الثلاثاء، 6 ديسمبر 2016

تيه وغربة

تائهة من جديد.. ظننت بعد كل الذي حصل، بعد كل العزلة ومحاولات التعافي، بعد الأشياء التي تركتها والأشياء التي بدأتها،، أنني عدت، وما عدت. لا أعلم إن كنت في مرحلة انتقالية أم أنني أتردّى يومًا بعد يوم. جاءت أختي ورحلت، وما بكيت إلا دمعةً أو دمعتين. ما عاد شيء يهمّ حقًا، ولا أعرف لم لا أجد في الأمر سلوى. لطالما تمنّيت أن تمرّ الأشياء عليّ بهذه الخفّة، لا يرهقني حملها في قلبي ولا يدميه انتزاعها عندما يأتي وقت الرحيل. لا شيء أريده كما أريد أن تحصل الأشياء عادةً، إلا بعض أحلام لا أخطئ في رغبتي بها مهما حصل. صرت أصمت كثيرًا، أكثر مما ينبغي، في الوقت الذي ينبغي أن أصدر فيه انفعالًا ما. لا أعلم ما الذي حصل، ولا كيف وصلت إلى هذا الذي وصلت إليه. لا أعلم إن كنت أرغب بذلك أم أنني لست إلا نسخة رديئة أخرى مني معدومة الرغبات والانفعالات، قتلتها الأحلام التي رغبت بها بشدّة وما حصلت، ومات شيء فيها من فرط ما كانت تجري بأقصى سرعتها في كل اتجاه وتصطدم كلّ مرّة، كلّ مرّة، بجدار صامد. 

لا أعرف أين يكمن الخطأ بالضبط. فعلت الأشياء التي ينبغي أن أفعلها، جربت أكثر من طريق، ولم يمتلئ ذاك الجزء الفارغ داخلي. دائمًا هناك شيء ناقص، ومع مضيّ الوقت صرت أفقد شعوري الحادّ بالنواقص ومواطن الألم، دخل الكل في الكل، الإحساس ضبابيّ وأنا ما عادت فيّ قوّة لتحرّيات دقيقة عن كل صادرة وواردة في ذاك القلب، وذاك الشعور.

بكيت بالأمس، بكيت قليلًا، أقلّ من العادة، وأنا أستعيد أشواق الحياة التي أودّ أن أعيش، في ظلّ جوّ تعليميّ يحترمني ولا يحفني بالكره وتكميم الأفواه. ولكنّني بكيت، وسعدت لذلك. لا زال فيّ شيء ينبض بالحياة، والرغبة بالحياة.

بعد نوبة البكاء الخفيفة، بدأت كتابًا عظيمًا اسمه "فكرة العدالة" لـ أمارتيا سن، سعدت به جدًا، وكان له الفضل في إسكاتي. اشتريته مصادفة من معرض كتاب جدّة العام الماضي وأنا ألتقف كلّ ما يحوي كلمة "عدالة" حتى أستعين به في بحثي، وأغراني ارتفاع ثمنه رغم صغر حجمه. أخبرني صاحب المحلّ عندما رآني أقلب صفحاته أنه كتاب عظيم. صدّقته واشتريته. لا أعرف متى كانت المرّة الأخيرة التي قرأت فيها شيئًا شعرت معه وأنا أقرأ بخلايا دماغي تتفتّح وتزهر. أحضرت القلم وشرعت بالتلخيص وأنا أكفكف دموعي. آه.. كم أتوق لحياة تحفل بهذا النوع من الأفكار، أفكار تتطاير في كل جانب، حيث يدلي الكلّ بدلوه، وأدلي أنا، أو أستمع إليهم صامتة مبتسمة. العالم يمضي والحياة تمضي وأنا هنا حبيسة عالم خانق يحرم فيه التفكير، ويُنبذ فيه أصحابه.

اعتزال مواقع التواصل الاجتماعي كان مفيدًا في البداية، أظنه يظلّ كذلك. انغمست في أعمال كثيرة وكنت بحاجة لأن أكون في منأى عن المشتتات.. دفعتني للقرار مايا التي اعتزلت كلّ شيء عندما هربت إلى تشيلوي، وعزمت على الأمر من بعدها. عدت اليوم، ولم أشعر أن الأمر مثير للعودة بأي شكل. يروقني أن أظلّ صامتة بينما الكل يصرخ. ما عاد شيء أو مقال أو فيديو يثير فيّ الفضول. العالم مكان مزعج وغير عادل، وكلّ خبر لا يهمّ ما دام الأبرياء لا يزالون يقتلون في حلب، واليمن، وسجون مصر، و..

أبدأ شيئًا جديدًا وأنا لست متأكدة من أنني أريد الإقدام عليه. لا زالت هناك أمور تحتاج أن تستقرّ، ما زالت هناك كتب أودّ أن أقرأها، فيديوهات وأفلام أودّ أن أشاهدها، أناس أودّ أن أراهم، أشياء أودّ أن أتعلمها.. فعلت وأقدمت على جديد سوف يحتلّ مساحة من قلبي وعقلي وراحتي والكثير من وقتي، كسابقه، ولا يثير ذلك فيّ أيّة حماسة. لا أعلم لم لا أشعر برعشة البدايات عندما يكون الأمر إقدامًا على إنجاز جديد. كلّ ما أشعر به هو الثقل، والرغبة بالهروب. أريد أن أهرب! الآن!

عندما صارت حياتي تتمحور بشكل أساسيّ على عدة أشياء تتطلب مني الذهاب والإياب وإجراء المكالمات الكثيرة، صار عالمي الداخليّ غريبًا عليّ.. صرت لا أفهم أشياء كثيرة تصدر أو لا تصدر منّي. لم أعد أعرف ما أريد بالضبط، بعد أن كان الأمر لا يصعب عليّ تمييزه. تكونت الكثير من العقد الجديدة التي لم يسنح لي الوقت فرصة أن أتعرف عليها، هجرت وقتي الخاصّ، الكثير منه، صار ينصبّ جلّه في التفكير والتخطيط والتفكير والمكالمات التي لا تنتهي. لا يروقني الأمر. يروقني بعض الشيء، ولكنّ الوضع برمّته غريب عليّ، أو أنا غريبة عليه. أريد أن أعود إلى حيث كان الاختباء يسيرًا، عندما كنت هباءة لا يعرفها أحد، أنزل أمشي عصرًا ووجهي مختبئ في الكتاب، أعيد قراءة القطعة مرّة بعد مرّة وأذوب في النصّ: أنا، والنصّ، والسّماء فوقي كمساحة للتأمّل. السماء كانت منفذي، والمكان كلّه ملكي. لم أترك عادة المشي العصريّة ولكن كلّ شيء تغيّر. ما عدت أشتهي تصوير أيّ شيء، كل الأشياء سواء، كلّ النباتات سواء، كلّ ما يشغل بالي هو الخوف من أن يخرج حيوان فجأة من مكان ما، أحفظ المشاة كلّهم لأنني صرت أتفرّسهم كما لم أكن أفعل قبلًا. ما عدت أشتهي أن أشتري الآيسكريم من ريالات أخبئها في بطن الكتاب.. ما عدت أطيق الجلوس في الحرّ لأستمتع بالقراءة مع الآيسكريم تحت تلك الشجرة، فوق ذاك الكرسيّ المرتفع، رغم أنّ الجوّ حلو هذه الأيّام. كلّ شيء صار.. مختلفًا. صرت أذهب هناك لأجعل الضوضاء تخرس قليلًا، لأدعها تتسرّب. أنظر للأشياء بعين مهمومة، وأمنّي نفسي أن تكون الحياة وفّرت لي الخيار الذي أحلم به. أشتم نفسي في سرّي لأنني لا أكفّ عن ذات الأمنية كلّ مرّة، كلّ يوم، وأودّ لمرّة واحدة أن تحبّ هذه الخرقاء الحياة الجديدة التي وضعت نفسها فيها وأبلت فيها حسنًا، وكانت تملي على نفسها من قبل أنه ينبغي أن تجري الأمور بهذه الطريقة. عنيدة، خرقاء، ومدلّلة. 

هل ينبغي أن أكون هباءة لا مرئيّة، بشكل يشبه حجمي الحقيقي، وقوّتي الحقيقيّة، ومكانتي الحقيقيّة في عالم واسع شاسع؟ أم أنّ "فيّ ينطوي العالم الأكبر"، والكون كلّه من الممكن أن ينصاع لي لو أنني أردت حصول شيء ما بقوّة؟

أين أنا؟ من أنا؟ هو آم آي؟ (على لسان جان فالجان في فيلم البؤساء)

يقول ديستوفيسكي؛ أحيانًا لا تترك لنا الحياة خيارًا إلا أن نكون جديرين بآلامنا. أتساءل كيف يمكن لي أن أكون جديرة بآلامي، آلامي الحقيرة التي لا تفتأ تنهش فيّ، مهما بلغت منّي اللامبالاة مبلغها. حقيرة نعم، ولو أنني أدين لها، قليلًا، لأنها تذكرني أنني ما زلت على قيد الحياة، وأنني "ما متّ بعد، لم يزل في أضلعي برق ورعدُ". أكره أن أتألم، أحب أن أحيا، والألم كل الألم هو ما يسلب منّي حقي في الحياة. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق