الذي هربت به من السفينة إلى بر الوصول. كان مظهر الرجل آمنًا في حالتها؛ إذ أنه كانت تندر هناك النساء، ووجودها كامرأة كان سيلفت إليها الأنظار، ويعرضها لمصير غير شريف رغمًا عنها. فارقت تاو تشين حتى تكمل البحث، وعاشت مع جو كسارة العظام صاحبة السيرك المتنقل كلاعبة بيانو ومضمدة لجراح المرضى، ثم عادت بعدها للعيش مع تاو تشين في وجهتهما الجديدة في سان فرانسيسكو.

كان هدف إلزا من الرحلة بأسرها هي البحث عن خواكين حبيبها المزعوم، كان هو دافعها لقطع تلك المسافات وخوض غمار حياة تختلف تمامًا عن التي اعتادت عليها. لكنها بعدما رأت من الحياة ما رأت، واتخذت ممن وجدتهم في طريقها أصدقاء، بهت في طريقها ذلك الحلم، ولكنها كانت مدينة لحياتها الجديدة، وللتجارب الجديدة التي واجهتها، والتي أدركت من خلالها أن حلمها ذاك كان فورة صبا. كانت تكمل البحث عنه، ولا تدري إن كان إكمالها للبحث عن دافع حب أو كبرياء. كانت تقول بأنها تريد أن تجده حتى لا تعيش في المزيد من الشكوك، وكانت أحيانًا تريد أن تراه حتى تصرخ في وجهه وتخبره أنه ما استحق العناء الذي بذلته في سبيل الوصول إليه. 

تعلمت من إلزا أنه ربما لا تكون أحلامنا الأولى دقيقة بالطريقة الصحيحة، ربما نكون قد جانبنا الصواب كله حينما اخترنا أن نجري وراءها، وأن نتنازل عما اعتدنا عليه من حب وأمان وراحة؛ إلا أن السعي الشاقّ الذي بذلناه في سبيلها لن يكون فارغًا من المعنى. نحن بذاك السعي فقط سوف ندرك ميزان  الأشياء الصحيح الذي سنزن به الحلم الذي اخترنا، فنعرف من بعدها إن كان يستحق الوزن الذي أعطيناه. المهم هو أن نختار؛ المهم هو أن نمضي وراء ما نختار. المهم هو أن نؤمن، والباحث الصادق سوف يعرف الطريق إن مضى بصدقه خلف ما يظنه صحيحًا. هذا الكون بتضاريسه وأناسه وأحداثه المتسارعة لا يترك الباحث الصادق مجردًا من فكرة يحتاجها، وشعور عميق بما ينبغي عليه أن يفعله. كل شيء سيدلك على ما تريده حقًا أن أعطيت هذا العالم ما ينبغي من نفسك حتى تدرك ما تريد. المهم أنك تريد.

من جميل العيش في هذا الكون، وسعة رحمة ربه المدبّر، أن كل خطوة نخطوها، سيئة كانت أو جيدة، مؤلمة كانت أو ممتعة، تحفظ في مكان أمين، في مخزن مبارك، نستعيد من خلاله ما تعلمناه يومًا وقت الحاجة، لنعبّد به طرق الحياة ونرسم لأنفسنا مصائر نحبها ونرضاها. إلزا تعلمت الطبخ مع ماما فريسيا في الأيام التي أهملتها فيها مس روز، لتبيع بعد ذلك الفطائر الشهية تارة في ساكرمانتو، وتارة مع جو كسار العظام، ومرة أخرى في سان فرانسيسكو، حتى تكون بذلك مهارتها العجيبة في صنع الفطائر مصدر دخل سخيّ لها. تعلمت إلزا كيف تعزف البيانو مع عصا معلم البيانو الصارم، بأوامر شديدة من مس روز، ظنًا منها أن على الفتاة التي تبحث عن زوج لائق أن تكون عازفة ماهرة. عندما كادت إلزا أن يغمى عليها من الجوع، دخلت حانة وجلست على البيانو، واكتسبت من ذلك العزف مالًا كثيرًا وعملًا دائمًا مع السيرك المتنقل. استخدمت إلزا مهارتها في الكتابة التي تعلمتها من مس روز لقراءة الرسائل وكتابتها في إحدى المحطات التي وصلت إليها في رحلتها للبحث عن خواكين، واستعملت اللغة الهندية التي تعلمتها من ماما فريسيا، واللاتينية التي تعلمتها بحكم حياتها في تشيلي، والإنجليزية التي تعلمتها من آل سوميرز إنجليزيّو الأصل في الترجمة لتاو تشين حينما كان يبحث عن أعشابه الطبية، كما ساعدها ذلك على التخفي من اللصوص ومشاجرات القبائل حينما قضت أيامها وحيدة مع قبائل مختلفة. وحب خواكين.. لولا حب خواكين لما صارت إلزا إلى ما صارت عليه، لما عاشت الحرية التي طالما حلمت بها، لما خاضت كل التجارب التي شكلتها لتكون.. إلزا الكبيرة الواعية. 

كل النقاط تستطيع أن تصلها إلزا الآن لتعرف كيف رسم القدر، أظن أن إلز تفهم الآن سبب معيشتها في بيت آل سوميرز  قبل أن تخوض الحياة الحرة الصعبة التي عاشتها وأحبتها وأحبت نفسها الجديدة فيها. هذا القدر الذي يدبره لنا الله غني بالمفاجآت المغلفة بالرحمة. لا شيء يضيع إن أنت تحركت، وسعيت بهدف واضح وعزيمة صادقة.

عندما انتقلت إلزا للعيش مع السيرك المتنقل الذي تقوده جو كسارة العظام، كانت تحنّ إلى تاو تشين، دون بيت آل سوميرز، وكانت تعجب من ذلك. كان تاو تشين يقول لها باستمرار أنها ستعتاد على كل شيء، وقد فعلت.
لابدّ ألا نخاف من الصلات التي نبنيها مع الأشياء والأشخاص والأماكن حينما نقرر أن نمضي في طريق جديد، فلنا نحن البشر قدرة عجيبة في خلق علاقات مع الأشياء الجديدة التي يضعنا القدر فيها. الحياة تمضي، والزمن يمضي، والعالم غني بأماكن وأشخاص جدد. نحن إن فقدنا أحدها في الطريق سوف نحظى بآخر. ينبغي أن لا يكون خوف الفراق مانعًا من المضيّ، ونحن لن ندرك قدرتنا العجيبة على التحرر من القديم والتأقلم مع الجديد حتى اللحظة التي ننسى فيها الذي مضى ونشعر فيها بانسجام مع قدرنا الحاليّ، ونعجب لذلك.

عندما أصيب الناس في مختلف أقطار العالم بهوس الذهب، وتركوا عوائلهم وبيوتهم خلفهم سعيًا وراء الكنز الموعود في كاليفورنيا، كانت باولينا التشيلية أذكى من أولئك الجشعين. فكرت باولينا بالفرص التي من الممكن أن تفوز بها في غمار هذا الجنون العالميّ بذهب كاليفورنيا. وسط ضجيج فوضى البحث عن ذهب، فكرت باولينا بنقل المأكولات الطازجة التي تفتقر إليها تلك المنطقة إلا من أكل معلب، واكتسبت من خلال ذلك ثروة. فكرت بذلك الصينية آه تاوين بطريقة فاسدة؛ بتجارة النساء هناك، حيث كانت مناطق البحث عن الذهب تخلو تقريبًا من النساء، وصارت من بعدها ثرية جدًا. جنت كل من هاتين المرأتين أكثر مما يجنيه الباحثون عن الذهب أضعافًا مضاعفة، وازدهرت تجارتهما مع الوقت وكثرة الناس، وصارتا رائدتين في مجال تجارتيهما في تلك المنطقة،  علمًا بأنه قد اتضح بعد الفورة والهجرة أن الذهب لم يكن في متناول الأيدي كما كان يقال، وأن أغلب الباحثين عادوا خائبين.

قد لا تكون الفرصة، ولا يكون المجد فيما يشير إليه الناس، وتتداوله الألسن، بل في حاجة مهملة في الطريق، لا يدركها إلا صاحب البصيرة، وذو النظرة الثاقبة، الذي استطاع أن يدرك مكامن الحاجات الحقيقية، ووظّف مهارته وخبراته في سدادها.

مضى تاو تشين في حياته الطبية، وفي مهنته كملّاح في السفن الشراعية بحثًا عن الحكمة الضالّة، اقتفاءً لأثر معلمه الذي علمه فنون الطب الشرقيّ، واقتداء به. كانت إلزا تجره من مكان إلى آخر بحثًا عن خواكين، ولم يعد بسببها إلى السفينة كما وعد البحار الذي تعاقد معه. كانت تقنعه بأن في هذا العالم الجديد ما يستحق التعلم في فنون الطب، حتى يرافقها في رحلتها التي كانت تخاف أن تخوضها وحيدة وهزيلة في البداية. كان لا يكاد يستقرّ في مكان بحجة أنه لم يجد فيه الهدوء الذي يدعوه إلى الوصول للحكمة التي كان يرجوها، وكان لذلك يرغب بالعودة إلى الصين. أدرك بعدها تاو تشين أن الحكمة التي كان يرجوها لن تتحقق بدون خوض التجارب، وأنه حينما رسم هيأته كحكيم في مخيلته في جو هادئ كما كان يتصور، لم يدرك الطريقة التي كان يرغب أن يخوض بها حياته فعلًا. العبرة بالرحلة، وليست بالهدوء. الهدوء الذي يصبو إليه هو نتيجة لهذه الرحلة التي سيخوضها. العبرة بالطريق الذي نحصّله في سبيل الوصول إلى الهدف.. الهدف نتيجة لذلك الطريق. الهدف هو خوض الرحلة المؤدية إليه، أما الهدوء المجرد، والحكمة المجردة ليست شيئًا ممكن الحصول عليه، وإن كانت كذلك، فستكون الحياة مملّة جدًا، والحكمة سهلة المنال.

لم تدرك مس روز الأخطاء التي اقترفتها في حق نفسها، والقيود التي كبلت بها نفسها، إلا بعد أن فقدت إلزا. أدركت حينها كم هي وحيدة، وأن سجن العادات والمظاهر الذي لا تفتأ تحيط به نفسها لم يعد عليها بما كانت تحب فعلًا وتتمنى. أدركت حينما هربت إلزا أنه ما كان ينبغي أن ترتب لها الحياة كما كانت تفرض عليها عادات التشيليين. أدركت مس روز أنه كان عليها أن تخبر إلزا أنها جزء حقيقي من العائلة قبل أن تهرب ظانّة بأنها لقيطة تفضل عليها آل سوميرز بالرعاية قبل فوات الأوان، وأنها من حيث كانت سترفض خواكين الأجير الفقير حبيبًا لها، كانت ينبغي أن تفهم مشاعر إلزا المندفعة التي تشعر بها كل فتاة في مثل عمرها، وأن تفهم رغبتها وتحتويها بدلًا من أن تختار لها عريسًا يوافق مزاج مس روز وفقًا لما تقتضيه المكانة الاجتماعية والمنظر الوسيم. كانت تندب كل لحظة أهملت فيها إلزا.. كانت تستعيد كل اللحظات التي تشاركتها مع إلزا بحب وحزن، فيما كانت إلزا في عالم مختلف تمامًا تعيشه مع صديقها الجديد تاو تشين، أو مع عربة جو كسارة العظام.

هذه الرواية الكنز، هذه اللوحة البديعة، هذه التجربة الغزيرة بدروس الحياةعلمتني الكثير. وداعًا إلزا الشقيّة، وداعًا تاو تشين الطبيب الطيب، وداعًا آل سوميرز النبلاء. كانت رفقتكم جميلة، وفراقكم صعب.. والله صعب!