السبت، 21 أكتوبر 2017

عن عيوني، وأشياء أخرى

أخيرًا صرت أرى بوضوح يكفي أن أميّز حروف الكلمات عن بعضها، وإن كنت لست أراها بوضوح تام، بعضها يدخل في بعض، أزيد حرفًا من خيالي وأنقص آخر.. لا زلت لم أتعافى بشكل كامل، إلّا أنني -يا الله!- صرت أبصر مرة أخرى. هذه مناسبة تستحقّ الاحتفال. لم أكن أعلم أن غياب الرؤية الواضحة مدة أسبوعين من الممكن أن يتسبب بكآبة وشعور بالعجز إلى هذا الحد، فقد أرتني الأيام أن كل شيء قيّم أفعله لعيوني فيه دور جوهري. كيف يعيش العميان ومن فقدوا أبصارهم؟ لا أستطيع تخيل ذلك. الحياة دون عيون أصعب/أشقى مما ظننت. هذا العضو العظيم المهيب، صاحب الفضل في كلّ فكرة وذكرى وصداقة وتصوّر ونشاط. ذاكرتي كلها صور، والذاكرة هويّة. العيون نافذة للعالم الخارجيّ، بها نجرّب العالم، نبصر بها المناظر الجديدة الجميلة، ندرك بها سعة العالم وضيقنا، امتداد الأفق ومحدوديّتنا، تلوّن الأشياء، أبعادها، أحجامها، مداها.. بها نقرأ عيون من نحب دون أن نكلّفهم عناء تشكيل المعنى في كلام، بها نرى شعاع أعينهم/قلوبهم أو خفوتها، دورانها عندما تجول في بالهم فكرة، أغوارها العميقة عندما تسلبهم من اللحظة ذكرى. يا حبيبتي يا عيوني!

قمت أخيرًا بعمل عملية (ليزر سطحي) لعيوني للاستغناء عن نظارتي الحبيبة الأثيرة الزرقاء الجميلة؛ وهي العمليّة البديلة عن (الليزك) لمن لا تسمح لهم تضاريس أعينهم بإجرائها، وقد كانت أمرًا شاقًا لجسدي ونفسي، مررت بأشياء أكرهها ولا أودّ استعادتها في ذاكرتي ما حييت؛ رغم أنّ تلك الأوقات الصعبة فتقت في بالي أشياء، وحثتني على التساؤل، وإيجاد إجابات، وتفكيك بعض الألغاز في حياتي وحياة آخرين. كل موقف صعب غربلة، وكلّ غربلة إعادة ترتيب، سد للفجوات، تفكيك للأشياء الملتصقة عبثًا، تنظيف وتنقية. صعبة هي الغربلة، جذرية هي نتائجها، ولا تعود الأشياء بعدها كما كانت، ورغم كل شيء لست أندم حصولها، وما حصل وأن ندمت حصول غربلة ما؛ ما دامت الأشياء بعدها تصير حقيقية أكثر، والغبار المتكدّس بينها ينفضّ، ويترك المكان من بعده خاليًا أي نعم، ولكن لامعًا، يعكس الأشياء كمرآة، ومستعدًّا لاستقبال جديد.

هناك الكثير ليقال..

هناك شعور ما يراودني بجنون، أكرهه أو أحبه، لا أعرف، ما أعرفه هو أنّني أكره أنه يحبسني، أو أنني أحبس نفسي داخله، ولا أظنّ أن ما أفعله يصحّ بأيّ شكل، ولست أظنّ أن لكل خبراء علم النفس عذرًا يستطيعون إيجاده لي؛ فاجترار الموقف بهذه الطريقة، وتقمّص الشعور المصاحب له كما لو أن الموقف يحصل للمرة الأولى- جنون كامل، رغم أن قدرتي على استعادة فترة زمنية قصيرة -حصل بعدها ما يكفي لتشويهها في ذهني-؛ تدهشني وتجعلني أعجب من نفسي.
أنا من أولئك الذين يؤمنون بأنّه للتخلص من حالة ما، أو شعور ما، أو فكرة مزعجة ما، ينبغي على الواحد فينا أن يجعلها تمر، أن لا تصطدم، بل تعبر، لأن عبور شيء لا يتمّ إلّا من خلاله.. أسمح للأمور تجول عقلي دون أن أدفنها، وأنا أكرر على نفسي أن المسألة مسألة وقت، وأنّ مصير الوقت العبور، وأن كل ما يصاحبه سيعبر وينتهي به المطاف خارجي، وصرت بهذه الطريقة لا أخاف من أحد، لا المشاعر الكريهة ولا المواقف السّيئة، ولا أمنع الذكرى التي أود نسيانها من تكرار عرضها في خيالي قبل النوم وبعد الاستيقاظ وبداية أوقات الخلوات، وذلك ينجح دائمًا، ويجعلني صلبة لا أهاب، إلا أنني صرت أظنّ أن في الأمر خلل..

بين الحبس داخل وهم الماضي، وترك الذكرى تجيء حتّى تعبر وتنتهي: شعرة دقيقة لم أفطن لها إلّا متأخّرًا.صرت أشعر أنني أسيرة للفكرة، حتّى أنني أجترّها إن لم تأتِ في موعدها، أو لم تجِئ بذات الكثافة المعهودة، رغم أنّني أكرهها وأمقتها وأصلّي لنسيانها،، كعبد تعوّد على عبوديّته حتّى أنه لا يطيق من بعدها الحريّة. أشعر أنّني ألِفتُها حتّى أن اليوم الذي ينتهي دون استعادتها يمرّ غريبًا، وإلف الشيء الذي ينبغي أن تنفِر منه خطير.
صحيح أن كثيرًا من المشاعر التي تراودنا تأتي دون إذن أو استعداد، إلّا أنّ الإرادة تتدخّل على حين غفلة وتمسك بالرّاية، وما دمت لا تراجع نفسك كلّ يوم، ستأخذ بيدك إلى حيث تكره، وستكون صاحب القرار في ذلك. كل شيء قرار. حتّى الشعور السّيئ في مرحلة منه يصبح قرارًا، والوعي به يجعلك تتركه حينما يتركك، لا أن تكمل مسيرته من بعده وهو الراحل الراحل.

 أحيانًا، يكون اجترار المشاعر وعلكها على أمل أن تفقد طعمها وتموت، يجعلها -بدلًا من ذلك- تكتسي ألوانها وتتبهرج في حماسة بالغة لعيش الدّور مرّة أخرى. أحيانًا، الاجترار المتكرر/المفتعل للشعور يجعله ينتقل من تأقيته إلى ديمومته.. تلتصق المشاعر الّتي تدعوها دون مقاومة بغراء، ظانّةً بأن إتاحتك لها بالجلوس مرات ومرات هي دعوة مكوث أبديّ. تفرد شباكها وتأخذ مكانها، تلتحم بجدار القلب وخلايا الذاكرة، وتصير جزءًا لا يبرح خيالاتك وأحلامك وحكاياك. ربما تكون إتاحة الشعور للمجيء مخاطرة بقدر ما هو كبته.

مرّ بي موقف سيئ نتيجة العمليّة التي حصلت، أمر لا دخل له بصلب العملية ولا الألم الجسديّ الّذي خلفته، إلّا أنه كان نتيجة ممتدّة ما حصلت إلّا بحصولها، تألمت بسببه بطريقة حاولت إخفاءها حتّى عن نفسي؛ لأنّه خلّف فيّ ضعفًا أستحي/أخاف الاعتراف به، ترك فيّ جروحه وآثاره التي لم تجعل الأمر يمرّ هونًا ولا عبورًا، إلّا أنّها، لثِقِلها الذي لا يُحتمل، فتقت في ذهني ووعيي أشياء. اتّبعت  هذه المرة استراتيجية لم أفقه كنهها إلا بعدما انتهت ونظرت إليها من فوق. ما فعلته هو أنني حينما شعرتُ بما شعرت، قمت بتجريد الموقف، واستخراج الفكرة، والبحث فيمن حولي عمّن يمرّ بذات الحالة، ثم البحث عن حلول ممكنة لتفاديها. كنت أحاول أن أراها من زاوية أبعد، أكثر حياديّة وموضوعية، لأعرف حجمها الحقيقي وأسبابها الحقيقية، وأجيب عن الأسئلة: هل أنا المتسببة في حصوله أم هو أمر عام وطبيعي؟ هل هي مرحلة أم حالة؟ كيف يمكن لها أن لا تتكرر مرة أخرى؟ ما الممكن والمتاح لصنع واقع أفضل؟ حاولت أن أُسكت الصرّاخ داخلي بالبحث عن إجابات، لأنّ المعرفة دائمًا حل. المعرفة ماء بارد شافٍ، والألم اشتعال، وإدراك كنه هذا وذاك يتطلب وعيًا، وحيادًا، وموضوعية، وجرأة للإقدام على الاكتشاف، وهمّة تخرجك من صلب الألم إلى اتساع الأسئلة. اطّلعت على مواد علمية متعلّقة بالأمر في الإنترنت، قرأت عن حالات، شاركني البعض مشاعرهم وشاركتهم، فتحوّلت المشكلة من موقف مؤلم إلى فضول متّقد، يبحث عن مشكلة حقيقية ويودّ معالجتها، مشكلة مجتمعية لا فردية، عامّة لا خاصّة، تتدخل فيها عوامل خارجية وعوامل داخلية، عوامل تاريخية وعوامل اجتماعية.. صارت المبادرات لحل المشكلة في ذهني تتداعى، أشارك الأفكار من أعرف ويهتمّ، حتّى لا تطير، حتّى لا يتلاشى الحماس دون صنع حل، وانتهى بي الأمر من شعور سيئ إلى رغبة عارمة في تحسين الواقع، وأعجبني ذلك. التجريد، والنظر بعيون بعيدة، والمعرفة.. هذه الأشياء الثلاثة هي أسلحتي الجديدة لتجاوز المشاعر السّيئة، ولستُ أظنّ أن هنالك من بعدها ما له القدرة على إسقاطي.

لطالما آمنت بلا جدوى المنافسة، وزيفها الّذي يجعل الفوز أهم من كل شيء. يقول Peter Thiel صاحب شركة PayPal في محاضرة له على يوتيوب اسمها Competition is for loser، أن خطورة المنافسة تكمن في أننا ننسى في خضمّها الأسئلة المهمة الّتي ينبغي أن نجد حلًّا لها، ويبقى سؤال الفوز هو المتصدّر الوحيد. الفوز، أيًّا كان نوعه، هو انتصار للذات، وطرح السؤال الحقيقيّ هو انتصار للحقيقة، وسعي صادق لجعل العالم مكانًا أفضل، وترك أثر، والمساهمة في تحريك عجلة الحياة نحو الأمام. في العام الماضي، شاركتُ في مسابقة دوليّة اسمها رنّان في الجامعة، وشكلُ المشارِكات فيها كلّ عام مبهر ولامع من الخارج ويُسيّل اللعاب للوقوف في موقفهم. شاركتُ، دون قصد أو خطّة. اختاروني فشاركت، هكذا ببساطة، وكان الأمر.. كارثة. ما كان يقرصني ويأكلني من الداخل في كل مرحلة من مراحل المسابقة تلك هو الشعور بالعبثية. كل التضحيات، كل الأذى النفسي والجسديّ والاحتكاكات الكريهة مع بعض البشر، لأجل ماذا يا ربّي؟ لحلّ سؤال وهميّ وضع لغرض التنافس؟ للحصول على اسم ما،، لقب ما؟ ما من هدف عالٍ كبير نبيل يجعل الصعوبات الّتي تواجهني في طريقي تهون لتحقيقه. يقولون أن هناك "مهارات" و"خبرات" من نوع مميّز يتعلمها من يشارك في مسابقات كهذه، ولكنّني لم أتعلم أيًّا منها، أو لنقل، ما كان الأمر يستحقّ خوض كل ذلك لتعلم بعض الأشياء التي يتعلّمها كل ساعٍ إلى شيء ما. ما تعلمتُه هو كيف أشعر بالعبثية في كل خطوة، وأن أحاول أن أقنع نفسي بأن الوقت والجهد الضائعين ليسا ضائعين تمامًا، لأنّه لا بدّ أن تكون هناك جدوى.. أعني، لا بدّ أنّني أتعلم شيئًا من خلف كل هذه المعاناة! ثم عندما أذهب لأنام، تشع الحقيقة أمام عيني ساطعة فاضحة، ولا مفرّ: أنا لستُ أفعل شيئًا ذو معنى. أقرر الانسحاب في الصباح، لأصحو متأخرة وأذهب إلى الجامعة جريًا، دون أن أمتلك الوقت الكافي لاتخاذ القرار، وتستمرّ حلقة العبثية حتّى ننتهي،، نحصل الجائزة، يشيد بنا الكل: الجرائد وحسابات مواقع التواصل.. تصلني اتصالات ومباركات لا تنتهي، أذهب إلى الجامعة فيحتفون بنا بكعكة كبيرة مكتوبة فيها أسامينا، وشهادات، وباقات ورد كبيرة.. كبيرة جدًا، و؟ ثم ماذا؟ هل هذا هو المجد الّذي يجري الكلّ خلفه؟ شكرًا، لا أريده. وقتي ضاع، عمري ضاع في دوّامة خالية من المعنى، تنتهي فتخفت، ويخبو كلّ شيء. المنافسة هي الشيطان الّذي يغوي بني البشر للسعي خلفه على حساب أداء مهامهم الأساسية. اجرِ وراء لقب ذو قيمة اجتماعية عالية، واترك فعل المهم. اسعِ خلف انتصارات ذاتك، افرح بسقوط الآخرين لتكسب أنت، زاحمهم لحلّ مشكلة واحدة صغيرة يتسابق عليها الكل، واترك ملايين المشكلات التي لا يدير لها أحد وجهه، لأنه ما منافسة عليها تجعل الحصول عليها لذيذًا.. ما من أحد ستتسلق فوق ظهره حتّى تصل. ما من لقب لامع ستحوز عليه، ما من جرائد ستحتفي بك، ما من جماهير تترقّب فوزك. هذا العالم مجنون! رجاءً، تفرّجوا محاضرة Peter Thiel لتفهموا ما أقول.

كتبتُ ما كتبتُ على جلستين منفصلتين على غير العادة. استعمال الكلام المكتوب لتفريغ الأفكار دون استعمال ذات الوسيلة للحصول عليها، يجعل الأمر شاقًا بعض الشيء. أشتاق القراءة، أكره هذا الغبش الذي يجعلها غير مريحة. آه يا عيوني عودي!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق