السبت، 21 مايو 2016

عمّا مضى

بعد كل عام، أو كل فصل دراسيّ، أخرج عادة بصورة واضحة عن الدروس التي تعلمتها والتجارب التي خضتها، عما أضافه إليّ الزمان وما أخذ، ولكنني هذه المرّة لا أشعر بدافع قويّ لا لشعور مشابه ولا للبوح عنه، لذا فسوف أعتصره اعتصارًا. الفترة القادمة ستكون مختلفة تمامًا، وإن لم أعي كيف مضى الذي مضى، لن يكون للماضي قيمة أدركها، ولن أفهم كيف ينبغي عليّ أن أمضي فيما سيأتي،، وحين يحدث ذلك، تكون المحصّلة الوحيدة هي الندم والندم وحده، والندم مريع ومخيف.

على أية حال..

دعوني أتحدث عن الفصل الثاني بشكل أكثر الدقة، فلا شيء في الفصل الأول يستحقّ الذكر سوى بحثيّ الذين تعبت فيهما بجهد شخصيّ بحت، والضغط الدراسي الذي استنزفني على غير سنعْ. 

في الفصل الدراسي الثاني قررت أن أركز على الأنشطة اللامنهجية كمصدر للعلم والتجارب والخبرات، وأن أعطي الجامعة قدرها الذي تستحقه، وكان ذلك قرارًا حازمًا اتخذته بعد أن أعطيت الجامعة في الفصل الأوّل بإخلاص حقيقيّ، وأنجزت أبحاثًا وتكاليف كأفضل ما يكون، وأبدعت وإن لم يطلب مني الإبداع، وحضرت وإن كان الحضور مضيعة للوقت، وشاركت وإن كانت المشاركات من النوع الذي تطول معه الحصّة فتتذمر منها الطالبات، دخلت في نقاشات داخلية وخارجية مع كل الأساتذة والأستاذات، عرفت كيف درسوا وكيف انتهى بهم المطاف إلى تدريس المادة التي يعطونها، زرتهم كثيرًا في مكاتبهم، ولم يعد كل ذلك عليّ بشيء أذكره وأحبه وأسعد به اليوم، سوى القليل، القليل الذي لا يتناسب مع الكثير الذي أعطيت، وهذا هو الغبن، هذا هو الغبن.

كم معدّل رضاي عن نفسي في ذاك الفصل؟ لا شيء يذكر، لنقل ٢٠٪. المحصّلة الوحيدة هي تأكّدي التامّ من أن الإخلاص في المذاكرة والإعداد لمتطلبات الجامعة ليس هدفًا، والدرجات الكاملة لا تجلب لي الرضى، ولا السعادة، وليست من العلم الذي أدعو به الله عندما أقول "ربّ زدني علمًا" في شيء، إي والله. كلها من نوع احفظ واستفرغ، ما عدا مادة  الـhistory للأمانة، كانت المادّة الـ(وحيدة) الثريّة.

نتاجًا لذاك القرار الذي كان حبيس عقلي اللاواعي، حصل الآتي: كنت عضوة مع مجموعة، لنسمّها رقم (١)، وصاحبة مشروعين، لنسمّ الأول رقم (٢)، والثاني رقم (٣)، وعضوة في فريق، لنسمّه رقم (٤). 

التجربة رقم (١) لم تكن ذات أثر محسوس، ليس الأثر من النوع الذي أعرفه عندما أراه، ولا الذي أشعر به في اليوم التالي.. المحصلة التي خرجت بها كانت من النوع الذي أذكره ولا أنساه، هي درس وصفعة، درس أتعلمه بعد أن أتذوق مرارة الألم والحيرة في آن.

ما حصل هو أنني كنت لا مرئيّة حينما لا يراد لي أن أكون، ومرئيّة حينما تأتي الأعباء الحقيقية التي لا يقدر عليها سواي، ليس لشيء إنما لصعوبتها وقدرتي على تحملها دون الآخرين. لم أمانع أن أكون لا مرئية في البداية، لأنني لم أكن هناك لأظهر أصلًا، ولكن المشكلة كانت أكبر من ذلك، كانت كالدود الذي ينخر التفاحة من الداخل ولا تكاد ترى له أثرًا في الخارج، كالفساد الذي ينخر الهيكل من داخله. لم أشعر بالوخزات الأولى، ظننتها آلامًا أتوهمها، كنت أبتلع الغصص بابتسامة كبيرة، كنت أحسبها أعراضًا عادية، صداع ما بعد الدوام، التعب المصاحب للسعي، الكبد الذي يلازم الحياة، ولكن عندما حان الوقت، وهو سوف يحين عاجلًا أم آجلًا، شعرت حيال الوخزات المتكررة بشعور حادٍّ بوجود خلل ما. ذهبت إلى الطبيب، وكان كذلك. كنت ألوم نفسي، ألوم إرادتي على ضعف تحملها لما تواجه من آلام وخز عاديّة، ولكنها ما كانت عادية، ولم يكن ضعفًا، وما كنت أنا محلًا للّوم. الحقيقة كانت جارحة ونفسي تأذّت كثيرًا من لوم لم تستحقّه.

صرت أرى الأمور بعدها بمنظار مختلف، جمعت الحقائق، حللت المعلومات المعطاة، وكان فعلًا هناك خلل. بعد كثير مناوشات ونقاشات، بعدما تأكدت من أكثر من مصدر، عزمت على اتخاذ إجراء ما، خطوة ما، موقف ما. كانت هذه الخطوة صعبة جدًا، وثقيلة على قلبي، فأنا ما زلت أتمسك بموقفي القديم، بهم، بالأشياء الحلوة التي خططنا لها معًا، ولكن التنازل كان واجب، كان دواءً مرًّا. تخبطت وترددت كثيرًا وقتها ثم عزمت. عندما مرّ الوقت وهدأت الأوضاع، وحصل الذي كنت أخشى حصوله بدوني، لم يكن الأمر صعبًا أبدًا. لم يفتني شيء، والحياة سارت على عهدها الطبيعيّ ولكن دون المزيد من الوخزات، بعزّة أكبر، بصلابة أكبر. لم يفتني شيء! آه ما أجمل أن تعطي نفسك قدرها، آه ما أجمل أن تنسحب حينما يكون الانسحاب موقفًا قويًا وقرارًا لازمًا. كان درسًا صعبًا صرت من بعده أقوى بكثير، وأرى من بعده الدنيا بنظرة أحدّ بصيرة وأكثر حكمة. وداعًا للسذاجة، أهلًا بالفهم، أهلًا بالوعي، والوعي والله لا يأتي على طبق من ذهب.

كان الموقف (١) دفعة كبرى لحصول القصة (٢)، الفقرة الوردية من الفترة التي مضت من حياتي. كانت (٢) مشروعًا حلمًا، قصة منسوجة في خيالي الورديّ، أنام وأصحو عليها، أحدث بها أختي ليل نهار، أخطط لها وأنا لمّا بدأت فيها. كنت أحبها قبل أن أبدأها، ولا أنتظر سوى قدر ما يدفعني للتنفيذ. حصل ما حصل في (١)، فلم أتردد. كان الدافع مزيج من ردة فعل وحماس دفين، موجود وخامد. كان الموقف (١) سببًا كافيًا لتجاوز المخاوف والبدء بالتنفيذ مباشرة، فله الحمد على بلائه الذي لا يكتفي بجلب التعافي، بل لمزيد إرادة وهمة وقوة أتجاوز بها مخاوف لاحقة. بدأنا كما تبدأ البدايات، ساذجة، هلاميّة وغريبة. من الغريب أن تعمل على شيء لا وجود له، من الغريب واللذيذ والمخيف. لم أرض عنه حتى تجاوزنا الخطوة الثالثة، حيث بدأت تشعّ الأنوار وتزهر الآمال، حيث بدأ الربيع واخضرّت الأشياء في عيناي. بكيت يومها من فرط الرضا والتعب، فقد كنت مستيقظة لفترة طويلة، طويلة جدًا، امتدت من الطائرة التي عدت فيها وحيدة (لأول مرة في حياتي دون أي مرافق) إلى المحطة الأولى ثم إلى هناك. كنت سعيدة، سعيدة جدًا، سعادة لا تسعها كلمات الدنيا ولا قلوب العالمين. له الحمد، له الفضل. التدرج سنة الله في الكون، والبداية لا تكفي، والاستمرارية وحدها ترينا كيف تبدو الأشياء حينما يكتمل نموّها فتزهر، والسعي عند الله لا يخيب، والله لا يخيب، والله لا.. له الفضل كله. هذا المشروع من النوع الذي يُحفظ في مخزن الذاكرة، أستعيده حينما أشعر باليأس وعدم الرغبة في مواصلة الحياة. ذكراه تفيض عليّ بشعور أحبه وأعرفه. هذا المشروع من النوع الذي أتغيّب بسببه عن حدث هامّ جدًا، ولا أنام بسببه ثلاثة ليالٍ متواصلات بابتسامة كبيرة، وأخجل لأجله من فكرة الهجرة أو الانتحار، وهكذا.

القصة (٣) قصة لم تكتمل، ليست سعيدة تمامًا، ولكنها محاولة، محاولة ستثمر في وقتها، أخذت مني بعض الوقت والجهد، عولت عليها كثيرًا لحل الكثير من المشاكل، وأظنها سوف تفعل، أظن ذلك. أنا لست متأكدة من دوري فيها، ولا من الناتج، ولا من الأشخاص الذين أتعامل فيها معهم، كل شيء هلاميّ ومجهول بطريقة ليست مشوّقة. أفكر كثيرًا بالانسحاب.. أنا في الحقيقة لا أعرف. 

القصة (٤)، أوووه، هذه القصة مليئة بالمغامرات. حصلت فجأة، بطريقة مربكة لشخص مثاليّ جدًا مثلي. استشرت كثيرًا قبل البدء فيها، وكان ذلك مثمرًا ومفيدًا. بعدما رصصت كل التوقعات والمكاسب والخسائر، ووضعت لنفسي مؤشر نجاح معقول، كانت النتائج مرضية جدًا. أوه يا أصدقائي، الاستشارة مهمة بطريقة لم أتوقعها، وتجعل التجارب ذات عائد جميل يبعث على الرضى، ويجعلك تستمتع بتفاصيل الرحلة الجميلة بدلًا من أن تنشغل بالمخاوف التي لم تكن لتتوقعها لولا الاستشارة. كانت هذه القصة مليئة بالسفر، وكنت أحب ذلك، ولأجله خضت ما خضت. لم أكن أحب الأجواء، لم أكن أحب نفسي فيها، لم تكن تشبهني، ولا تناسبني، ولا ترحب بي كما أنا، كنت أشعر فيها بالضغط من النوع الذي يجبرني على التخلي عن أشياء جوهرية في سبيل التماهي. لم أفعل، فلم أنسجم بشكل كافٍ، ولكنني أحب الكثير من المواقف التي حصلت آنذاك. معيار النجاح الذي وضعته لنفسي تحقق بامتياز بفضل التوقعات التي جهزت نفسي لها. أتعرفون ما الشيء المميز من كل التجربة؟ المواقف التي لم أتوقعها، والأشخاص الذين ما خطر على بالي أنني سوف أقابلهم. أنا توقعت ما كنت بحاجة إلى أن أستعدّ له نفسيًا، ولكن ما أقصده هنا هو الإضافات المفاجئة التي تصاحب التجارب الجديدة لزامًا. المفاجآت التي خبأتها لي هذه التجربة كانت تفوق دائرة خبراتي البسيطة، كانت شيئًا خااااارجًا عن الصندوق، أوه، كانت أبعد من أبعد التوقعات، ورغم صعوبتها أحببتها من قلبي. هي من النوع الذي لا يتحدث عنه ولا يكتب عنه، تسرد في الذاكرة مصوّرة وحسب. أستعيد منها لحظات ولقطات، وأضحك بيني بيني، وأتأمل كم كبرت، كم صرت أعرف أكثر، كم من الزوايا صار بمقدوري أن أنظر من خلالها إلى الحياة. كانت هذه التجربة كبسولة مركزة عبرت من خلالها.. كانت محطة تسريع، كبرت فيها كما لم أكبر في محطات الحياة الأخرى. كنت أخبر صديقتي: أشعر أن اللحظات صارت ثقيلة ودسمة ومتخمة بالمعنى. كانت حياتي تمشي على رتم بطيء، ولكن في هذه التجربة، صارت تمشي برتم سريع، أحداث مركّبة تجر بعضها، أشخاص كثر أقابلهم في اللحظة الواحدة، ألف رسالة أرسل، ألف اتصال أجري، ألف فكرة أفكر بها حيال ألف شيء وشخص وحدث، يمرّ اليوم فلا أعود أعي كيف بدأ وكيف انتهى. أيامي فيها كانت ليست كالأيّام. بفضل هذه الحركة غير المعتادة في حياتي، صار شعوري حيال الأشياء من حولي أكثر تلوّنًا. كم تتلون الحياة بالحركة، كم تحلو بالإضافات الجديدة على مرارتها أو حموضتها أو تطرّفها في طعم أو شكل دون آخر. خرجت من منطقة الراحة بشكل مخيف وممتع، فاتسعت من بعد ذلك الدائرة، تمامًا كما يحصل عندما يلقي الواحد فينا بنفسه في مسبح بارد.. يبرد في البداية، ثم يتقن السباحة رغم البرد، ويستمتع بها.

هذا بالنسبة للجزء الأول من الأشياء الهامة التي حصلت لي في الفصل الفائت، الجزء الثاني ذا طابع مختلف، يرتبط بالأشخاص أكثر من ارتباطه بالأشياء، و لعلّي أتحدث عنه في تدوينة منفصلة.

دمتم أكثر شجاعة، وأكثر تقدير لأنفسكم، بعيون أكثر اتساعًا، وهمّة أكبر للمضيّ في المجهول، وماضٍ تحبونه وتفخرون به كمحطات هامة في تشكيل ذواتكم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق