الثلاثاء، 6 سبتمبر 2016

كنت ألوّن



هرعتُ للتلوين -كما اعتدتُ أن أفعل في السنة الأخيرة- بعدما صارت الأفكار والأحاديث داخلي لا تكتفي بالكلام والحوار والإزعاج، بل صارت تفعل أكثر.. صارت تتشابك بوحشيّة وتتجاوز الحدود. صرت عاجزة عن التصرّف، أتفرّج وحسب، أتفرّج وأنام، فتتدخّل في أحلامي. نمت ٣ مرات -تعبًا لا كسلًا- خلال اليوم وما نامت تلك الأفكار المجنونة. لو أنني أستطيع أن أتنصّل من رأسي لبعض الوقت! لو أنّ هذا الكائن الذي وضع نفسه أمام كل هذه المتاهات يستطيع أن يقبع بعيدًا عني الآن فقط، اليوم فقط.. فأنا، بحقّ الله، أحتاج أن أتنفّس وأنظر للحياة بصفاء من جديد بعيون مجردة.  قررت أن أحسم الأمر بالألوان، بشيء محسوس لا يمتّ لرأسي بصلة ولا يستدعي حضوره، شيء أهرب به ولا يشارك هو فيه، فهذا الخناق ما عاد يحتمل. 

كُنّا في الزمن الماضي، ما قبل رحيل أختي (الزمان عندي ينقسم إلى: ما قبل رحيل أختي، وما بعد رحيلها) عندما تضيق بنا الحياة، نفرش الألوان، نفتح الأغاني التي نحبّ، ونغوص في عالم الألوان الجميل، ونخترعُ سويّة لوحة، مثاليّة من جانبي حد عدم اختلاط الألوان وتداخل الأشكال، وبديعة حرّة من جانبها. أختي حرّة حينما يتعلّق الأمر بالألوان، أما أنا فأغبطها وأحاول أن أكون. إحدى المرّات التي نحبها كانت حينما خرجتُ وجمعت أوارق شجر مختلفة، في يوم من أيّام الاختبارات النهائيّة الثقيلة، وفرشنا الألوان الزيتيّة التي ما استعملناها في التلوين مرّة، وقمنا برسم الأوراق التي جمعتها، وانتهينا بلوحة مثقلة بالذكريات السعيدة والأحاديث العلياء-إيمانيّة. تلك اللوحة الغالية على قلبي كدت أن أستأثر بها لنفسي وأعلّقها مع مجموعة اللوحات التي أجمعها منذ ٤ سنوات أو أكثر، إلّا أنني تذكّرت أن وحشتها أعظم، وأنها بتذكّر أيامنا الحلوة أحْوج، فأرسلتها إليها. 

كانت هذه المرّة هي الوحيدة التي ألوّن فيها بدون أختي.. كم هو مؤلم أن الأشياء التي ما كانت تفارقني في فعلها أختي وصرت أفعلها وحدي- صارت أكثر من أن أعدّها. يعتادُ الكلّ على رحيلها ولا أعتادُ أنا، ربما لن أفعل أبدًا. هي بالنسبة لهم ابنة من أبناء، أو صديقة من صديقات، أو طالبة من طالبات، أو..  هي بالنسبة لي: أختي، أختي هي هي، غير قابلة للاستبدال، فراغها غير قابل للتعبئة. هي أختي وحسب، أختي التي رحلت. 

كما كنت أصنع اللوحة من الصفر، كنت أفعل ذات الشيء في رأسي: أبني صورة جديدة من الصفر.

- أبدأ بدائرة زرقاء متقنة، في المنتصف. هيه، ألم نتفق أن تتحرّري من دوائرك المتقنة؟ أوه صحيح. أترك الدائرة وآخذ الريشة الغليظة وأرسم خطًا أحمر كبيرًا. أكرّر: يجب ألًا يكون متسقًا. أجعل أطرافه عريضة حتى يصبح أكثر نحولة من المنتصف. نعم هكذا، بداية مرضية، ليست مثالية، فيها أجزاء غير متسقة، والأهم أنني تركت تلك الزرقاء وحيدة في المنتصف باستدارتها المملّة.

- مزجت اللون بالماء، حتى يتكاثر، الكثرة تشعر بالطمأنينة، فالألون على وشك أن تنفذ.. كيف أتصرّف إن نفذت؟ لن أترك اللوحة غير مكتملة.

- اللون يبهت، ويصبّح الخط الأحمر مزيجًا من بقع فاتحة غامقة. البخل لا ينفع.. صرت أكرّر على الخط من ذات اللون دون مزجه بالماء. ستنتهي الألوان هكذا عند منتصف اللوحة! لا يهمّ.

- أستخدم الأصفر وأجده باهتًا، أجرب أن أخلطه مع الأبيض. واو، الأبيض أعطى اللون قوامًا وجعله سميكًا فاقعًا. يبدو أن هذا الأبيض ذو فائدة.. ثم تذكرت الجنود المجهولين الذين تستند عليهم الأشياء الكبرى الظاهرة ولا يراهم أحد. وأفكّر: بالإيمان وحده يكون لأولئك المجهولين قيمة ووزن. هذا سبب مهم لكي تتمسّكي بالإيمان. تخيّلي لو أن عمل المنزل الذي قمتِ به اليوم لأن العامِلة قررت أن تفرنقع وتتركنا فجأة،، تخيّلي لو أنّ جهدك ذاك سوف يذهب هباء؟ تخيّلي لو أنّ الألم الذي أصاب مرفقكِ الذي سقطتِ عليه حتى شككتِ أنه انكسر ذات رحلة بالدراجة في ليل بهيم لم يسمع فيه صياحك أحد، تخيّلي لو أن هذا الألم لا يعود عليكِ بشيء، بمقابل، بشيء يثقل في ميزانٍ ما. تخيّلي لو أن كلّ الأشياء الخفيّة،، كل الصبر الخفيّ، والألم الخفيّ، والسّند الخفيّ، والمحاولات الفاشلة، والخطط غير المنفّذة، لو كلّها كانت تروح هباءً، هل يجعل ذلك حياتكِ أكثر معنى؟ 

- استخدمت الألوان الأربعة الأساسية الموجودة، أريد لونًا جديدًا، والبنيّ لا يعجبني، أدمج لونين: الأحمر والأصفر، وأخلصُ بلون عجيب يشبه لون الـ..قيء. كنت أريده أن يكون برتقاليًا. لا يهم، هكذا تكون المحاولات الأولى. المغزى في المحاولات الأولى أنها محاولات أولى، بداية لشيء ما جديد، يكفيها أنها تمرّد على الأوّلِيّ وخوض لتجربة جديدة، شقّ لمساحة جديدة، يحفّها المجهول وتكسوها أنواع الاحتمالات. كان لون القيء محتملًا في النهاية. 

- أستخدم البنيّ لأنني كنتّ مخيّرة بين أكيد لا يعجبني، ومجهول يحتمل ما هو أسوأ. أجده ليس سيئًا.. ولكن، أوه! وصلت إلى الدائرة، تكاد تقطع الطريق، طريق الخطوط التي رسمتها. لِمَ لمْ أنتبه، سيتغيّر الآن شكل اللوحة التي كنتُ أتخيّل لأنني بسذاجة لم أنتبه أن الدائرة الساذجة تقبع في المنتصف. أجبر الخطّ البنيّ على أن يحفّ الدائرة ويميل من فوقها وأسفلها حتى أحلّ المشكلة. ماذا أفعل الآن؟ خرّبتها! ثم أتذكر أنني يجب أن لا أكون مثاليّة، وأنها مجرد لوحة سخيفة، وأنه لا يهم.

- أحب هذا المأزق الذي وضعتني فيه اللوحة لأنني سأصير حرّة من أي شكل مسبق الآن، ومن كل لون. أنا الآن سأتحرك وفقًا لحركات يدي العفوية فقط. يعجبني ذلك ويجعلني أشعر بالخفّة.

- أختلق ألوانًا جديدة من الألوان الموجودة، أدمج ثلاثة ألوان أو أكثر في كل مرّة، لا أعبأ بالنتيجة، المهمّ أنني ألوّن. أضيف الأبيض لكلّ شيء لأنه لا يكتفي بأن يعطي قوامًا، بل ويجعل اللون زاهيًا. أجد الأشكال التي أرسمها صارت عشوائيّة بسبب الدائرة في المنتصف والخط البنيّ الذي خرب مسيرة الخطوط المحتملة الأخرى، وأفرح أكثر. ياه، هذا ما كنت أريده! وتمنّيت لوهلة لو أنني كنت أستطيع أن أبدأ بهذه الطريقة الحرّة منذ البداية. ربّما تبدأ اللذّة عند المنتصف، وتحقق الأشياء مبتغاها في المنتصف، وتبدأ الرحلة الحقيقية من منتصفها. وأنا، ياللمصادفة، أقف في منتصف كلّ الأشياء، كلللل الأشياء. هممم

- ألاحظ: كلما أوشكت الألوان على النفاذ صرت أخرج بألوان أفضل. كلّما قلّت الموارد صار الإنتاج أزهى وأجمل. ربما لأن الأمر صار غير متعلق بالموارد ذاتها.. انتقل إلى مرتبة أخرى أسمى وأهم: فن المزج. 

- الدائرة ما كانت بذاك السوء، صارت مركزًا يتيح لي أن أبدأ من جهات مختلفة وخطوط متفرقة دون أن ألتزم بترتيب رتيب. المركز لا يعيق، المركز يعين، ويعطي منظورًا أكثر اتساعًا ونتيجة أكثر اتّساقًا.

- الريشة كلّما اختلطت بألوان أكثر، صارت تترك بقعًا أكثر تلوّنًا وجمالًا على المنديل الذي أنظفها به. كثرة التجارب تزيد صاحبها تلوّنًا وتنوّعًا وجمالًا. هذه البقع تحكي مجموع الألوان الذي تلطّخت به الريشة، حتى اللون الذي يشبه القيء صار في مجموع الألوان في البقعة التي تركتها الريشة- جزء من بقعة ملوّنة بديعة.

- أنظر إلى المناكير الأبيض التي تصطبغ به أظافري-والذي كان انطباع أمّي حينما رأته أنه أشبه بـ"اللّكْوِد"- وقد تلوّن بالألوان التي استعملتها، وأقول في نفسي: لا بدّ أن تترك التجربة، أيّ تجربة، أثرًا. لا يمكن أن أشارك في شيء دون أن يترك فيّ شيئًا، حتى لو كان الجهد منصبًّا على شيء آخر. ولكن، أتعلمين؟ صار يبدو أجمل عندما تلوّن! كان يراد له أن يكون أبيض فقط، ولكن الألوان التي لطخته كانت إضافة جميلة غير مقصودة. 

- أنهيت اللوحة برضى، كنت حرّة في أغلب الوقت كما كنت أريد. رأسي صار أكثر هدوءًا، صحيح لم تكن هناك أختي لتشاركني هذه الأفكار بصوت عال، والتي لا أجرؤ أن أشارك بها أحدًا سواها دون أن يسخر منّي وأنا أستنتج من كل شيء استنتاجات أزعم أنها تعلمّني شيئًا بشكل أو بآخر- ولكن ما كان الأمر سيئًا. لم أدع الألوان تتداخل في بعضها كما كنت أتمنى أن أفعل، لا تزال الحدود متحفظة ومستقيمة بطريقة ما، ولكن -على الأقل- لم أرسم ورودًا ولا أوراق شجر هذه المرّة. هذه نقطة تُحسب لي.

 أنظر إلى النتيجة النهائية للّوحة وأفكر: بقدر جهلي بما ستنتهي إليه اللوحة كنت أؤمن بأنها ستنتهي. بقدر جهلي بالطريق الذي سأسلكه حتى أنهيها، بالسبب الذي دفعني إلى البدء فيها، كنت أعلم أنها ستنتهي وهي مصبوغة بالألوان، وأنها ستكون لوحة كاملة مهما حصل. دون الإيمان بالنتيجة، رغم الجهل بما يحفّ كل شيء يخصّها، ما كنت لأقرر أن أرسم لوحة، ما كنت لأبدأ فعلًا عبثيًا. الإيمان.. هذا الإيمان، به أدخل المجهول وأنا أعلم أنني سأخرج بشيء ما ذي قيمة. به تستطيعين أن تدخلي غمار الحياة المجهولة جدًا، المخيفة، التي ستنتهي فيها الموارد مرّة، وتواجهك فيها العوائق مرّات أخر، وستنهيها في النهاية بنتيجة ترتضينها إن أنتِ آمنتِ. دون الإيمان كل شيء عبث. هلّا تشبّثتِ بما تبقّى من إيمان؟ سأفعل.







هناك 9 تعليقات: