الجمعة، 23 سبتمبر 2016

هذيان، وحب، وشعور لا يتمثّل كما أريد

أنا علياء، أبلغ من العمر ١٩ عامًا و٣٦٤ يومًا، وأحاول أن أهدهد فزع قلبي من مجيء يوم غد بالكتابة عن أشياء عابرة تعلّق شيء منها بقلبي. كان يومي حافلًا وسعيدًا وعامرًا بالعائلة والضحك والصياح واللّعب، والغشّ في اللّعب، والرقص، والغناء، والأحاديث الصادقة. كنّا في البداية أربعة: أنا وأمّي وخالتي وابنة خالي التي تصغرني بعامين. لم يحصل أن كان الأمر بهذه الطريقة من قبل.. لم تكن ماما يومًا ما شريكتي في جلسة يوم طويل مضحك. كانت دائمًا في صفّ الجدّة والخالات وكلّ الكبار. لأنّ فريقنا نحن الفتيات صار يقلّ يومًا بعد يوم، لأنّ أختي رحلت، وابنة خالتي، وابنة خالتي الأخرى، وتزوّج من تزوّج، صرنا نجلس مع الكبار. لم نكتفِ اليوم بهذه الرّباعيّة عندما جاءت جدّتي وزوجة خالي التي في عمري. جدّتي وأمّي وخالتي وأنا وابنة خالي وزوجة خالي.. تتلاشى الأعمار، ويغلب الضّحك، وكلّ ما نشعر به هو الحبّ، الحبّ فقط. قد يبدو الأمر عاديًا، هو عاديّ حتّى بالنسّبة لي، ولكنني أرى ما لا تروْن. كنّا نضحك سويّة، بذات النّبرة، وكأنّ جدتي هي ابنة خالي، وأمّي هي زوجة خالي -التي في عمري-. كنّا فريقًا واحدًا اليوم، لم يكن الأمر كذلك في السّابق. أحبّ ذلك، أحبّه جدًا. يسرق العمر أناسًا نحبّهم ليعوّضنا بأن يوثّق العلاقة بين من تبقّى منهم.

جدّتي.. جدّتي حكاية أخرى. بعد أن.. حصلت تلك الحادثة الفاجعة، صرنا نذهب إلى بيت جدّتي كل يومين تقريبًا، صرت أفتقد "حسّها" وصوتها حينما أتغيّب عن زيارات منتصف الأسبوع لاختبار أو عمل، وهي لا تفتأ تكرر: وين النّاس! ينقبض قلبي، أشعر بالذّنب، وأحبّها أكثر.. جدتي افتقدتني ولم أكن هناك، جدّتي التي لا أعلم كم تبقّى من العمر حتى أسمع صوتها الرّنان الحنون، وحكاياتها الحلوة، وأفكارها الحرّة، وروحها الشابّة، وهمّتها العاااالية.. جدّتي قصّة مطوّلة لا يسعني أن أتحدّث عنها ضمن الأشياء العابرة التي أحبّ، لأنها عالقة بقوّة، حد البكاء، حدّ الحبّ الذي لا يمكن الفصح عنه لا بقول ولا بفعل.

أمّي حكاية مطوّلة أخرى.. منذ أن ذهبت أختي وعصر الفراق قلبينا، وتتالت سلسلة البكاء على سريرها، صارت كلتينا -دون وعي منّا- تحاول أن تعبّئ شيئًا من الفراغ الذي تركه الفراق.. بوجود الأخرى. أمّي قريبة أكثر من أي وقت مضى، نشرب شاي العصر سويّة، هذه العادة التي ابتدعناها بعد السّفرة الأخيرة الّتي تبضّعنا منها أنواع الشّاي وإضافات الشّاي. صارت قريبة بالطّريقة التي صرت أخبرها بها ما لا أخبره أحد سوى أختي، في السّابق، ونستمرّ أنا وهي في نقاشات وتأمّلات حتّى تنشغل إحدانا بأمر آخر.. صرنا نتشارك ذات الاهتمام، الشّأن النّسويّ مثلًا، نتبادل المقالات والاستنتاجات، ونسبح بعيدًا، نحلّق عاليًا. قبل يومين، أرادت أمي أن تزور جارتنا المريضة، وبعد أن قامت بإرسالي لشراء بعض الزهور، عرضت عليّ أن آتي معها. شعرت بالحرج في البداية، ليس من عادتي أن أفعل ذلك، إلّا أنّني تحمّست لذلك عندما أخبرتني أنّها حضّرت رسالة الدكتوراه في النّسويّة مستعينة بأفكار المسيري التي أحبّها كثيرًا في هذا الشّأن.. ذهبنا، وكانت الجلسة حلوة، حلوة جدًا، كنت صديقة ثالثة، وتركتا لي مجال الكلام الكثير والتّفاعل وطرح التساؤلات دون خشية، كانتا تؤيّدانني، وتحبّان ما أقول، وتضيفان عليه، وتبْنيان عليه. أحببت تلك الجلسة كثيرًا، وودت لو أنّها ليست أمرًا شاذّ الحصول في هذا الوقت من الزّمان. 

حصلت، أيضًا، الكثير من الأشياء التي أحبّ بخصوص بعض المشاكل الّتي تتعلّق بالجامعة، وأخشى أن أتحدّث عن شيء منها بالتفصيل الذي أرغب لأنّ جامعتي تطاردني وتستدعيني بسبب كلّ كلمة لا تعجبها، وأنا قد علّمني الزّمان أنّ الرّوح الثائرة لا ينبغي أن تعلن ثورتها في كلّ وقت وكلّ حين، وأنّه ينبغي عليّ أن.. أكون أكثر حذقًا وذكاءً هذه المرّة. فعلت الأفاعيل فيما مضى، كنت لا أخشى شيئًا، وأحمد الله أنّني كنت صغيرة، أعني، أصغر من ٢٠ عامًا. 

فعلت شيئًا جريئًا، أكثر جرأة مما تحتمل مثاليّتي ويحتمل منطقي، ولكنّني أحببت أنّني فعلت. ماما شجعّتني على ذلك رغم أنّه في منطق الأمّهات ينبغي أن لا تفعل. أعُدّ ما فعلت هديّة بمناسبة عيد ميلادي، لم يكتمل حصولها، ولكنّني فعلت ما ينبغي فعله من جهتي. نشوة تخطّي حدود المعتاد لذيذة جدًا.. وهذا القرار الّذي اتّخذته جعلني أشعر أنّني ما عدت صغيرة، وأنّني مستعدة لاستقبال الإثنين في عمري في الـ١٠ سنوات قادمة. 

لا أعلم لم قلت ما قلت، كنت أشعر أنّني أريد توثيق شيء ممّا حصل لي، ولكنّ اللغة عذراء، والبيان يتمنّع.. هذا الكلام الذي يحتبس في حلقي ولا أستطيع أن أبوح به لأختي كما كنت أفعل، لا يعجبني مكوثه داخلي. لا أعود أتصرّف بطبيعتي وكأنّ شيئًا ما يثقل كاهلي، أصير أصمت بطريقة غبيّة لا يفهمها أحد ولا أحبّها منّي.

أنا متعبة جدًا، لم آكل لقمة من الكورن فليكس الّذي أعددته، وكلّ شيء يؤلمني، ورأسي يكاد ينفجر، إلّا أنّني.. أشعر بالرّضى، وأحبّ المجهول القادم بقدر ما أخافه وأرغب بالهرب منه، وأكره أنّ أختي ليست معي، ولكنّ، أحب أنّ الله لا يترك الفراغ الذي يجتاحني دون تعويض. 

هناك شيء ما بداخلي يشتعل، أشعر به، ولكنّي أجد ما أشغله به كلّ يوم حتّى يهدأ.. لن أدعه ينفجر على كلّ حال، أخذت وعدًا على نفسي بأن أفتح معها الملفّات متى ما استقرّ كلّ شيء وانتهت الفوضى، وصار حبل الإيمان المنقذ متينًا كفاية، فحتّى إن كان الاشتعال حارقًا، لن يستطيع أن يصيبني بضرر بالغ ما دام الحبل هناك ينتشلني من أيّ حريق.

لا أدري إن كان هنالك أحد في العالم سيمرّ على هذه الصفحة ويقرأ، ويتفاعل معها بصمت أو بفعل، لا أدري من سيجد هذا الهذيان الّذي أكتب، لا أدري إن كان هنالك من سيشاركني هذه الأشياء التي أشعر بها بقوّة ولا أجد ما يمثّلها لقلّة الأحرف، وللتعب الذي يستجديني حتّى أنتهي بسرعة وأرفض أنا أن أستجيب له لأنّني ما وثّقت شيئًا هنا منذ مدّة. يجب أن أوثّق، يجب أن أفعل دائمًا. علّمني الإيمان الذي أريد أن أجده كلّه.. أن أؤمن بأهميّة الأشياء غير ذات القيمة في الوقت الحاضر، وأن لا أكرّر خطأ أن أترك الزّخم الذي بداخلي يمضي كما تمضي الأيام بأن أجد له فتحة سخيفة يعبر من خلالها حتّى أتخلّص منه. سوف أموت يومًا ما قريبًا لا محالة، وأريد أن أجد القيمة في كلّ شيء أفعله، حتّى الشعور التّافه الذي يحيطني.. كما أفعل الآن مثلًا.

سأموت يومًا، لن أدع فكرة الموت تفارقني أبدًا. 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق