الثلاثاء، 18 سبتمبر 2018

عصفور

لا أريد. كل ما أعرفه هو أنني لا أريد. لا أريد! أتسمعون؟

ذهبت إلى الجامعة اليوم، في أول زيارة لي بعد التخرج، راجية من خلف ذلك أن يتأكّد هذا الصوت الذي يصرخ بداخلي كعصفور يحتضر.
هف هففف (هواء)
 تنفس يا حبيبي، يا صوتي، يا صوت قلبي، تنفس واشرب الماء، وعِش، وانتعش، واعذرني عن.. القسوة والإلجام والتشذيب والتهذيب والتكذيب والتهرّب و..

اليوم جئتك يا فؤادي أعترِفْ، 
أنا من سقتك [الخوف] ألوانًا وقالت لا تخفْ، 
حبستْ [صراخك] يوم غار النّصل
أوغلَ
غصّتِ العبَراتُ،
جفّ الحلقُ جفّ.
وأقولُ جئتُ لأعترفْ..

ذهبت لأسعف هذا العصفور الحزين.

دخلتُ، وكنتُ أرجو أن لا أكون مرئية. ارتديتُ نظارتي الشمسية -كما كل بنات جامعتي- داخل المبنى، حيثُ لا شمس، بل أسقف، ووجوه. كنت أحتمي من الوجوه وأحتمي من المعرفة. شعرت أنني ذاك الماء الذي طفح من الإناء، أو ذاك الغصن الزائد الذي ينبت فوق رصيف حجري. كنتُ زائدة، وأشعر بشيء من توجّس؛ توجّس من هذا العود رغم التجاوز، وهذا الانحناء رغم الوقوف. كنت أخشى أن يتلو أحدٌ  في نفسه  عند رؤيتي شيئًا من قبيل: ما بالها تزور الجامعة؟ أهي تفشل خوض الحياة دون الجامعة إلى هذا الحد؟ ولأن موقفي كان متطرفًا من الدراسة، إنها لجريمة أن أفكر بالشوق.
كنتُ أخشى أن أبدو كذلك الشاب الثلاثيني الذي يحنّ لحياة الجامعة التي ضاقت عليه في liberal art، وأن أبدو مثله، أحاولُ ارتداء رداء قديم ضاق عليّ، وعديمة حيلة. لم يكن الأمر كذلك، ولكنني كنت أخاف. فقدت ثقتي بالوقوف وحيدة في هذه الحياة حدّ أنني صرت أحسبُ كل صيحة عليّ، وأنني أستحق هذه التهم.

أنا لا أكره الجامعة، ولكن المشاعر ملعو**. أعني، كبرتُ على هذا الكبرياء غير المبرر تجاه كل ما أتركه خلفي. ليس عيبًا أن يتفحّص الواحد فينا ماضيه، ويستقي منه ما يدفع به نحو الحياة القادمة. في الجامعة، هناك من أحبهم وأثق بهم، هم من كانوا ثروتي فيها، وسلاحي، وملاذي، وهم وحدهم من استثمرتُ في علاقتي بهم أيام دراستي، ولجأتُ لهم في أحلك الأوقات، وكببتُ على طاولاتهم همّي، واقتنصتُ لزيارتهم أوقات فراغي، ولا عيب.. لا عيب أن يتزوّد الإنسان من زوّاداته القديمة، ولا أن يعود خطوة تدفع به للمضيّ خطوات وخطوات، أليس كذلك؟

حسنًا، ذهبتُ..
ولأن المقهى الذي كنتُ أودّ الإفطار فيه كان مزدحمًا ويغصّ بطالبات الجامعة، حيث لا نفس (ياللهول!)، توجهت إلى الجامعة، ووصلت باكرًا. اشتريتُ الكرواسان الذي اعتدتُ شراءه، وشاي أحمر بالنعناع. ازداد سعر الشاي ريالًا. شربته دون سكر للمرة الأولى في الجامعة بعد إقلاعي عن شرب الشاي بالسكر. طعم الشاي رديء، وطعم النعناع رديء. كان السكر يخفي رداءتهما. حاولتُ أن أستغلّ ربع ساعة الانتظار في الرسم. أحضرتُ، مع ما أحضرتُ، ألواني الحبيبة وكراستي، حتّى لا يمرّ وقت ضائع دون فعل شيء؛ فالتلوين هو الملاذ حينما يكون رأسي صاخبًا بشكل لا يسمح بالقراءة. التلوين هو أقراصي المهدئة، حيث تنساب أفكاري مع كل ضربة ريشة، وتتلوّى مع التوائها، وتنسجم بانسجام الألوان التي تمزجها معًا، وتنحني بانحنائها، وتتلاشى فيما يتلاشى من الألوان عند إضافة ماء. بالتلوين، أصهر أفكاري كما أصهر الألوان، أذيبها، وأجعلها تنساب حرة عبره، دون آلام بطن، دون حركة أرجل قلقة، دون ذهاب وعودة في خطّ مستقيم واحد. عيوني في الكراسة، يمناي مع الفرشاة، وأفكاري تتسلل، وتنسلّ، وتذوب.

انتهى وقت الانتظار سريعًا. كان الكرواسان لذيذًا، "سادة" كما أحببته دائمًا، وأبيض، وغضّ باللب، ودافئ كأيدي الجدّات. ألمّ أغراضي على عجل، وأحمل كوبي، وحقيبتاي، وأرتدي نظارة الاختفاء من..؟ وأمضي. أذهب إلى فوق. أنتظرها لأن عندها فتاة أخرى. تخرج وتستأذنني لإحضار كوب قهوة فأذهب لإحضار كوب ماء. أرى في طريقي من إحدى الشبابيك أستاذة مادة الدراما، ألوح لها بيداي وأذهب إلى مكتبها وأسلم. كانت منسجمة في كمبيوترها تكتب وتمحو، والقلق بادٍ من عينيها. تخبرني: لم أجد محررة لكتابي حتّى الآن. نتحدث حول كتابها، والقلق، ودور النشر، وأفكر: كم أحب هذه الأستاذة اليافعة، اليانعة، التي لا يطفئ البريق في عيونها شيء. أتذكر موعدي فأمضي سريعًا. أدخل. أكبّ قصتي على عجل، باستطرادات كثيرة وسرد لا موزون. تخبرني ما لا أود سماعه، ولا أبحث عنه، كالعادة، ولكنها، رغم كل شيء، تثير في ذهني أشياء. أودّ لو أعرف كيف تفكّر حيالي، وما الذي تظنّه حولي، وما الانطابعات التي تشكلها عني، ولكنّي أعرف -إن سألتها عن رأيها فيّ كبشريّة لا كمرشدة تقوم بعملها-  أن الأمر لن يعجبها. عندما دخلتِ الغرفة وهي تحمل كوبها الذي لم تشربه بعد، متعجلة وقلقة، أخبرتها: أشعر أن حصول الأمر بهذه الطريقة ليس إنسانيًا. أنتِ إنسان، وبحاجة لوقت راحة، ولشرب كوب القهوة في هدوء، ولأن يحظى ذهنك ببعض المساحة. أليس مضجرًا ومزعجًا أن تستمعي إلى قصتيْ حياة كاملتين في جلستين متتاليتين دون راحة؟ الإنسان كلّ لا ينفصل، وأنتِ هنا، وفي كل مكان، إنسان. يزعجها الحديث، فأسكت، وأتظاهر بأن الأمر هكذا، وأنها محقّة، وأجنّب فضولي حول انطباعاتها مع كل رفعة حاجب، وكل مقاطعة من قبلها لحديث لا تكتمل فيه أفكاري، وللآراء الشخصية التي تلقي بها، والنصائح  الخاطئة التي توجهها دون تقصٍّ، والتي.. لا تزعجني. أعني، أنا واعية كفاية حتّى أفرق بين ما هو بشريّ وما مهنيّ، فلا تتظاهري بانفصالك عن ذاتك الحقيقية وأنت معي، رجاءً.

أخرج بخفّي حنين، كالعادة، دون ندم؛ لأنها خطوة لا بدّ منها قبل الإقدام على القرار، القرار الكبير. كلانا حاول. المهم أن نحاول. أذهب إلى قسم القانون، بنظارة شمسية ووجه منكفئ نحو الأرض. أدخل غرفة أستاذتي الأثيرة، وأجدها، لحسن حظي، في المكتب. نتحدث، وأحكي كل شيء. تخبرني: معك حق، نعم، صحيح. الحياة واسعة، وأنت تستحقين الأفضل. يبرُد قلبي. تخبرني أن الكتاب الذي أهديتها إياه في آخر لقاء لنا أعجبها، وأُسَرّ. نتبادل أسماء الكتب، وأسماء أشياء كثيرة. تؤكد على سعة الحياة، وأن هناك الكثير مما يمكن فعله. نمشي، ثم نجلس فوق طاولة. أستأذنها أن أتربّع فوقها، ثم أستأنف: أوه! أصلًا ما عدت طالبة. ونضحك. حميمية هي تلك العلاقة مع الأساتذة الذين نحبهم عندما تنتهي علاقة الأستاذية وتستحيل إلى صداقة نقيّة، دون درجات، دون حرمان من تبادل الهدايا، دون شكوك وريب ممن يرانا نتحدث بانسجام وانسياب. نتبادل ماهو شخصي وما ليس بشخصي. ونضحك.. نضحك كثيرًا. أختم حديثنا بقول: أنتِ أحسن وحدة. أحتضنها، وأودّعها، وأمضي بوجه راضٍ، وسعيد بهذه العودة التي شحنت ذخيرته للمضي بابتسامة واثقة وعزم على اتخاذ ال ق ر ا ر. ليست كلُّ عودةٍ عودةً، وليست الحياة خطًا مستقيمًا نمضي فيه أو نتراجع، بل هي شيء أكثر صعوبة وتعقيدًا من القدرة على التخلي عن أركاننا الثابتة، مهما كانت عتيقة.

أشاهد على الغداء المزيد من المقاطع التي يتحدث المتحدثون فيها عن تجاربهم الوظيفية، وحياة ما بعد الجامعة، عن ندمهم، ومخاوفهم الكاذبة، والأصوات الضئيلة التي كانت ينبغي أن تعلو، والعصافير المخنوقة التي كانت ينبغي أن تنطلق، ونظرتهم عن الحياة بعد عقود وعقود من اتخاذ قراراتهم الوظيفية الأولى، وأتنوّر، وأزداد تنوّرًا، وأحب معجزة تكوّم الخبرات فينا أكثر وأكثر، وأحب أن التيه يقودني إلى هكذا أشياء؛ إلى تتبع قصص الناس، وفحص تجاربهم، والتنوّر بكل ذلك..
أحبّ كل من قادني التيه إليه لسؤاله عن تجاربه الدراسية والمهنية والشعورية عندما كان في موقفي أنا، وكل من سألتهم بخجل أن أقابلهم/أتصل بهم للسؤال عن.. وعن.. وكيف..، فقابلوني بالترحيب، وسمحوا لي بالولوج في حياتهم بمنظار متفحّص وأسئلة لا تنتهي.

هذا التيه ليس مقلقًا، بقدر ما هو مدهش.
 أن أمتلك القدرة على التجوّل، والسؤال، والتتبع،
 ثم أمتلك القدرة على الفحص، والتحليل، والاختيار،
ثم أمتلك القدرة على الرسم، والخط، والبناء؛
أن تكون الحياة في يدي،
 أن أكون، بما أريده أن يكون فيّ، وما أريد أن أكونه،
 أن أمحو وأضيف، أن أقبل وأرفض، أن أقرر وأحجم عن القرار، أن أقضي وقتي في عمل ما، أو لا أقضي وقتي فيه، أن أكون إنسانًا يختار، أو لا أكون.
أن أصنع نظرتي ونظارتي تجاه نفسي والكون والأشياء والأعمال، وأمضي.. وفقًا لها؛
أن أجرب، لأنه ما من مناص. أن أسأل، لأنه ما من دليل.
هذه الرحلة الاستكشافية البنائية الخلّاقة، ساحرة بقدر ما هي مربكة، ومدهشة حد خطف الأنفاس وجفاف الريق واستحالة النوم، وكل شيء فيها محتمل، والإيمان فيها حبل وأمان.

أدرك اليوم أكثر من أي وقت مضى أنني أحب حريتي، وأخاف أن أفقدها، وأحب أن أكون، وأن أرى بعيوني، وأن أسمع بأذنيّ.. وأحب أن رأيي يمكن أن يكون صحيحًا بقدر ما تكون الآراء الأخرى، واختياراتي في الحياة يمكن أن تكون حكيمة جدًا، وصحيحة جدًا، بعد كل هذه التحرّيات، مهما قال القائلون، المهم، أن أتقصّى، وأختار جيدًا، وأستشير، ثم أمضي. لا كراسة تقييم، ولا شهادة، ولا درجات.

 أحب هذا، والله أحب كل هذا، ولطالما انتظرت اللحظة التي لا يكون ينبغي فيها علي أن أفعل شيئًا ما؛ أن أنهي مرحلة ما، أن أعلف معلومة ما، حتى أختار. ياااه، كم من العمر انتظرتُ هذه اللحظة، حيث لا قيود، ولا التزامات؛ حتّى أفكر بعقلي وقلبي الخالصين؟ أيُعقل أن ألجم فيها هذا العصفور، وأجرّعه فيها العلقم، وأنا التي ما فتئت تصيح وتنوح وتزأر بحقة في الحياة والمضيّ حيثما يريد، وكيفما يرى هو..
أن يطير في الأفق،
أن يفرد جناحيه،
أن يتحرك صعودًا ونزولًا،
ودورانًا إن أراد،
أن يحلّق،
أن يغرّد كيفما اتفق،
أن يطير،
لأنه خلق من أجل أن يغرّد، ويطير،
أن يقوم بدوره، ويساهم في هذه الحياة، دون زيف ولا تنكّر،
أن يكون،
بأقصى ما يمكن له أن يكون.






يا أيّها الرّهَقُ المسافر في دمايَ
ويا نزيف الجرح
قفْ.





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق