الأربعاء، 17 أغسطس 2016

عن زيارة بين غيابين

جاءت، وأنا لست متأكدة من أنّه كان ينبغي عليّ أن أعرض عليها عرضًا كهذا منذ البداية. سألتها إن كان الغد مناسبًا وأجابت بلا، عرضت عليها أن نخرج بعد العشاء سويّة، حتى لا يتركّز الموضوع كله في الجلوس في المنزل، ولم تنجح الفكرة لأنّ سائقي مسافر وسائقها مشغول، فقرارتنا نحن الإناث الملكات في هذه البلد تتحكّم فيها أوضاع السائق طبعًا. لست ممّن تريحهم فكرة مجيء الأصدقاء، أحبّها وأرغب بها دائمًا، ولا أرتاح لها لأسباب كثيرة، بقدر ما أجد الأمر ممتعًا حينما يحصل. لم أتعوّد على أن أدعوهم، كانت أختي.. أختي التي ذهبت، كانت هي تفعل دائمًا، وكنت أجد ذلك ممتعًا كفاية، وأنّه يكفيني أن أستقبل صديقات أختي، وأنّ ذلك أقصى ما يمكن أن يحدث. يحصل دائمًا أن تزورني صديقة الطفولة والمدرسة والجامعة، تلك التي كانت تدخل غرفتي، وتوقظني، ثم تنتظرني حتى أتجهّز، ثم نمضي بسيّارتها إلى المدرسة سويّة.. وما يفوق ذلك بكثير. يحصل أن يحدث ذلك من أشخاص محدودين جدًا، أعدّهم من أفراد العائلة، ولكنّ الأمر تقريبًا يقف عند ذاك الحدّ، وغيره معدود ومحدود.

جاءت، وكنت أخاف أن يبدو الأمر أخرقًا، ويكون الذي بيننا مفتعلًا، ويكون اللقاء رسميًّا "رسميّةَ الأصدقاء القدامى الذين ما عاد يربط بينهم سوى الماضي"، نظرًا للفترة الزمنية العظيمة التي فرّقت بيننا، والمسافات الشاسعة.. ثلاث سنوات كاملات، حصل فيها ما حصل، كبرنا فيها كثيرًا، وتغيرت فيها أفكار وقناعات، آلام وأفراح وتجارب وخيبات مررنا بها ولم نتشاركها. كنت أخاف الفجوة العظيمة التي بيننا، كيف نردمها في بضع ساعات ونفتعل عدم وجودها؟ 

دخلَت، فأشرت إلى دراجتي ببلاهة أن هيّا نلعب بها خارج المنزل سويّة، فأخبرتني بسخريتها المعهودة: سوف يكون ساذجًا أن تركبيها وأتفرّج عليكِ، ثم أركب وتتفرّجين عليّ، فلا تكاد الأولى تلحق بالأخرى، ولا نكاد نرى بعضنا أو نتبادل أيّ حديث. ضحكنا، وكانت محقّة. خرجنا نمشي تحت شمس العصر الحارّة وهي في أحسن حالاتها، مشينا، وتكلمّنا كثيرًا وضحكنا، اعترضتنا البقالة فدخلنا، واشتريتُ أنا أشياء غير صحيّة، ولم تشترِ هي إلًا عصيرًا غازيًا. عند ثلاجة العصيرات سألتني: ألا تريدين أن تشتري عصيرًا؟ أجبتها: أنا من النوع الذي لا يشرب العصيرات، رغم أن الكلّ يفعل، مثلما أنني لا أعرف كيف أسمع الأغاني بالسماعات في كل مكان كما يفعل الكل. أشرب العصير وقت الغداء فقط، وأسمع الأغاني حينما أجلس على لابتوبّي فقط. ضحكت ووصمتني بالغباء، وأنه كان عليّ أن أعمل في إعداد "الرابط العجيب" في سبيستون لأنّ ربطي ليس ذو معنى. ضحكت.. لا زلت أجده ربطًا موفقًا ومنطقيًا ذو! (though)

أكملنا المشي. كانت تمشي في الجهة المعاكسة لنا فتاة ترتدي نظارة شمسيّة، قالت: أوه، هذه الفتاة تبدو مثلنا، تمشي على غير هدى لمجرّد أن تمشي، وأشارت لها بيدها ببلاهة ظانّة أنها لا تزال هناك، في كندا، حيث يشير المارّون إلى بعضهم دون تحفظات، فقابلتها الفتاة بتكشيرة الـ"ما أعرفك خير؟"، فضحكتُ وقلت لها مثل كل السعوديين الكذّابين: أعرفها ولا أظنّ أنها تعرفني. أكملنا المشي حتى وصلنا إلى بقعتي المفضّلة، حيث المراجيح النائية التي تحفها الأشجار من كل جانب. تمرجحنا وأكملنا الحديث والضحك. سألتها أن كيف قضيتِ إجازتك؟ فأجابت بأنها تقابل أناسًا كل يوم صبحًا ومساء، وأنه ما حصل أن كان هناك وقت لم يشغله شخص أو لقاء. تعجّبت في داخلي، أليست هذه التي كانت تتهرّب من النّاس أيًّا كانوا؟ أليست هي من كانت تصدّ من يريد لقاءها؟ لغد تغيّرت فعلًا! أخبرتني حينها بمن قابلت ومن ستقابل، واطمأننت لأنني أعرفهم كلّهم تقريبًا، وأنني لا زلت "على الخط". استعدنا ذكريات المدرسة المجنونة، وغير المدرسة، والنوادي التي انضممنا إليها، والمشاريع التي عملنا عليها معًا، وتحدثنا عن العائلة والأصدقاء المشتركين، عن إخوتنا وأخواتنا، وغيرهم.

في طريق العودة، قلت لها: لقد تغيرتِ فعلًا. قالت: كبرنا، هذا ما حصل. ثمّ أخبرتني في خضمّ الكلام: بصراحة، أنت تدورين في دوائر. تتشبّثين بالفكرة، ثم تتركيهنا، ثم تضطركِ الحياة أن تعودي إليها، ثم تتركينها لتعودي إليها، وهكذا. وعقّبَت: طبعًا لا أعني ذلك بشكل سلبيّ! ضحكت ضحكة العارف.. نعم أنا كذلك، ولكن ليس بالضبط. أدور في دوائر ولكن.. أظنّها تتسع كل مرة، وعندما أعود للفكرة أعود لها بزيادات وإضافات وتعديلات، ربما أنا أدور ولكن ليس في دوائر؛ في حلزون،، فهزّت رأسها موافقة.

عدنا، وشربنا القهوة، وأكلنا من الكعكة التي أعددتها بيديّ -لأوّل مرة بعدما غادرت أختي تُعَدّ هذه الكعكة في المنزل، كانت هي دائمًا من يعدّها-. لوّنّا وتكلمنا كثيرًا، وضحكنا طبعًا. تكلمنا عن الجامعة، وعندما كانت تحكي عن أستاذها "الرهيب" وجامعتها التي لا تقبل فيها سوى النخب، كنت أبكي من خلف النّظارة، وأدعو في سرّي: يا ربّ كل ما أريده هو أستاذ واحد جيّد. حكت لي عن المشاريع المجنونة التي يخرج بها الطلاب في جامعتها، ولم تبدُ راضية عن ذلك رغم كل ما كانت تقول، كنت أقول لها: كل ما أتمنّاه هو جامعة تستفزّني وتحثني على المزيد من العمل! كل ما أتمنّاه هو المساحة الحرّة التي يعطونكم إياها هناك. أجابت: نعم هناك مساحة واسعة للإبداع، ولكن ليس الأمر كما تظنّين. في جامعتنا قولبة من نوع آخر، حيث يترك الكل لعمل ما يريدون، لكن أصحاب المشاريع المجنونة بشكل واضح يكون لهم اهتمام خاص، وعلى ذاك المعيار (الجنون) يقاس الإبداع، فيصير الكلّ يعمد إلى إضافة شيء من الجنون حتى ينال المشروع على إعجاب الأساتذة والطلبة، ويحصل على الدرجة المناسبة. ففهمت، ووافقتها في ذلك.

تكلمنا عن الأديان والعدل الإلهيّ والصداقات، عمّا ينبغي ومالا ينبغي، عن أصل الأشياء، عن المنظومة الأخلاقيّة التي تحكم أفعالنا، عن مركزيّة الإسلام أو لا مركزيّته، اختلفنا وتعالت أصواتنا وضحكنا رغم كلّ شيء، وأكملنا تلوين اللوحة. كنت أذهب وأعود فأجدها تباغتني بأن تكمل الحديث السابق بفكرة جديدة من الواضح أنها أحكمت إعدادها في غيابي، فأشير عليها ساخرة: كنتِ تفكّرين في غيابي برد جديد هاه؟ تجيب: أجزم أنكِ كنتِ تفعلين ذات شيء. وكنت أفعل. وضحكنا. استمعنا إلى عدّة أغان ونحن نلوّن، ولأنّ ذوقها عجيب جدًا، أخبرتني أن أخاها يقول: يتزوّج المرء ممّن ينسجم مع ذوقه الموسيقيّ، وأنّه يتساءل عن ماهيّة من سيكون. ولفرط ما اندمجنا في الحديث، نسيت أن أحضّر الشّاي بإحدى الزهورات الكثيرة التي اشتريتها خلال السفر، ونسيت أن أقدّم ما اشتريته أو أعددته لأجلها من الأساس. كنّا منسجمتين جدًا حد الصرااااااااخ، والضحك، والصراخ المشوّب بالضحك. كانت كلمة "لا تسارعي بالحكم" سيدة النقاش، وأساس الاعتراضات والمقاطعات، فكلتينا تظنّ أنها تلمّ بحياة الأخرى من كلّ جوانبها، وأنها تفهم ما يتبادر إلى ذهن الأخرى قبل أن تقوله بغرور غريب رغم الغياب الفاحش الذي حال بيننا. دائمًا ما كانت تواجهنا مشكلة الكهرباء هذه في الماضي، فنحن نتشابه كثيرًا فنحتدّ كثيرًًا، ولكن هذه المرّة كنا ناضجنتين جدًا للدرجة التي وجدنا فيها نقاشاتنا التي تعلو فيها الأصوات أمرًا مضحكًا، وأنّ هذا الحماس صحّي وجميل وحميميّ.

قبل أن تذهب، أخبرتها أنه من الصعب أن تذهب مرة أخرى بعدما عادت وأحببت أنها عادت. ربما كان من الأفضل أن لا تأتي، وأن لا أتذكّر أن قربها مضحك ومنعش لهذه الدرجة. كان الوداع سريعًا، هي تكره الوداع، وأنا أكرهه أكثر. عند عتبة الباب أخبرتني: كنت أحسب أننا لن نعود كما كنّا بعد الفراق الطويل الذي حصل، وهززتُ رأسي. ثم أخبرتها: أحبك رغم المضاربات. حضنتني حضن "أبو شيلة" وهي وحدها من تفعل، وذهبت كما يذهب الغائبون، مرّة أخرى، كما ذهبت أختي، كما ذهبت ابنة عمتي، كما ذهبت صديقتي، كما ذهبت ابنة خالتي.. انضمّت إلى حزب الذاهبين إلى تلك الكندا المقيتة، لأكرهها أكثر. كنت أبتسم حتى اليوم التالي وأنا أسرد الأحاديث التي مضت، بكل ما حملته من سخرية وأفكار تستحقّ المراجعة وإعادة النظر. هي من ذاك النوع الذي إذا تكلّمت معه فأنت تخرج من الجلسة لست كالذي كنت سابقًا. يحصل وأن يهتزّ شيء هناك، بداخلك، ينعشك ويحثّك على المزيد من البحث. سأفتقدها مجددًا، وآمل أن لا يكون الفراق القادم يوازي الأوّل في طوله، فأنا، كما تعلمون، ما عدت أطيق فراقًا آخر. 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق