السبت، 6 أغسطس 2016

ذات مرض

أشعر بالتعب، رأسي ثقيل، روحي ثقيلة، جسدي يتحرك ببطء، مفاصلي تحتاج إلى تزييت. أشعر بالثقل. أشعر بالحزن والخواء. أفتقد أختي بجنون. أتوق إلى أن أسمو وأرتقي. أشعر أنني ملطّخة بماء موحل. أشعر أنني بحاجّة ماسّة لشخص حكيم يؤمن بي ويأخذ بيدي ويرتقي بي بتدرّج حنون، فأسمو وأعلو يومًا بعد يوم، شيئًا فشيئًا، خطوة خطوة، بهدوء وسكون وحب. أشعر بالزهد من كل شيء، من كل المتع اللحظيّة، من كل شيء زائل، وأتوق لكل شيء باق، ممتدّ، حقيقي وسامٍ. أريد أن أبقى مع شخص واحد نتبادل معًا أحاديث ساكنة وهادئة، أستطيع بها أن أعيد صياغة الفوضى داخلي وأن أعطي للأشياء بعد ترتيبها أسماءً وعنواين. أشعر بالحاجة إلى حديث صادق ممتدّ طويل هادئ، لا يثير فيّ أي نوع من الاستفزاز أو الرغبة في الجدل والمشاجرة، يريحني ولا يزيدني قلقًا، يمتصّ التوتّر داخلي ويأخذني إلى برّ مستقرّ آمن. أشعر أنني أريد أن أركّز على شيء واحد وأعمل فيه بجدّ، وحب، وهدوء، بشكل لا يشبه المذاكرة السريعة ولا العمل على أبحاث الجامعة، بطريقة لا تشبه العمل في الأوقات المضغوطة ولا القراءة في المواضيع التي لا تعنيني حقًا. أشعر أنني أتوق إلى الصدق الخالص، إلى أن أعيش بصدق لا تشوبه أيّ شائبة ماديّة أو شيء من الزيف. أشعر أنني أكره الأشياء الغالية والحفلات الصاخبة والنفاق الاجتماعي أكثر من أيّ وقت مضى. أشعر أنني لا أستطيع أن أمثّل أو أجامل، وأتمنى أن لا يضطرني أي موقف إلى أن أقوم بذلك فيما سيتقدم من حياتي، في الشهر القادم على الأقل. أشعر أنني أريد أن أرفض كل ما لا أريده حقًا، وأن أسعى إلى كل ما أريده حقًا، دون أن أتنازل. لا أريد أن أتنازل عن أيّ شيء أريده بصدق. حياتي الماضية كانت محفوفة بتنازلات عظيمة في مقابل أشياء لم أكن متأكّدة من أنها كانت تستحقّ. أشعر أنني أضعت الكثير منّي ولا أريد أن أفوّت ما سيأتي كما فعلت في الذي مضى. أشعر أنني أريد أن أصمت كثيرًا، لوقت طويل، أن لا أضطرّ للكلام. أشعر أنني أريد أن أكون محفوفة بمن أحب وأثق طيلة الوقت. أشعر أنني أريد أن أعطي وأنا صامتة. أشعر أنني أريد للأشياء الحقيقية أن تتسلّل إلى داخلي، للكلام الحقيقيّ الطاهر، للأناس الحقيقيّين، وأن يقوموا بدورهم بنفض غبار الزيف عن قلبي. أشعر أنه كان بوسعي أن أفعل ما لا أريد في الوقت الذي مضى، وأنا أدرك ذلك، وأن الوقت قد حان حتى أتوقف. أشعر أنني وصلت إلى النقطة التي لا أستطيع من بعدها أن أتحمّل، وأنني متعبة ومجهدة من كلّ ماهو زائف وغير حقيقيّ، وأنني لا أستطيع أن أخوض في جدال لا يفضي إلى معنى، أو إلى نتيجة تعنيني، أو تعني حصول السلام في هذ العالم. أشعر أن لديّ الدافع الكافي لأقوم بما أشعر أنه صحيح دون أن أسائل وأن أضيع وقتي في التساؤل. أشعر أن الوقت يمضي وأنني كنت غافلة عن مضيّه بهذه السرعة، وأن الوقت قد حان حتى لا أسمح له بأن يتغافلني أكثر، وأنّه عليّ أن أكون حقيقيّة فيما سيمضي بنسبة ١٠٠٪، وأن أيّ زيف من الممكن أن يجعلني أنفجر، وأنني أحتاج إلى المراعاة حتى أستطيع أعود أمشي، وأنني أحتاج من يحملني على الصعود، وأنني في أضعف وأقوى مراحل حياتي، وأنني ضائعة جدًا بقدر ما أعرف ما أريد، وأنّ المزيد من الحياة يشكّل كل اللامعنى بقدر ما أجد المعنى وأراه بوضوح رغم بعده الشاسع عنّي. أشعر بأننّي في حاجّة ماسّة للاستقلال واتخاذ القرارات عن نفسي، بنفسي، وأن أتحمّل نتائج هذه القرارات، وأن أدرسها بطريقتي، وأحجم عنها لأنني وجدت في اتخاذها ما يسوءني أو يسوء العالم. أشعر أنني لا أطيق اتباع الأوامر أكثر، أوامر ليس لها معنى، لمجرّد أنّ عليّ اتباعها. أشعر أن ذلك يستهلك منّي الكثير، من وقتي وجهدي وتفكيري، خصوصًا وأنا أحاول أن أجد المبرّرات في أن ما فعلت كان ينبغي أن يكون، وأن أقنع نفسي أنني بالتنازل أكون شخصًا جيدًا وغير أنانيّ. أكره أن أكون أنانيّة، ولكنني أشعر أنّه في هذه المرحلة بالذات أحتاج أن أفكّر في نفسي قليلًا، أن أفهم ما يدور داخلها، ومن ثمّ أستطيع -بعد أن أجد ما أتكئ عليه- أن أقدم التنازلات، وأن أكون متكّأً للآخرين حتى يجدوا متكّأهم كما وجدت أنا. عندما يسقط جسدي ويصبح غير قادر على الحراك أكثر، كما يفعل الآن، أدرك بوضوح كم جعلته يتحرّك فيما لا ينبغي، أو فيما هو غير حقيقيّ، أو أنني حمّلته أكثر ممّا يطيق، فيما لا أريد، وأنه كان من المفترض أن أوجّه طاقتي فيما أشعر أنني أريد فعله حقًا. أفتقد أختي كثيرًا. أكثر مما أطيق. أفتقد وقتي الخاصّ. كثيرًا. أشعر أنه ينبغي أن أعيش وحدي في الفترة القادمة، في الشهر القادم، حاجّة ماسّة لا يغني عنها أي شيء آخر. أشعر رغم ذلك أنني بحاجة للكلام مع عاقل، لا يملك وصاية أبويّة عليّ، ولا يزيد عمره عن الخامسة والثلاثين، أو من الممكن أن يزيد بشرط أن لا يشعرني أنني طفلة، وأنه يكبرني ويعرف الكثير مما لا أعرفه، لذا أنا أشعر بما أشعر، وأن يكون ردّه الوحيد على تساؤلاتي هو أنني سوف أفهم مع الوقت، دون أن يساعدني على أن أفعل. أشعر أنني أريد أن أكمل العمل على مشروعي. أشعر أنني أريد أن أقضي كل وقتي في شيء ذو معنى، كل وقتي، ولا أبالي، مهما كان ذلك مجهدًا. أشعر أن فكرة الجامعة تزيد مرضي وتجعلني أريد أن أتقيّأ. لا أشفق على شيء في نفسي سوى اضطراري للذهاب إلى تلك الحمقاء الفارغة؛ الجامعة. أتناساها عمدًا كلما سألني أحد عنها، كلّما يصلني على بريدي شيء منها، ولا أستطيع أن أنسى. أخاف مجيئها، والوقت يمضي رغمًا عنّي. أشعر أن أهم شيء أفعله في حياتي الآن هو أن أجد مخرجًا يجعلني لا أذهب إليها. ذكراها تجعلني أشعر بهمّ يخرّب عليّ كل محاولات السعادة والاسترخاء، هي الخطر القادم ولا شيء غيرها. حياتي كانت لتكون جيدّة جدًا لو كنت لا أدرس، أو لنقل، لو كنت أدرس في مكان أفضل. كم أتوق إلى الدراسة في مكان أفضل، ليس للحصول على شهادة أفضل، ولا لأن أذهب إلى حرم جامعيّ أرحب، ولكن حتى أعيش بشكل حقيقيّ أكثر، يحترمني، يحترم أن أسأل، يحترم أن أبحث عن المعلومة الحقيقيّة، ولا يضطرني إلى اعتلاف المعلومات في وقت قصير ليس لشيء إلا لأفرّغها. أريد أن أذهب إلى مكان لا أشعر حينما أذهب إليه أنني بهيمة تعتلف ثم تقضي حاجتها. هذا الشعور هو أسوأ شعور يمكن أن أشعر به في حياتي. أكره ذلك. أكرهه بشدّة، أكثر من أيّ شيء. تلك الجامعة زائفة كلها، تافهة كلها، خرقاء كلها، والكل فيها أخرق، والكلّ فيها زائف جدًا، جدًا، أعني: جدًا. لن تصدّقوني ما لم تجرّبوا. لا يعنيني فيها شيء، وأنا لا أعنيها. أكرهها بكل ما أوتيت من طاقة للكره. وأكره كل ما يشبهها، وكلّ من يريد أن يقنعني بأنّ فيها ما يستحق الذهاب والمحاولة، لأنني حاولت خلال سنتين، وأشعر أنني أضعت وقتي. أنا قد أضعته فعلًا. أشعر بالجوع، بطني تؤلمني لفرط ما أنا جائعة، ولكن ذلك لا يهمّني. مستعدّة لأن أشعر بالجوع طيلة عمري إن كنت أفعل ما هو أهمّ. النوم لا يعنيني، والأكل لا يعنيني، والكلّ يعرف ذلك، لأنني أتوق لما هو أكثر، لما هو أسمى. لا الملابس ولا الحقائب ولا الأحذيّة. أريد أن أبدو جميلة دائمًا، بشكل بسيط ونظيف وهادئ. بالبساطة وحدها. أريد أن أبدو جميلة بطريقة حقيقيّة، والقليل من المكياج لا يضرّ. أحبّ في المرض أنّه يشعرني بالخفّة رغم الثقل.. ثقل الجسد وخفّة الأغشية التي أرى بها الأشياء. ثقل الرأس وخفّة الأفكار، سرعة تدفّقها، وضوحها.. ورغبتي الحقيقيّة في كل ما هو حقيقيّ. أشعر أن جسدي حين يثقل، تثقل معه رغبتي في كل ما هو أرضيّ، فتظهر رغبتي بكلّ ماهو سامٍ عنه جليّة واضحة. أشعر أنني حين المرض أعرف ما أريد حقًا. وحين السفر كذلك. حينما أبتعد، أرى الصورة واضحة. حينما أكون هناك، حيث أكون دائمًا، أشعر أن كل ما أريده هو أن أبتعد، وهذا ليس حقيقيّ. حينما تصل إلى أقصى ما ظننت أنك تريده، تستطيع أن تنظر إلى الخلف، ترى ما فعلت، ثم تحدد ما تريد حقًا. الرغبة في السفر تكون ملحّة حينما يبدو كلّ شيء مضجرًا، وأشعر أنها منفذي الوحيد. حينما أفعل، لا توجد عندي رغبة أبعد، لا أشعر أن البعد حل، أفهم أن فيه لا يكمن الحلّ، وأستطيع بعدها أن أراجع أموري بوعي أكبر، دونما رغبة في الهرب، لأنني في صلب الهرب. أنا قد هربت، وليس بعد الهرب إلّا العودة. بالهرب أستطيع أن أعود إلى مكان جديد دائمًا، يقترب من مكاني القديم ولا يكون هو بالضرورة. في كل بُعدٍ فرصة للعودة إلى مكان جديد. وإن عدت إلى نفس المكان، فستعود بروح جديدة، وأنت تنظر إلى الأشياء بطريقة مختلفة، فلا يعود المكانُ هو المكان بالنسبة إليك، وهذا هو المهمّ. أن تتغيّر أنت فيتغيّر هو. لا أستطيع أن أقول أنني بهذا السفر هربت، ولا أستطيع أن أقول أنّه غيّر فيّ شيئًا، ولكن حصل وأن سافرت، وحصل وأن ابتعدت، وذلك بحدّ ذاته شيءٌ.. ما. أريد أن أ ع و د. ولكن لا أريد أن أعود إن لم تحصل الأشياء التي أريد لها أن تحصل. في الواقع، أريد أن أعود في كل الأحوال. ليس في كل الأحوال بمعنى (كل الأحوال) ولكنّي أريد أن أعود، بصدق. لأوّل مرّة أشعر أنني أهرب دونما رغبة في الهرب. رغبت بالهرب، ورغبت بالبعد والتغيير، ولكن ليس في هذا الوقت بالذات، ولا بهذه الطريقة. حصل وأن حدث، حاولت أن أتقمّص دور الهارب، ولكنّها تأبى أن (تزبط معي). هذه الحياة فوضى، كلّها. هذه الحياة عبث. تحصل الأشياء حينما لا نريد لها أن تفعل، وحينما نريد ذلك بقوّة، تصمد صمود الجبال، ويستحيل حراكها. الانسجام مع حركاتها الغريبة متعب، متعب جدًا، وكثير على متعبة مريضة مثلي، كما هو متعب أن ترحل أختي. أفتقدها بجنون. الحياة تحصل، وأجدني في كل مرحلة فيها رغم ضوضائها وازدحام الأحادث فيها- أشتاق أختي. لا يجوز للحياة أن تمضي وأختي ليست موجودة بجانبي، أختي التي ولدتُ وهي موجودة دائمًا. لا يجوز ذلك! ربما لو عادت أختي لكان كلّ شيء على ما يرام، ربما ذهاب أختي هو سبب كل هذه الفوضى. لا أعلم. أنا أشتاقها وحسب. هذا يكفي على ما أظنّ، أشعر بالراحة لأنني كتبت بعد شهر لم أستطع فيه أن أكتب كلمة واحدة مفهومة، ولم أتكلّم فيه مع أختي بشكل كافٍ. الكلام علاج، وتدفّق الأفكار على شكل كلمات، لسبب ما، يجعل التنفّس أكثر سلاسة. أتعلمون؟ أشعر أنني أريد أن آكل الآن. وأنني قادرة على المشي، وأن رأسي أخفّ. 

هناك 3 تعليقات:

  1. لااعلم مالذي جعلني اقرا مدوناتك
    ومالذي جعلني اهتم لقرائتها
    ومالذي اوصلني لها من الاساس!
    لااعلم من انتي وماتكوني واي عالم انتي!
    لااعلم لما اقوم بارسال تعليق لكِ!
    لااعلم لما اشعر بقليل من الاهتمام تجاه عالمك!
    نعم لااعلم! ولكن ...
    هنيئا لكِ روحك الحية، حبك للحياة
    هنيئا لكِ الالم والمعاناة!
    هنيئا لكِ حب الله الذي اصطفاكِ وجذبك بعنايته وعنايته تطير الصواب ..
    في وسط المعاناة توجد السكينة ويوجد نور الله هنيئا لك قلبك
    اعدك اني ساتابع كتاباتك بين الفينة والاخرى علها تفيدني وعلي اجد فيها مايروي عطشي ...
    انسان بن انسان بن ادم

    ردحذف
  2. كنت أقسم في قلبي أنني سأظلّ وحيدة في هذا العالم الوهميّ ما دمت لا أجرأ على أن أنشر شيئًا، وأنه ينبغي أن أكفّ عن هذا الهذيان، ثم كان ما كتبت. :)
    ممتنّة لحسن ظنك، وأتمنى أن أكون عنده دائًما. كم هو جميل أن يصل صوتي وشعوري إلى من لا أعرف ولم أتوقع، وأن يكون له صدى، وأن يكون صداه حنونًا بهذه الطريقة. ممتنّة جدًا

    ردحذف
  3. اسمحيلي ان ادعوك ب "صديقتي"
    ياصديقتي ان اسمك علياء فلاتقولي لاأجرأ ... فالانسان يعيش اسمه واسمه يعيشه
    ثم كلا ليس هذيان !
    قال لي صديقي الذي سكن قلبي وقلما يسكن الاصدقاء قلبي ..
    "الكتابة ياصاحبي بتفتح ابواب الكتابة طبقات وعوالم الطبقة الاولى سطحية والطبقة الثانية عميقة والطبقة الثالثة روحية ، وطول ماتمارس الكتابة راح تلاحظ انك بتدخل في الطبقة الثالثة وتغرف غرفة وتخرج"
    للاسف لست بالكاتب الماهر مثلك " ماشاء الله"
    ولكن قلمي به روح .. وقليله هي كتاباتي :(
    وان كتبت فاكتب عني،التي ماطفقت ابحث عنها الا واكتشفت كهفا جديدا من كهوفها واصبحت في الاادريائية مره اخرى!
    ياصديقتي كتاباتك ليست لاحد كتاباتك لنفسك.. لروحك.. لربك!
    فالكتابة عبادة بعد كل شيء!
    ومانزلت (اقرا) الا بعد ماكان للقلم ان يكون ويكتب!
    اتمنى ان تستمري لاني اجد في كتاباتك مايعبر عني!
    وربما لو قراتيها مجددا بعمق لوجدتي بضع غرسات من روحك تتحدث إليك!
    شكرا لك ، صديقك الانسان

    ردحذف