الاثنين، 22 أغسطس 2016

عن فتاة البرتقال، وجدّتي، وأشياء أخرى

انتهيت للتوّ من رواية "فتاة البرتقال" لكاتبها جوستاين غاردر مؤلّف "رحلة صوفي" الكتاب الذي سمعت عنه كثيرًا ولم أقرأه، ولم أضعه مرّة في قائمة متخيّلة للكتب التي أريد أن أقرأها. في زيارة خاطفة للجامعة أهدتني صديقتي هذا الكتاب ذو الغلاف الصلب والأوراق ذات الملمس الخشن الجميل، ولأنه طال بي انتظار سيارتي شرعت في القراءة هناك، وأنهيتها للتوّ، في ثلاث جلسات. لم تدهشني الرواية، لم تحرّك فيّ أسئلة جوهريّة تمنعني من النوم، ولم تمزّق شيئًا ما في داخلي يجعلني أريد أن أناقشها مع شخص آخر، ولم تجعلني أهتزّ من الداخل، ولكنّها كانت جميلة، نسمة رقيقة لونها برتقاليّ، جعلتني أبتسم وأحلّق في عالم آخر، في زمان آخر. كان جون أولاف يتحدث فيها مع جورج، ابنه الي فارق الحياة وعمره ثلاث سنوات ونصف، عبر رسالة طويلة كتبها إليه في آخر أيام حياته، عندما كان المرض يفتك به ويمتصّ منه الحياة يومًا بعد يوم. كانت القشعريرة تسري في جورج وفيّ، كم هو مرعب وجميل وعظيم أن تقرأ رسالة وُجّهت إليك قبل أحد عشر عامًا من شخص ميّت أحبك كثيرًا وما كنت تعرف عنه شيئًا قبل ذلك. كان جون يتوق لأن يخاطب ابنه خطابًا حقيقيًا، ويحكي له كلامًا يفهمه ويعيه،، ولأنه أراد ذلك بشدّة، خاطب جون جورج في زمان مغاير للزمان الذي سوف يتلقّى جورج فيه هذه الرسالة. كان يكتب لجورج ذو الثلاث سنوات وهو يركّب قطاره الذي ما فتئ يفكك قطعه ويركّبها مرة أخرى، اضطرّ أن يستعجل الزمان ويتخيّله شخصًا بالغًا يفهم ما يقول حتى تتسنّى له فرصة أن يتحدّث إليه قبل أن يرحل إلى الأبد، كان يفرّغ كل الأسئلة الوجوديّة التي فكر بها يومًا وأراد أن يشاركها جورج على الورق، ويحكي له عن حياته الأسطورة التي التقى فيها بأمّه فتاة البرتقال.. لم يمهل الزمان جون أولاف حتى يعيش مع ابنه خطوة بخطوة، اضطرّه أن يختصر ذلك كلّه في ثلاث سنوات ونصف، خاطب فها جورج الكبير، وداعب فيها جورج الطفل. كان يمتنع البكاء أمام جورج الطفل ويذهب ليكتب له عن شعوره الفاحش ويرمي بأسئلته العارية على وجهه حتى يقرأها يومًا جورج ذو الخمس عشرة عامًا. في هذه الحياة الأسطورة التي يشكّل فيها الزمان لغزًا عظيمًا، لسوف يكون لذيذًا وغريبًا أن تخترق قواعده فترى فيه الأشياء في زمانين مختلفين في ذات اللحظة عبر رسالة.

عندما كان يحدّث جون ابنه ويقصّ عليه حياته بتفاصيلها المثيرة الشبيهة بقصّة خياليّة غامضة وممتعة، تذكّرت.. ذاك اليوم. قبل أربع سنوات، ليلة ٢٨ من رمضان، كنت أجلس في مقعد السيارة الخلفيّ وحدي، وتجلس أختي في المقعد الأماميّ بجانب عمّي الأصغر الذي كان يقود السيارة. في ذلك اليوم، في طريق العودة الطويل، حكى لنا عمّي عن جدتي التي سُمّيت على اسمها، وعن جدّي صاحب القلب الكبير الطيّب.. جدّي وجدتي اللذان لم يعطني الزمان فرصة أن أراهما، أو حتّى أن أعرف عنهما معلومة واحدة مفيدة. الكلّ يتكتم على قصّة وجودهما ورحيلهما، حتى والدي، ابنهما الأكبر. لا أكاد أعرف سوى قصيصات صغيرة من هنا وهناك. سمّاني والدي على أمّه المتوفاة "علويّة" التي أصرّت عمتي على تغييره لأنه اسم قديم سوف أخجل منه عندما أكبر، كما كانت تقول، ولكنه ما فتئ ينادي عليّ به، ويعدني بالحصول على كل ما أتمنّى إن غيّرت اسمي إلى "علويّة"، ولا يزال العرض ساريًا حتى اليوم. سُمّيت أختي على اسم عمّتي المتوفّاة، وسمّي أخي على اسم جدّي المُتوفّى، رحمهم الله جميعًا. في ذاك اليوم، قصّ علينا عمّي ما لم أعرفه عن جدّتي وعمّتي قط، عن الحادث المريع الذي توفّي فيه ٥ أشخاص من أًصل ثمانية، وكان هو أحد الناجين. لم تكن جدتي وعمتي لتتوفيا لو أن الإسعاف لم يتأخر، كم أحقد على ذلك الإسعاف! كيف كانت حياتي لتتغيّر لو أن جدّتي كانت تعيش اليوم؟ أحب أن أتخيّل أنني سأكون الحفيدة المدللة لأنني سُميت على اسمها. حكى لنا كثيرًا عنهم الثلاثة، وبكيت كما لم أبكِ في حياتي، وظللت أبكي لمدة ثلاث أيام أخريات بعد ذاك اليوم. في منتصف حديثه أوقفنا عند مطعم "فاكهة لبنان" المطعم المفضّل لجدّتي، وأكملنا الأحاديث حتى وصلنا إلى المنزل بدموع كثيرة وفجعات وصدمات. صرت من بعدها أشملهم في دعائي دائمًا، وأحبهم، وشعرت بقلبي صار أكثر اتساعًا لأنه استطاع أن يجد فيه مساحة لأناس ما اجتمعنا مرّة معًا في ذات الزمان، أولئك الذين ما رأيتهم قط، وكانوا سببًا في وجودي اليوم. صرتُ من بعدها أشكو لهم في سرّي ما يحصل في غيابهم.. حصل الكثير يا جدّة، حصل الكثير، وما كان ليحصل لو أنكما كنتما هنا. كانت أعيادنا لتكون.. أكثر، والعيديّات كذلك. كنت لأكون أسعد كثيرًا لو أنكِ كنتِ هنا، لو أنكِ انتظرتِ قليلًا حتى تري حفيدتك.. المُسمّاة باسمك.
أتمنّى لو أرسلت لي جدّتي رسالة تشبه التي أرسلها جون لابنه جورج، وكان لها أن تعنونها "لحفيدتي المُسمّاة باسمي" مثلًا. كانت لتسلّيني كثيرًا في تلك الأوقات العصيبة التي ما كانت لتكون لو أنها.. لو أنها كانت هناك لتحسم الأمر. لم أدرك أن غيابك سوف يكون بهذه القسوة، وأنّ حضورك كان بهذه الضرورة. أراحني كثيرًا أنني صرتُ أفهم ما غاب عنّي، وصرتُ أفسّر الكثير بغيابها هي وجدّي.. كم تمنّيتُ لو كانت هناك جلسة أسبوعيّة في بيت جدّتي لوالدي، يجتمع فيها الـ..كلّ، ولا نضطر من بعدها لاستعادة ذكراها وتصوّر شعورها في محاولات لأن يصبح الواقع أفضل مما هو عليه. كم تمنّيت ذلك يا جدتي.. رحمك الله.

تلك القشعريرة التي شعرتُ بها وأنا أقرأ لجون الميّت، وللقصص التي حكاها عمّي عن جدّي وجدّتي، شعرتُ بها للمرّة الثالثة وأنا أتأمّل مخطوطات العثمانيين ومنحوتاتهم في متاحف إسطنبول، والتي، في الفصل الفائت، درستُ عن تفاصيل أصحابها. لم يكن الأمر مقشعرًا حينما درستُ عن ذاك الزمان كما كان حينما لمستُ الأشياء التي تركوها من خلفهم وتحسّستها بيدي، استحال الأمر من قصّة أو درس أو خيال إلى زمان آخر أدركته إدراكًا، أنا أعيش في زمان لحق ذاك الزمان، زمان كان له أناسه الحقيقيّون جدًا، يتكلّمون بذات اللغة، ولهم أيادٍ تنحت وأثواب تُلبس وأقدام تجول في ساحات القصور التي مشيتُ أنا فيها. أولئك الولاةُ الذين درستُ عنهم كانوا فعلًا هنا! تلك القصور التي كانت مطبوعة بحبر أسود وبجودة رديئة في أوراق الدراسة هي فعلًا موجودة! أليس ذلك مرعبًا؟ أن تشعر أن زمانك هو قطعة مرتبطة بمئات القطع التي تشبهها من قبل ومن بعد؟ أليس مرعبًا أنك الجزء الصغير في عالم اليوم، أنك الذرّة الضائعة في هذا الكون، أنّك الكائن الذي يعيش في بقعة توجد ملايين البقع الأخرى من حولها،، أليس مرعبًا أن لا يكتفي الزمان بهذا الوجود الشاسع، بل بأزمنة أخرى كثيرة، من قبله ومن بعده، مرت على ذات الأماكن، وسكنت ذات الكون، وعاشت، وتنفّست، وجاهدت حتّى يصير الواقع أفضل، أو كانت أنانيّة حتى نعيش اليوم ما نعيش من ضعف ودمار.. أليس مرعبًا أن تعي أن اتّفاقية خرقاء مثل سايكس بيكو هي سبب الحدود الخرقاء بين الدول العربية التي نعيشها اليوم؟ أن المأساة الفلسطينيّة ذات ال٧٠ عامًا كانت فكرة لشابّ أحمق يدعى هرتزل قبل أكثر من قرن؟ هذا ما يحصل فعلًا، هذه الحياة لا يصنعها زمان واحد، وقطع الزمان تتسلسل ويؤثر بعضها في بعض أكثر مما.. نفغل عن ذلك. 

بينما كنت أجول في متحف توب كابي في تركيا، وأنا أتأمّل مليًا وأدرك أنّ وجودهم كان حقيقة راسخة كما لم يحصل وأن فعلت، كنت أفكّر: لِمَ حينما أحطت بالمادّة التي خلّفها أولئك العثمانيّون أدركت وجودهم بشكل حقيقي؟ لِمَ لم تفعل ذلك فيّ كل تلك القصص التي نقبّت من خلفها وصنعت فيها البحوث والواجبات وحفظتها عن ظهر قلب؟ وتذكّرت وينستون في ١٩٨٤ حينما قال أنه عندما كان يشكّ في كل شيء ويظنّ لوهلة أنه جُنّ، كان يتحسس يديه وقدميه ووجهه ليدرك أنه موجود، وأنّ هذا العالم غارق بالأكاذيب، وأنه بالقصاصات القديمة التي يحتفظ بها عن زمان سابق لم تكن فيه الأمور كما هي في يومه ذاك- يستطيع أن يبرر حصول الأشياء من حوله،، وتذكّرت الحديث الذي دار بيني وبين أحد الأصدقاء عن السبب وراء أهميّة اللفظ الذي نعبّر عنه وإن كان الشعور يحفّنا من كل جانب، لِمَ تُحدث تلك الكلمة التي تعبر عن هذا الشعور الهائل الذي، ربما، لا تفيه الكلمة حتّى حقه من الوصف.. لِمَ تحدث الكلمة تلك الصدمة فينا وتجعلنا نراجع كل ما حصل مرّة أخرى ولكن تحت تأثيرها هذه المرة، ليزهر الماضي ويتخذ أبعادًا جديدة، ولا يفعل الشعور،، لم نشعر بتلك الصاعقة من خلف كلمة مثل "أحبك" وإن كنّا نجد الحب دافقًا دافئًا غزيرًا ونشعر به يحفّنا ولا نشكّ بعدم وجوده؟ ما الذي تفعله المادّة ويعجز الشعور عن إيصاله حتّى تسري فينا تلك القشعريرة؟

وحدست: ربّما للمادّة القدرة على ترسيخ ما هو طائر في الجو وحائم فيه من شعور وأفكار، ربما هي من تكسبه الوجود في هذا العالم الذي لا يعترف بوجود إلّا ماهو حسّي، ويعدّ المادّة فيه أصلًا كما الرّوح. ربما هي من يقوم بتأصيل وجود الشعور أو المعنى أو كل ما هو غير محسوس -كما تقول صديقتي- وتجعله مُنطلَقًا لما شاء من بعده من شعور، ربما لا يكفي أن يوجد الشعور وحده دون المادّة، وأنّه يلزمه أن تمنطق وجوده الكلمة المسموعة أو اللمسة المحسوسة أو الأثر الباقي عن زمان مضى أو شخص رحل.. ربما الاتحاد الذي يتزامن فيه وجود الاثنين معًا، هو مايشكّل أصل المعجزات، أصلّ الصدمة التي تنخر القلب وتقبع فيه، أصل الأدراك،، وأصل وجود الإنسان. ربما بالطريقة التي وجد بها الإنسان، سيّد هذا الكون، نستطيع بها وحدها أن نخلق الوجود لغيره من الأشياء.

ربّما، لنعيش هذه الحياة القصيرة كما يجب، بوعي نعطي به وجودنا حقّه، ينبغي أن نشعر بما يحصل في هذه العالم بشكل أكبر، بالأزمنة التي مضت والأزمنة التي تلي، ربما بهذه الطريقة فقط سوف نرى الأشياء بحجم يشبه حجمها الحقيقيّ، وندرك ما كان ينبغي علينا إدراكه كما أدرك جورج أنّ أباه الذي مضى لم يكن أبًا مضى وحسب، بل كان أكثر من يحبّه ويخشى فراقه، وصار له من بعد تلك الرسالة وجود حقيقيّ في قلب جورج وذاكرته، صار أكثر من اسم لأب راحل. ربما إن شعرنا بما حولنا، بما غاب عنّا في أزمنة مضت، بأشخاص الماضي القريب والبعيد، سنستطيع أن نملأ الفراغات، ونحلّ الألغاز، ونرى الأشياء من حولنا ذات بريق، ونفهم أكثر، ونعرف كيف نمضي، ونتّسع أكثر لنحبّ من لم يسعهم الزمان أن يلحقوا بنا ليخبرونا بأفكارهم الغزيرة عن هذه الحياة، عن التجارب التي خاضوها والأخطاء التي اقترفوها، عمّا ينبغي لمن سيخلفهم أن يفعل وألّا يفعل. هذا العالم شاسع واسع، لا يكتفي بالتمدد المكاني، بل فيه من الزمان ما هو أرحب وأعجب، ووجودنا المعجزة يمكن له أن يسع ذلك كلّه إن تحسسّ الواحد فينا الأشياء من حوله، وأدركها كما يجب، ورآها بقلبه.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق