الأربعاء، 12 أبريل 2017

محاولات للتّفسير

أشعر بفراغ غريب، غريب ليس لأنّني لا أفقه كنهه، ولكن ربّما تكون هذه هي المرّة الأولى الّتي أشعر فيها بهذا النوع من الفراغ. أشعر بالغربة، غربة جديدة تختلف عن تلك المتأصّلة في جيناتي. تزعجني، ولكنّي أظنّ أنّها عابرة، وهذا ما يجعلني لا أتوتّر حيالها، ولا أسائل وجودها وأسبابها بالطّريقة الّتي أقوم بها عادة. 

لطالما كانت عندي قناعة ما أؤمن بها، ويدور توتّري الأكبر حولها.. ذلك التوتّر الّذي أنام وأصحو عليه، وأناقش أمره مع كلّ شخص حكيم أقابله-، إلّا أنّني الآن مرتخية بخصوص كلّ شيء، وهذا غريب عليّ. لا أمر يشغلني حدّ التوترّ المرّ ذاك، لا شيء يجعلني أحترق.. لا الجامعة ولا مشاكل النّساء ولا الأحكام الفقهيّة الّتي لا أفهمها، كلّ شيء صار يمكن أن يتوقّف عند حدّ ما، أتركه عنده وأعود إليه وقتما أريد. ما عاد شيء يلازمني، ما عادت تلك الأفكار المزعجة تلازمني، ورغم أنّ ذلك يريحني، إلّا أنّني لا أشعر أنّه صائب تمامًا، ليس لأنّ التّوتّر أمر محمود، ولكن لأنّني أكثر خواءً ممّا ينبغي. صرت أسمح للأشياء أن تعبر دون مقاومة، وأشعر أنّ هنالك خطأ ما. لا أدري إن كانت جدّة الشّعور وغربته عليّ تجعلني أشعر بوجود خطأ، أم أنّ هنالك خطأ ما فعلًا. أحب أن تشغلني فكرة ما، أحبّ أن تستثار طاقتي بفعل فكرة، أن أسمو على حاجاتي الأساسيّة لأجل فكرة، أن لا آكل، أن لا أنام.. صار يندر أن تُسدّ شهيّتي. في العام الماضي وما يسبقه، كنت أعاني من انسداد الشّهيّة بمعدّل ثلاثة أيّام في الأسبوع تقريبًا بسبب التوتّر الفكريّ الّذي كنت أعيشه. أنا لا أرغب أن أعيش التوتّر مرّة أخرى إطلاقًا.. ولكن. أنا أفتقد شيئًا ما. أعلم ذلك، أوقن بذلك.

أشعر أنّه عابر لأنّني أخمّن أنّ هذا الخمول، أو هذه اللامبالاة، أو هذا النّضج الّذي يجعلني أسكن حيال كلّ شيء: مرحلة، المرحلة الّتي يصير كلّ شيء عندها صفرًا، ثمّ يتلوها بناء واندفاع،،

لنفسّر الأمر بطريقة إيجابيّة: كنت مندفعة بشكلّ طفوليّ، أرى العالم من زاوية ضيّقة، أُستثار بسرعة، لا أترك الأشياء تمضي دون أن أتّخذ موقفًا، لا أسمح للحوادث أن تكوّن صورًا كاملة حتّى أحكم عليها، وأنّني الآن..
أدركت أنّ الأمر ليس كذلك، صرت متّسعة أكثر، صار عندي سعة، صار الأفق أرحب، صار لا يتمّ الحكم على الأشياء بالضّرورة ساعة مرورها، صارت الأسئلة تُترك مفتوحة لإيماني بأنّ هناك جواب ما، وأنّه لا ينبغي أن يتجلّى في ذات اللّحظة الّتي يشعّ فيها السّؤال، وأنّه ما زال هناك متّسع من الوقت للإجابة عليها، وأنّ هناك أسئلة مضت قرون وقرون وهي على حالها، مفتوحة، دون جواب حاسم، وأنّ عُمُري ليس يعني شيئًا في عمر العالم حتّى أستطيع أنا أن أجد الإجابات الكاملة لأسئلة البشريّة جمعاء.

أشعر أنّ أمورًا كثيرة كانت تشوّب رأسي وتستهلك طاقتي بطريقة خاطئة، وأنّ جدرانًا كثيرة كانت مبنيّة هنا وهناك بشكل عشوائيّ، وأنّني الآن.. تخلصّت من الشّوائب، واستطعت أن أهدم الجدران، ولكنّي لم أوجد بديلًا بعد، البديل المناسب الّذي يملأ الفراغات، الفراغات الّتي خلّفها غياب تلك الأشياء المزعجة. كنت فيما مضى أفعل الأشياء بطريقة خاطئة، إلّا أنّه كانت هناك أشياء، أمّا الآن، فلا أشياء ولا طرق. تخلّصت من القديم دون أن أوجد بديلًا، والمشكلة هنا هي أنني صرت لا أرتضي أيّ بديل.. معاييري صارت أعلى. كلّ الأشياء الّتي كانت جديرة بالاهتمام ما عادت ولا مثيلاتها جديرات بالاهتمام عندي، صرت أوعى..
 ولكن هذا الفتور لا يعجبني. أريد بديلًا.

هناك بلادة، شيء مقتول، موت صغير، طبقة سوداء شفّافة تحدّ من لياقتي في التْعامل مع الأمور كلّها، وتجعل الوقت يمرّ بطيئًا ثقيلًا. صار وقتي الخاصّ أكثر ثقلًا عليّ. كان جلّ مناي هو أن أجلس وحيدة في المنزل مع كتبي وألواني ولابتوبّي، إلّا أنّ هذا الوقت، وإن كنتُ لا أفرّط فيه حتّى اليوم، ما عاد ممتعًا بالطّريقة الّتي كان عليها. لا أعرف كيف ينبغي أن أفسّر الأمر، ولكنّ هذا التغيّر يزعجني. في كلّ أمر جديد أهمّ بفعله صرت أشعر بحاجتي لوجود رفيق، شخص ما يساعدني على أن أمضي، أن أتّكأ عليه في حال وقعت.. ما عدتُ أثق إن كان بإمكاني أن أمضي في طريق جديد وحدي. لا أعرف إن كان هذا الشعور بشريّ وطبيعيّ، وأنّ المعادلة اختلّت من جهتي بعد رحيل أختي فصارت هذه الحاجة مبرّرة، أم أنّني صرت كائنًا بشريًا أكثر رداءة، أقلّ كثافة. في الأسبوع الماضي، قضيت إحدى أيّامه محفوفة بالحبّ، وبالكثير ممّن أحبّ، وبالأحاديث الّتي أحب.. ذلك النّوع النّادر الصّادق منها. بعد ذلك اليوم، صرت أشعر أنّ الحياة لن تكون ذات معنى دون التّواجد اليوميّ قرب من أحب، من أثق بهم ويثقون بيّ بذات الدّرجة، من لا أخاف أن تختلف أوجههم ما بين يوم وآخر، موقف وآخر.. وأنّني أعيش وحيدة أكثر ممّا ينبغي.

 عندما أكره أنّني ما عدت أشعر أنّني قادرة على المضيّ وحدي في هذا العالم، أتذكّر أن أكمل البشر كان برفقة الصّدّيق في رحلة الهجرة الأهمّ، وأن نبيّ الله موسى سأل الله رفقة أخيه في حمل همّ الدّعوة حتّى يشدّ أزره ويشاركه أمره، وأنّ حياة سيدنا الحبيب -عليه الصّلاة والسّلام- كانت كلّها رفقة وصحبة واجتماعات وجلسات، وأنّ شعوري بالحاجة هذا ليس أمرًا شاذًا جدًّا، وإن كان كذلك بالنّسبة إلى تاريخي العلاقاتيّ، وأنّه ربّما ينبغي أن أكفّ عن مقارنة نفسي بتلك الّتي مضت، لأنّها ليست المعيار الأمثل لكلّ ما ينبغي أن أكونه، وأنّ حياتي الآن أكثر تعقيدًا، وذلك ينبغي أن يوضع الحسبان، وأنّ بعض الموت يلازم الكبر. كلّ مافي الأمر هو أنّني أكره أن يتوقّف عزمي على وجود أحد، وأن يكون هذا الأحد لا معروف بالنسبة إليّ. أريد أن أمضي. أوجد لي الرّفقة المناسبة جدًا في المكان المناسب يا رب!

رغم أنّ هذه التّفسيرات تزيح جزءًا من الهمّ، إلّا أنّ هذا الفراغ الجديد الغريب لا يزال يزعجني. أشعر أنّ محيطي الّذي أكره في الجامعة استطاع أن يتوغّل فيّ بطريقة ما.. أنّ تلك البلادة المنتشرة في الأجواء تمكّنت منّي. صرت لا أكره الجامعة كما كنت أفعل عادة، أكرهها ولكن ليس بذات القدر، ما عاد الدّوام يشكّل فارقًا بالنسبة إليّ، ذهابي سواء بعدم ذهابي، وعدم ذهابي لا يجعلني أشعر بالرّغبة بالاحتفال. كنت أقاوم، صرت لا أفعل، وصار الأمر لا يعنيني من أساسه. ما عاد شيء يعني. ما عاد الأمر كلّه يعني. لا أعرف إن كنت سمَوْتُ على الأمر برمّته، وأنّني استطعت تجاوزه للتّفكير فيما هو أهمّ وأبعد، أم أنّني، ببساطة، صرت أكثر رداءة. مهلًا.. هل أنا أصلًا أفكّر فيما هو أهمّ وأبعد؟ أنا أتوق إلى ما هو أهمّ وأبعد، أعلم ذلك، ولكنّني لا أزال لا أعرف ما هو، ولا كيف سوف يحمله القدر إليّ. أريد ذلك الّذي هو أهمّ وأبعد، أريده بشدّة. أريد معنى، معنى حقيقيًا ينتشلني من حيث أنا، يشكّلني كيفما يتبدّى له، يجعلني عاملته المخلصة. أمتلك الكثير من الطّاقة، واستطعت الحفاظ على الكثير من الأمل، وحاولت جهدي أن أحوّل التّجارب المريرة إلى دروس أتعلّمها في الشيء المهمّ القادم الّذي.. لست. أعرف. ما. هو.


في الواقع، أنا لا أعرف شيئًا، ولستُ متأكّدة من أيّ شيء.
 كلّ ما أتمنّاه هو أنّ هذه المشاعر الغريبة الجديدة تنمّ عن نضج لا عن رداءة. أريد أن أكبر، لا أريد أن أتردّى.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق